الحديث عن المقدس في عصر حقوق الإنسان

مستقبل مفهوم «ازدراء الأديان» حسب رؤية فيلسوف أميركي

غلاف الكتاب
TT

بعد عقود من النظر إليه كمفهوم غامض، عاد مفهوم ازدراء الأديان للظهور مرة أخرى بشكل مثير كقضية ساخنة لها أبعاد دولية. تتقدم الجهود لتجريم ازدراء الأديان في الأمم المتحدة من خلال إجراء محادثات عن توقيع اتفاق دولي. وقد أصبح كل من منظمة التعاون الإسلامي والفاتيكان شريكين موضوعيين في الضغط من أجل توقيع مثل هذا الاتفاق.

وقد تبنت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان المفهوم بصورته المعقدة.

وفي السنوات الأخيرة، كان مفهوم ازدراء الأديان أيضا محور دعاوى قضائية في فرنسا استنادا على دعاوى تقدم بها رجال دين كاثوليك ومسلمون. لكن ما أصل مفهوم ازدراء الأديان؟

يبدأ الفيلسوف والمدافع عن حقوق الإنسان الأميركي أوستين داسي رحلته لتناول هذا الموضوع الملغز بطرح ذلك التساؤل.

يعود أصل هذا المفهوم إلى بداية ظهور الديانة اليهودية، وفي صيغته اليهودية - المسيحية، عنى مفهوم ازدراء الأديان الاستهزاء بالله، وبشكل أكثر شمولا، عدم احترام الذات الإلهية.

استخدمت في التلمود كلمتا «ناكوب nakob» (الحديث بشكل واضح) و«كيليل qillel» (السب) لوصف نوعين مختلفين، ولكن وثيقا الصلة بالإساءة للذات الإلهية أو الدين. عنت كلمة «ناكوب» التفوه باسم الله المحرم، فيما عنت كلمة «كيليل» الإساءة للذات الإلهية. وترجم اليونانيون المفردتين على أنهما تعنيان الإساءة اللفظية، وكانت عقوبتها القتل رميا بالحجارة.

كان بعض الباحثين المسيحيين أكثر تساهلا بشأن هذا المفهوم. فقد خلص الأكوينيون إلى أن استخدام لفظ مهينة لا يرقى إلى درجة الإساءة للذات الإلهية.

أما المفهوم الإسلامي لازدراء الأديان (التجديف)، فلم يجذب الاهتمام بدرجة كبيرة مقارنة بمفهوم «الكفر»، أو إنكار «حقيقة وجود الله»، الذي يعد خطيئة لا تغتفر.

وفي آخر تفسير لها، تبين أن فكرة ازدراء الأديان نتاج التصحيح السياسي. وقد قضت الأمم المتحدة والكثير من المحاكم الأوروبية بأن ينظر إلى هذا الفعل على أنه «عدم احترام المعتقدات الدينية لشخص أو جماعة». يبدو الأمر كما لو أنه تم تنحية الذات الإلهية جانبا عن الجدال المثار حول المفهوم.

ويشير داسي إلى أن مفهوم ازدراء الأديان لم يعد قضية تشغل اهتمام أوساط الأديان الإبراهيمية فحسب، فقد تبنى بعض الهندوس والسيخ المفهوم في صيغته المعدلة سياسيا.

على سبيل المثال، تم طرد الرسام الهندي المسلم، مقبول فدا حسين، من وطنه بسبب «دعاوى قضائية استمرت لنحو عقد من قبل محافظين هنود أثارت حفيظتهم رسومه التي جسد فيها آلهة هنود».

وفي منفاه، استمر حسين في عمله؛ حتى في إنجلترا الديمقراطية، حيث تعرض لملاحقات من متعصبين. وتم إغلاق معرض لأعماله أقيم في لندن بعد بضعة أيام فقط من افتتاحه وسط تهديدات باتخاذ إجراء عنيف ضده.

وقد أوقف متطرفون سيخ عرض مسرحية لكاتب مسرحي سيخي بريطاني في لندن، وانضم اليساريون إلى الإسلاميين لفرض إلغاء أوبرا تعرض في برلين لموتسارت.

وبمختلف أنحاء العالم، يزداد يوما بعد يوم عدد المسرحيات والمعارض الفنية والحفلات التي يتم وقفها استنادا على المفهوم الجديد لازدراء الأديان.

وفي عام 2008، وجهت المحكمة العليا الهندية في دلهي هذا التحذير: «ثمة حركة تطهيرية جديدة تجري مجراها باسم (التطهير الثقافي)، وتقوم مجموعة من الأفراد الجهلاء بتخريب الفن ودفعنا نحو حقبة ما قبل عصر النهضة».

