محمد جبر الحربي: أنا غريب كالمتنبي

الشاعر السعودي لـ «الشرق الأوسط» : الأوطان في عالمنا العربي أكفان ومقابر للمبدعين

محمد الحربي
TT

مع أن تجربته الشعرية تمتد لأكثر من ربع قرن من الزمان، فإن الشاعر السعودي محمد جبر الحربي ما يزال مثيرا للجدل. وهو يفسر ذلك بقوله: «صاحب قضية بل قضايا، أحب أمتي وأهلي، وأدافع عن هويتي ولغتي، والشاعر الذي لا يثير الجدل هو شاعر ميت بارد مستكين».

أصدر محمد جبر الحربي العديد من الدواوين الشعرية، منها «زمان العرب» و«وطن أم كفن؟» وله ديوان شعر يتزامن صدوره مع معرض الرياض القادم للكتاب تحت عنوان «جنان حنايا»، بجانب ديوان مخطوط «طفولة قلب»، وكتاب «ينابيع الذاكرة» وهو سيرة ثقافية، و«رسائل إلى أميركا» وهي رسائل نثرية محملة بالشعر، موجهة لـ«أعلام أميركيين» كما يقول.

«الشرق الأوسط» التقت الشاعر محمد جبر الحربي في العاصمة السعودية الرياض، وأجرت معه الحوار التالي:

* يرى بعض النقاد أنك ابتعدت عن الوضوح وعالم البسطاء ودخلت عالم الرمزية ودهاليز الغموض.. ماذا تقول؟

- على العكس تماما، لقد قتلني وضوحي، فقصيدتي في غاية الوضوح، لكنه ليس الوضوح العادي الرتيب البارد المعاد، وهي قصيدة من الناس بالناس للناس، لكنها مع شجرهم العالي، ونجوم أحلامهم وتوقهم، فهي عالية دانية، تستفز مداركهم، وتحفز وعيهم، وتقول لهم الذي لا يقولونه كل مرة، وهي في الغالب لا تعجب كتاب قصيدة النثر، والمنظرين لها.. ومن ناحية أخرى هي لا تعجب النظاميين الببغائيين، وهي بكل تأكيد لا تعجب الراكضين وراء سراب الغرب، المتملصين من قضايا أمتهم، ولي شرف كبير أنها لا تفعل.

* بعضهم يقولون إنك مثير للجدل.. لماذا هذا الاعتقاد؟

- كما قلت لك، لأنني صاحب قضية بل قضايا، أحب أمتي وأهلي، وأدافع عن هويتي ولغتي، والشاعر الذي لا يثير الجدل هو شاعر ميت بارد مستكين، وقد منحني ربي الشجاعة في الحق، وجعلني لسان صدق وحق وخير وحب وجمال، إضافة إلى أنني كاتب مقالة تعالج قضايا الثقافة والأدب، كما تعالج قضايا وطني وأمتي السياسية والاجتماعية، وأنا أكتب ذاتي لأصل للناس، ولا أكتب حسب التقليعات والموضات، أو إرضاء للمنظرين.

* أصدرت العديد من المجموعات الشعرية، مستخدما فيها أشكالا متنوعة؟.. كيف تنظر لتجربتك لحد الآن؟ والاستجابات النقدية عموما؟

- الشعر الجيد لا يتوارى أيا كان شكله، فالذي يتوارى هو حضور الشعر في الإعلام، بسبب مجموعة من محرري الثقافة الذين لا يعون، ولا يفهمون الشعر، ولا يميزون الشعر عن غيره من الفنون، وهذا مؤلم، وكثير منهم لا يكن ودا للهوية العربية وهذه مفارقة، أما القافية فحاضرة، والشعر العالي حاضر لمن يحبه ويبحث عنه، فالمسألة ليست مسألة أشكال، بل مسألة جودة وتجديد.

أما هل عبرت عن كل ما بداخلي أم لا؟ فـ«لا» كبيرة، وما زلت أستزيد، في عالم لا يتوقف عن التجدد والتجديد، ثم إننا في معركة طويلة لاستعادة أرضنا وحقوقنا، معركة في الداخل ضد التخلف والجهل والرتابة والروتين، ومعركة مع أعدائنا الذين يحاربوننا في السر والعلن، ويحاولون تفتتينا وإبقاءنا في الظلام، وهي معركة في النهاية لإثبات جدارتنا بالشمس.. وكذلك الأرض.

* سميت إحدى مجموعاتك بـ«زمان العرب».. لماذا هذا العنوان؟

- أنا عربي، ابن الجزيرة العربية، وابن الشعر العربي واللغة العربية العظيمة، لم آت من مقاهي باريس، أو لندن، وإن كنت عالمي الثقافة، فأنا ابن هذه القرية الصغيرة التي يصفون بها العالم، لكنني عربي الوجه واليد واللسان، وكوني غريبا كغربة المتنبي في شعب بوان، أو كصالح في ثمود، فذلك لا يعني أن أدير ظهري لهويتي ولغتي وموقفي وأحلامي. وشعري وصوتي لا يحتاجان لجراحة، فهما طب للمائلين عن الدرب القويم، المغتربين بلا قضية أو راية.

