حرب ثقافية بين الحلم الأميركي والتنين الصيني

التأرجح بين «أميركافيليا» و«أميركافوبيا»

TT

العلاقة الثقافية بين أميركا والصين قوية بقدر ما هي متوترة، تحكمها شهوة الصينيين إلى التفوق وبلوغ الحلم الأميركي، وإحساس الأميركيين بالاستعلاء عليهم. ثمة مشكلة أعقد وهي أن أميركا المستعلية تقترض المليارات من الصين ومع ذلك لا تزال تشعر أنها الأقوى والأفضل، بينما تعتلي الصين السلم الاقتصادي مع إحساس بالتواضع قد يخدع الأميركيين ويجعلهم يشعرون بالأمان. هي حرب بين ثقافتين يبدو للوهلة الأولى أنهما غير متكافئتين، لكن دهاء الصين قد يخبئ مفاجآت مستقبلية مذهلة.

قبل عشر سنوات تقريبا بنت شركة «كرافت» الأميركية لصناعة الجبن والكيك والبسكويت مصنعا عملاقا في الصين لبيع منتجاتها. وركزت الشركة على بسكويت «أوريو» الذي وجد إقبالا كبيرا من الصينيين، وهو بسكويت أسود اللون دائري الشكل من طبقتين بينهما كريما بيضاء. بعد فترة، زادت شكوى الصينيين من أن الكريما حلوة جدا، وأن البسكويت أسود جدا. واضطرت الشركة إلى صناعة «أوريو» فيه ألوان براقة، مثل كريما حمراء وبسكويت أصفر، أو العكس (لونا العلم الصيني).

في الثقافة الأميركية توجد صلة بين بسكويت «أوريو» الأسود والأبيض والعلاقة بين البيض والسود. البسكويت أسود وقوي، والكريما بيضاء وحلوة جدا. ويطلق أميركيون على أوباما لقب «أوريو» لأن والده أسود ووالدته بيضاء، ولأن سلوكه أقرب إلى سلوك البِيض منه إلى سلوك السود (أسود من الخارج، وأبيض من الداخل).

لم يفسر الصينيون «أوريو» تفسيرا عرقيا، لكن التناقض بين اللونين الأسود والأبيض ليس مثيرا بالنسبة لهم، كما أن الحلويات الصينية ليست في حلاوة الأميركية (التي تكثر السكر)، وهي أيضا متعددة الألوان.

قصة شركة «كرافت» جزء من أمركة هائلة في الثقافة الصينية:

أولا: شغف الصينيين ليس فقط بالمأكولات والمشروبات الأميركية، ولكن أيضا بملابسهم وعاداتهم، ولونهم الأبيض وشعرهم الأشقر.

ثانيا: اضطرار الشركات الأميركية إلى التأقلم مع الذوق الصيني، ربما لأن المثل الأميركي يقول: «لون الدولار أخضر»، إشارة إلى أن الربح لا يعرف ألوانا. سواء سواد الأميركيين الزنوج، أو صفار الصينيين، أو ألوان غيرهم.

ويبدو أن هناك مثلا مشابها في الصين، لأن الصينيين بعد زيادة قوتهم الاقتصادية والسياسية لم يتعقدوا بسبب لونهم الأصفر وعيونهم الضيقة وقاماتهم القصيرة ولغتهم الصعبة. بالعكس، بدأوا يغزون العالم (خصوصا وسط سود أفريقيا، وسمر أميركا الجنوبية). وخلال السنوات القليلة الماضية بدأوا يغزون أميركا (خصوصا لأنها تستدين منهم مليارات الدولارات)، ليس فقط بشراء ناطحات سحاب ومصانع، ولكن أيضا بزيادة قوتهم السياسية (خصوصا في واشنطن العاصمة).

في الشهر الماضي في واشنطن، مع احتفالات السنة الصينية الجديدة، اكتمل بناء مبنى التلفزيون الصيني (سي سي تي في) العملاق الذي سيبث قنوات باللغة الإنجليزية، على مسافة ليست بعيدة من الكونغرس والبيت الأبيض. هذه ظاهرة صينية جديدة، بسبب إعجابهم بقوة الإعلام الأميركي قرروا منافسته في عقر داره.