وفي الكثير من الحالات، لا يكون لدى هؤلاء الذين يوظفون مفهوم ازدراء الأديان كسلاح، دين. وهم يزعمون أنهم يتصرفون نيابة عن مجتمع ديني من المفترض أنه قد «تعرض لأذى» بفعل رواية أو مسرحية، أو حتى فيلم كارتون.

ومثلما يشرح داسي، فإن الدفاع عن «التطهير الثقافي» ليس الحافز الوحيد للجهلاء بمفهوم ازدراء الأديان الحديث. والأمر الأكثر تأثيرا، ومن ثم الأكثر خطورة، هو إضفاء صفة «الاحترام» على أي صورة لـ«مجتمع» أو «هوية دينية» حقيقية كانت أم خيالية.

لكن هل يتعين على المرء أن يحترم ما لا يؤمن به كي يكون جديرا بالاحترام؟

وهل يكفي معارضة استخدام وإساءة استخدام مفهوم التجديف أو ازدراء الأديان اسم حرية التعبير؟

يرى داسي أن القضية لا يمكن تسويتها من خلال اتفاقات دولية تحظر ازدراء الأديان أو إصدار قوانين من قبل أي دولة.

بحسب بعض التقديرات، هناك أكثر من 5000 «ديانة» مختلفة أو أشكال مختلفة منها على ظهر البسيطة. إذن، هل يتعين على الأمم المتحدة أن تحظر انتقاد كل تلك الديانات أم يجب التعامل مع بعض «المجتمعات الدينية» على أنها من الدرجة الثانية وتركها عاجزة عن الدفاع عن ازدراء معتقداتها؟

تتمثل مشكلة أخرى في تحديد من يتحدث باسم أي ديانة وفي أي وقت، ومن يحدد حدوث واقعة تجديف أو ازدراء لدين. والأهم هل يمكن اتهام شخص لا ينتمي لديانة ما بازدراء الأديان في سياق تعاليم تلك الديانة؟

ومنذ فترة قصيرة، كان عدد محدود من الأفراد هم من يدركون معنى مفهوم التجديف أو ازدراء الأديان، في حين كان عدد من ألقوا بالا للأمر أقل.

ومع ذلك، بات مفهوم التجديف اليوم موضوع مؤتمرات رفيعة المستوى، من بينها بعض المؤتمرات المقامة تحت رعاية الأمم المتحدة.

وفي نيجيريا، يتهم المسلمون الذين يقتلون مسيحيين، والمسيحيون الذين يقتلون مسلمين بعضهم بعضا بازدراء الدين.

ويشير داسي إلى أنه من خلال تعاملنا مع مفهوم ازدراء الأديان الجديد، نتجاوز قضية حرية التعبير.

«احترام المواطنين يتطلب حوارا عاما مفتوحا لكل وجهات النظر»، هذا ما يقوله.

ويقترح داسي مبدأ عدم الامتثال. ويعني هذا رفض السماح لأي شخص بأن ينكر على شخص آخر حقه في حرية التعبير باسم الدين.

وبالنسبة لداسي، يعتبر «الانتقام العنيف» الموجه ضد جريمة ازدراء الأديان أو التجديف «مماثلا للعنف من جانب الإرهابيين سعيا لتحقيق هدف سياسي أو من قبل مختطفين ومبتزين سعيا وراء مكسب شخصي. ويواصل داسي قائلا «يتبنى كل من الحكومات ومسؤولي إنفاذ القوانين بشكل عام موقفا عاما ممثلا في عدم التفاوض مع الإرهابيين والمختطفين الذين يقومون بأخذ رهائن». ويرجع هذا إلى أنهم يرغبون في إظهار أن العنف وسيلة غير فعالة في تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية.

ويجب أن ينطبق المبدأ نفسه عندما يورد ازدراء الأديان كمبرر للعنف. وإذا تم تبنيه وتطبيقه على مستوى العالم، سيجبر قانون عدم الامتثال الذي اقترحه داسي هؤلاء الذين تضرروا، أو يدعون أنهم قد لحق بهم الضرر، من فعل ينطوي على ازدراء للدين بالرد من خلال الفن والأدب والنقاش لا من خلال القذائف والخناجر. ومن شأن قانون عدم الامتثال التحقق من «عدم عرقلة أي أساليب تعبير قانونية بفعل تهديد بارتكاب أعمال عنف».

وبوصفه عملا بحثيا متعمقا عن موضوع جدلي، يعتبر كتاب داسي إسهاما بارزا في جدال مهم.