* أما زلت تعتقد أن الأوطان أكفان أم تغيرت صيغة سؤالك: «وطن أم كفن؟»؟

- الأوطان في عالمنا العربي أكفان، ومقابر للإبداع والمبدعين، وهي لا يلتفت لهم إلا بعد موتهم في الغالب، هنالك تغييب لقضايا الشباب المبدع، وتهميش له ولمطالبه، والشجرة الميتة الجرداء هي التي لا تدعمها السيقان والغصون، ولا تتجدد كل يوم بالماء، والماء الناس في حالة الوطن، وقد كتبت هذا البيت قبل ربع قرن، ولم يتغير شيء يذكر، فها هم يصطدمون بفوضى الثورات، لأنهم لم يشعروا بالخطر من قبل، وأصبح من السهل تهديد الأوطان من الخارج طالما أن الداخل هش، يساعد الآخر على تأجيج الشباب وتثويرهم ولو على طريق الفوضى دون وعي، ودون استراتيجية للمستقبل الغامض، فهم يريدون أن يثوروا وحسب، سواء ارتبط ذلك بأجندات أجنبية، أو بالشيطان نفسه، وكان بالإمكان تدارك ذلك لو استُمع لأصوات الناس منذ البداية، عبر حوار حضاري ثقافي، ينتج عنه تطبيقات عملية، ولا يحال للأدراج.

* يشهد الحراك الثقافي الكثير من المنتديات الشعرية، لكنها تبدو غير ناضجة، وبلا تأثير ملحوظ.. ما السبب في ذلك؟

- هنالك فقر في فهم الفعاليات الثقافية والمغزى منها، فكأنها تقام لإزاحة عبء، وللقول: لقد أقمنا عددا من الفعاليات، وهي تقام دون تهيئة إعلامية، ودون حضور، ودعم إعلامي لاحق، وفي المقابل هناك فقر في فهم قيمة الفعاليات من قبل جمهور عريض يحضر ليتكلم، ويعارض، ويخطب، ويسيء، لأنه في الأساس لا يتذوق هذا الفن أو ذاك، فكأن الموضوع حروب مصغرة مبيتة، ينتفي فيها الحب، والتذوق.. والذوق والتحضر. والسؤال المطروح مثلا هو لماذا تحضر أمسية لشاعر لا تتذوقه، أو لا تحبه؟

* بعضهم يرى تأثيرات كبيرة لقصائد بدر شاكر السياب ونزار قباني على شعرك؟

- ذلك ليس بصحيح، فأنا نهلت من ينابيع الشعر من امرؤ القيس وحتى شعراء اليوم الشباب، ولم أغفل شعراء الظل أبدا، ومن ينابيع اللغة وأولها القرآن، ومن ينابيع الإيقاع والغناء والموسيقى من الجنوب والشمال، وعبر العالم.

* كيف تنظر للعلاقة بين الثقافة والإعلام، وخاصة في عصر الإنترنت؟

- مفهوم الثقافة لدى المخططين لها مشوش، وضيق.. كأنهم يريدون حصره في الروائي والشعري، والثقافة فضاء رحب ينضوي تحته كل شيء تقريبا، ونحن نركز على القضايا الفرعية والقشور، وننسى الجذور والأصول، وما زلنا في مجتمعاتنا العربية، نجزئ المجزأ، ونصنف المصنف، كما يقول شاعرنا الضخم البردوني، والثقافة تحتاج إلى إضافة وتجديد.

والإعلام في الغالب يسعى لتتفيه الثقافة وطرح الأسئلة الجانبية، ويهتم بالإثارة على حساب الوعي، خذ مثلا قيادة المرأة للسيارة، مع غياب الموضوع الأساس وهو قيمة المرأة ووضعها والارتقاء بها ومعالجة مشكلاتها الأساسية، ولديك موضوع الشعر الحديث، والحداثة، مع غياب أو تغييب لموقف المثقف أو الشاعر، وتغييب للقضية المركزية لنا وهي قضية فلسطين، وقضية الهوية المهددة، وقضايا تتعلق بالوجود والحياة مع تزايد التهديدات والمخططات ضد أمتنا، هناك قضايا ثقافية رئيسية تهمش مقابل طرح ما يستهوي العامة، ويحرك مشاعرهم.

أما بالنسبة للإنترنت فقد قدم للمثقف خدمات جليلة سواء من ناحية البحث، أم النشر، أم من ناحية سهولة تداول نتاجه وتوصيله، وأنا شخصيا مدين له سواء على صعيد الكتابة أو على صعيد الحياة والعمل.