وفي السنة الماضية بدأوا يصدرون صحيفة «شاينا توداي» (الصين اليوم) من مبنى الصحافة الوطني في واشنطن. ورغم أنها صغيرة وتركز على الدعاية للصين، يمكن في المستقبل أن تكون بداية لصحيفة أميركية يمولها صينيون (مثل صحيفة «واشنطن تايمز» التي يمولها كوريون).

ستكون واشنطن هي عاصمة التلفزيون الصيني باللغة الإنجليزية لكل العالم. والهدف هو أن ينافس تلفزيون «سي إن إن» الأميركي، أكبر شبكة تلفزيون تغطي العالم.

* حب وكراهية

* وعن هذا قال ديفيد بانداروسكي، خبير أميركي متخصص في الإعلام الصيني ويعمل في هونغ كونغ: «يحب الصينيون أشياء كثيرة في الثقافة الأميركية، لكنهم يحبونها وهم مكرهون، لأنها ليست صينية، ولأنها تسيطر على العالم». حتى يحدث غير ذلك، يظل هذا الحب يزيد ويزيد.

بالإضافة إلى شركة «كرافت» وبسكويتها وكيكها، هناك شركة «أمواي» (ترجمتها: الطريقة الأميركية) التي تبيع أشياء مثل معجون أسنان «كولغيت» وشوكولاته «سنكرز». وهناك شركة «ايفون» التي تبيع منتجات نسائية تجميلية. وليس هاما أن معظم هذه للبشرة البيضاء والشعر الأشقر. الموضة الجديدة وسط الصينيات هي تبيض بشرتهن، وتذهيب شعورهن. وهناك عيادات تجميل لزيادة فتحة العين وسط الصينيات، ولتطويل قاماتهن.

* جيمس واتسون

* وعن هذا قال جيمس واتسون، أستاذ علم الاجتماع في جامعة هارفارد، ومتخصص في شغف الصينيين بالثقافة الغربية: «يريدون أن يقلدونا في كل شيء، ما نأكل، ونشرب، ونلبس. لقد سئموا عشرات السنين من سيطرة الحزب الشيوعي، وبدلة ماو، والأعلام الحمراء». وأضاف: «مع المشكلة الاقتصادية الحالية هنا لم يعد سهلا تطبيق الحلم الأميركي، لكنهم في الصين يريدون، ويقدرون لأنهم لا يواجهون مشكلة اقتصادية. كيف يواجهون مشكلة ونحن نقترض منهم تريليونات الدولارات؟»، لكنه قال: «سهل عليهم شراء بنطلونات الجينز وقمصان تي شيرت. لكن كيف سيقدرون على شراء الروح الأميركية (أميركان سبيريت) التي هي في جيناتنا؟».

إنه يقصد النظرة الأميركية الاستعلائية نحو الصين، لكنه لا يريد أن يقول ذلك مباشرة (هذه نظرة تشمل كثيرا من الدول)، في الجانب الآخر يقصد عقدة النقص وسط الصينيين، دون أن يقول ذلك مباشرة (هذه عقدة نقص توجد في كثير من الدول).

وعن هذه كتب رونالد غريغمان، صحافي أميركي متخصص في الصين، وقضى عشرين سنة فيها، ولا يزال. قال إن عقدة النقص عند الصينيين اتجاه الأميركيين تجعلهم:

أولا: يشكّون في قدرتهم، رغم مالهم وعددهم.

ثانيا: يحتارون في هويتهم.

ثالثا: يميلون نحو الدفاع عن أنفسهم ضد ما يرونه هجوما عليهم، أو إساءة لهم، حتى إذا لم يكن كذلك.

رابعا: يحسون أنهم «غرباء» على الثقافة الأميركية، أو في الحقيقة، «دخلاء» عليها.

