الممنوعات اللبنانية على محطة «آرتيه»

«بيروت بالليل».. معركة مفتعلة حول فيلم متواضع

مشهد من الفيلم تظهر فيه الممثلة دارين حمزة
TT

وأخيرا شاهدنا فيلم «بيروت بالليل» لمخرجته دانيال عربيد، الذي منعته الرقابة اللبنانية، وسال حبر كثير دفاعا عنه وهجوما على الرقابة التي تمارس تعسفها على الفنانين، ووصايتها على أعمالهم.

تلفزيون «آرتيه» الفرنسي - الألماني، وهو الجهة المنتجة للفيلم، عرضه للمرة الأولى منذ نحو أسبوع، وسيعيد عرضه 3 مرات آخرها 4 فبراير (شباط) المقبل. بالطبع لم تنشب حرب أهلية في لبنان بعدُ بسبب هذا الفيلم. ولم تدخل الطوائف في حرب دموية بعد أن شاهدته، وهو ما تخوفت منه الرقابة، لكن منعه تسبب، على ما يبدو، بأكبر دعاية لفيلم متواضع من الصعب الدفاع عنه فنيا.

فقصة الفيلم تخلط بين البوليسي والتجسسي والعاطفي، في مزج يحاول أن يقدم عملا لبنانيا على الطريقة الأميركية، وبما يرضي الممول الفرنسي، فجاء الفيلم تنقصه القصة المتينة، والأداء المقنع، كما الأحداث الجذابة.

اعترضت الرقابة لأن أحد شخصيات الفيلم، ويدعى عباس، بما يوحي أنه شيعي بطبيعة الحال؛ حيث للأسماء في لبنان مدلولاتها المذهبية المتعارف عليها، يعرض على الفرنسي، الذي تعرفت عليه بطلة الفيلم وأحبته، أن يقدم معلومات يمتلكها عن مقتل رفيق الحريري تخص الانتحاري، سائق السيارة الـ«ميتسوبيشي» التي تسببت بالانفجار الكبير، مقابل أن تؤمن له السفارة الفرنسية فيزا للهروب إلى فرنسا. ويقول عباس حرفيا للمحامي الفرنسي: «عندي معلومات مهمة بدي بيعها للسفارة (الفرنسية)، معلومات عن مقتل الحريري. بعرف واحد بيعرف الكاميكاز يلي فجر الـ(ميتسوبيتشي)، وكان صديقا له». يمعن الفيلم في توجيه أصابع الاتهام إلى طائفة بعينها، حين يرينا عباس مع قريب له يوصله إلى بيته في الضاحية الجنوبية. أمر تحفظت عليه الرقابة؛ لأن المحكمة الدولية، كما هو معروف، اتهمت أربعة من المنخرطين في حزب الله وطلبت تسليمهم، مما أثار تشنجات كبيرة في لبنان وأشعل خطابا سياسيا له طابع مذهبي. ويأتي الفيلم ليأخذ المتفرج في هذا السياق الاتهامي المثير للخلافات. لكن الطريف في الفيلم أنه في النهاية يبرئ الرجل الشيعي، ويجعل منه ضحية لأجهزة مخابرات لبنانية متصارعة. أي أن الفيلم نفسه الذي تقول مخرجته إنها ترفض رفضا تاما الخضوع لأي رقابة مسبقة أو لاحقة لم تعف نفسها من الرقابة الذاتية في هذا المجال بالذات. والأكثر غرابة ألا تكون المخرجة، دانيال عربيد، قد توصلت إلى تسوية مع الجهاز الرقابي قبل تصوير الفيلم؛ لأن مجرد تغيير اسم عباس وإعطائه اسما حياديا، مثل رامي أو شادي، وتصوير مشهد قصير جدا في أي مكان تختاره من بيروت غير الضاحية الجنوبية كان كفيلا بأن ينهي الأزمة.

بكلام آخر: يشعر المتفرج أن كل قضية فيلم «بيروت بالليل» كانت مفتعلة، وأن تغييرات طفيفة جدا، لا تمس الجوهر على الإطلاق، كانت ستضع حدا لمعركة أرادتها المخرجة قضائية، معترضة على مبدأ الرقابة من أصله، وهذا شأن آخر؛ فإلغاء الرقابة بات مطلب الأغلبية الكاسحة من المثقفين والفنانين في لبنان، لكن ما دام هذا القانون المجحف لم تتم إزالته بعدُ، فإن الهيئة الرقابية لن يكون بمقدورها، في ظل التوازنات اللبنانية الهشة، أن تتهاون في إرضاء أي طائفة، وهذا بات معلوما لدى المخرجين.

ولمن لم يحضر الفيلم بعدُ، فهو يروي قصة زها (تؤدي الدول الممثلة دارين حمزة) المغنية اللبنانية التي تطرب في الليل رواد أحد الفنادق البيروتية، وهي على شفير طلاق مع زوجها المنفصلة عنه. وفي هذا الوقت الحرج من حياتها تلتقي زها بماثيو (شارل برلينغ) المحامي الفرنسي، الموجود في لبنان والمقيم في أحد الفنادق. وتعيش المغنية ليالي حمراء مع حبيبها الفرنسي الجديد، مما يشغل الكثير من المشاهد، لكنها في الوقت نفسه مطاردة من زوجها، بينما ماثيو مطارد من صديقه عباس (فادي أبي سمرا) الذي يريده أن يدبر له فيزا إلى فرنسا بأي طريقة، مدعيا أن بحوزته معلومات سيعطيها للسفارة الفرنسية في المقابل لو تأمن سفره. ولمزيد من البوليسية يتبين أن عم زها هو رئيس أحد أجهزة الاستخبارات اللبنانية المتصارعة مع جهاز استخباراتي لبناني آخر. ويبدو أن الجهازين على علم بوجود ماثيو الذي تحوم تهم، على الأرجح وهمية، عن كونه جاسوسا. وهكذا يبدو أن المطاردات بين أطراف مختلفة لا تنتهي بينما قصة الحب هي المحور.

الفيلم يتحدث عن مرحلة ما بعد مقتل رفيق الحريري، لكن كم الفوضى والتجاوزات والممارسات الميليشياوية التي تظهر في الفيلم توحي بأنه يعود إلى مرحلة الحرب الأهلية وليس بعدها. وتدافع المخرجة عن فيلمها، معتبرة أن من لا يتحدث عن هذا كله في لبنان يدفن رأسه في الرمال، لكن كمية هذه الممارسات الميليشياوية في الفيلم والطريقة التي أقحمت فيها لا تقنعان المتفرج بالضرورة بقدر ما تشعره بأنها حشرت في المشاهد بشكل كثيف ومفتعل وغير مبرر.

مشاكل الفيلم لم تبق في لبنان؛ إذ انسحبت عائلات عربية من الصالة أثناء عرضه ضمن مهرجان للفيلم الفرانكفوني في بلجيكا، بسبب المشاهد الجريئة المتكررة في الفيلم، دون أن يحدد مسبقا بأنه «للكبار فقط»، مما جعل بعض الأسر تأتي بأولادها الصغار على اعتبار أن الأفلام العربية لا تحوي مثل هذه المشاهد عادة. مخرجة الفيلم مصرة على أن لها مطلق الحرية في أن تفعل ما تشاء، لكن لا بد من تصنيف الفيلم على الأقل، وتوظيف المشاهد الجريئة بحيث تأتي في سياقها؛ إذ إنها كما ظهرت، ولو قيل إن الممثلة دارين أبو حمزة استعيض عنها بفرنسية بديلة لأداء الدور، أضعفت الفيلم بدلا من أن تدفع به إلى الأمام.