* ما جديدك؟

- جديدي ديوان «جنان حنايا» ويتزامن إصداره مع معرض الرياض القادم للكتاب، يصدر كباكورة شراكة في الأعمال بين داري «أعراف الرياض»، و«المفردات»، تتضمن قصائده رؤيتي للمرأة بصورة غير مباشرة، ومباشرة، ويتضمن لوحات للفنانة تغريد البقشي تشي برؤيتها هي للمرأة، ومخطوط ديوان «طفولة قلب»، وكتاب «ينابيع الذاكرة» وهو سيرة ثقافية، و«رسائل إلى أميركا» وهي رسائل نثرية محملة بالشعر، موجهة لأعلام أميركيين، وقد تأخرت، وهي قيد الترجمة.

* من قصائد الشاعر

* الحبّ

الصبحُ أشرقَ باليدينِ وبالجبينْ.

والقلبُ أورقَ بالنشيدِ وبالحنينْ.

والروحُ من نوحِ الأسارى

كمْ تئنّ وكمْ تلينْ.

شلّالُ موسيقى يعاودُ

غسلَ أرواحِ الحيارى

مرتجين ويائسينْ.

كالبحر في جزْرٍ ومدٍّ

كالعصافيرِ الصغيرةِ تعبرينْ.

والناسُ حولي، لا أراهم،

مقبلينَ ومدبرينْ.

حتى أتيتِ مع الندى

كالكرمِ..

كالتينِ الحزينْ.

يا فتنة السرّ الدفينْ.

ذاك اليبينُ ولا يُبينْ.

ما قلتِ؟!

تسرقني الحروفُ

على تكسّر ضوئها والياسمينْ.

ما قلتِ؟!

تغرقني العيونُ

وقرب ساحل شكِّها

يرنو اليقينْ.

هل قلتِ شيئا غامضا كالحبِّ؟

ما للحبّ حين!!

لا يعرف الحبُّ الكتابة

لا القراءةَ

لا اليسارَ

ولا اليمينْ.

الحبّ من شجرٍ يصلّي

يستغيثُ ويستعينْ.

والماء سرّ العارفينْ.

والغيم منكِ..

ومن تنهّدِ سائلينْ؟

الحب طفلٌ لا تمرّ بهِ السنينْ.

الحبّ أوطانٌ لأهلٍ طيبين.

والحبّ كرهُ الغاصبين.

الحبّ نخلُ الله

راحةُ كادحِين ومتعبينْ.

الحب أنتِ وخافقي

هذا الغناء الحرُّ

من بوحِ الأماني

واشتعالِ المنشدينْ.

الحب جنةُ خالقٍ

ودعاءُ غيبِ الساجدينْ.

آمنتُ..

لولا الحبّ

ما جادَ الصباحُ بوجهِ سيدةِ الحضورِ

وما تدفّقت العطورْ

شلالَ موسيقى وشِعرٍ

إذْ جلستِ..

وتعبرينْ.

* صوَر

* الحبّ مبتدأُ الندى

والحبّ فيكِ هو الخبَرْ.

والوقتُ متسعٌ كأحلامِ الحبيبةِ والعروسْ.

ما احتجتُ قاموسا

لتكتملَ القصيدةُ والطقوسْ:

عيناك مرْجحَةُ الطفولةِ والشجرْ.

والقلبُ هدْأتُه الأغاني والأماني والصوَرْ.

والغيمُ غيمُكِ

داخلي يبتلّ

والدنيا أمامي

جدْبُ أحبابٍ تناءَوا

كم يحنّ إلى مطرْ.

تحتار ذاكرتي بأمركِ يا صبيّةُ

تطرقين البابَ أفتحُ: لا أحدْ.

حتى إذا ما عدتُ أجلسُ تجلسينَ

وتشربين معي الصباحْ

الفلّ فاحْ

والورد ينمو في غيابِ المزهريةِ

في تنقّلك البهيّ، وفي الشموسْ.

أغريتِ طاولتي

سأشربُ قهوةً من كحلِ عينِكِ

سكّري من قطعتين من الضياءِ

- إذا سمحتِ

فكرْمتي أجّلتها..

أجّلتُ أفكاري

أعتّقها فتمتلئُ الكؤوسْ.

لا تعجلي

أغفلتُ شيئا..

- يا لفوضاك الأنيقةِ -

سوف أخبرك الحقيقةَ

ربّ أسرارٍ نخبّئُها

فتفضحها العيونْ.

لا تغلقي حسْن النوايا والظنونْ.

لا تغلقي باب المعارفِ

لا الهوامش

لا المتونْ.

تغتالني الأبوابُ مغلقةً

وتقتلني الحصونْ.

القلب متّسعٌ، وروحي شرفةٌ

تستقبل الناجين من مدّ العصورْ.

والغائبين أراهمُ

مثل الغيابِ أراهمُ

في الضوءِ أولَ من حضَرْ.

لا سجنَ في قيد السطورْ.

لا كرهَ في قلبِ القصيدةِ

لا انحناءَ

ولا مذلّةَ للبشرْ.

بالحبّ ترتفعُ الرؤوسْ..

للحبّ ترتفعُ الرؤوسْ.

عيناكِ مبتدأُ الندى

والموتُ فيك هو الخبرْ.