* عقدة نقص؟

* وأشار الصحافي غريغمان إلى كتاب «الصراع القادم مع الصين» الذي كتبه صحافيان أميركيان، والذي حذر الأميركيين من التوسعات والمطامع الصينية. وسريعا جاء إلى واشنطن صحافي صيني من وكالة «شنخوا»، قضى شهورا يتمرن في صحيفة «واشنطن بوست»، ثم كتب كتاب «مَن وراء الإساءات إلى الصين؟»، وصار واضحا أن الصينيين حساسون جدا اتجاه رأي الأميركيين فيهم (رغم أنهم يجب أن يعرفوا أن هذا هو الواقع).

وكتب هنري هام يونغ، أميركي من أصل صيني وأستاذ في جامعة كاليفورنيا، أن تأسيس مبنى للتلفزيون الصيني في واشنطن له سببان متناقضان: من جانب، حب الثقافة الأميركية، ومن الجانب الآخر منافستها. لكن، كما قال، لا يعتبر الصينيون ذلك تناقضا. «إنهم يفكرون بطريقة مختلفة جدا عن طريقة تفكير الأميركيين».

* الحلم الأميركي

* ربما لهذا قال الصيني كينغ لاي، مدير فرع شركة «ساعاتي ساعاتي» البريطانية للإعلانات في الصين: «بالنسبة لتفكير الصينيين، يريدون ليس فقط تحقيق الحلم الأميركي، ولكن أيضا تقمص الروح الأميركية (سبيريت أوف أميركا)».

ويقصد أن هناك ثقافة تختلف كثيرا عن ثقافة أخرى، وتريد تقليدها، لكن أيضا تريد الانتصار عليها، وأن هذا ربما لم يحدث من قبل في تاريخ الثقافات.

الذي يتجول في شوارع شنغهاي يرى فروع مطاعم «بلانيت»، ومقاهي «ستارباك»، وآيس كريم «باسكين روبنز»، وبيتزا «دومينو»، وأندية «نيويورك نيويورك». ويرى لوحات إعلانية عملاقة عن سيجارة «مارلبورو»، وحذاء «نايكي»، ومشروب «كوكاكولا»، وساندويتشات «ماكدونالد»، وشوكولاته «هيرشي»، ودجاج «كنتاكي»، وأيضا «كوان دان»، الاسم الصيني للاعب كرة القدم الأميركي الأسود مايكل جوردن (في استفتاء محلي فاز في الشعبية على ماوتسي تونغ، قائد ثورة الصين).

* باميلا أندرسون

* وتعرض دور السينما ومواقع الإنترنت آخر الأفلام الأميركية. ويتمتع توم كروز وسلفستر ستالون بشعبية كبيرة. وأيضا الشقراء باميلا أندرسون، التي يبدو أن كل بنات الصين يردن شعرها الذهبي وبشرتها البيضاء وعينيها الزرقاوين. كما يبدو أن كل شباب الصين يرغب فيها.

أكثر من نصف الشركات الأميركية الكبرى لها فروع في الصين، وعلى رأسها «وول مارت» التي تبيع كل شيء، من الإبرة إلى السيارة. ونقلت هذه إلى الصين ظاهرة ليست جزءا من الثقافة الصينية الشيوعية: تنافس الماركات التجارية والإعلانات. وعن هذا قال بيتر لي، أميركي صيني يدير شركة «إنتروود» للإعلانات: «مثلما صارت الإعلانات التجارية جزءا من الثقافة الأميركية، منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، تريد أن تكون نفس الشيء في ثقافة الصين. الإعلان لا يعرف اللغة، لهذا نغيرها حسب كل بلد نذهب إليه. وتبقى بالتالي السيارة الراقية، والبنت الجميلة، والمذيع الذي يتحدث عن (متع الحياة)».

لكن، قال كتاب «الصين: صدمة حضارية» للأميركية إنجي ايغان: «بالتأكيد يوجد عداء لنا، خصوصا وسط الجيل القديم، وأيضا بسبب سيطرة الحزب الشيوعي، ونشاطات مثقفين يساريين. ويستغل هؤلاء حقيقة أننا ننظر إلى الصينيين نظرة استعلائية. لكنهم رغم انتقاداتهم لما يرونه إباحية، وتعرية، وأغاني خليعة، وفردية جافة، يعترفون بأن جامعاتنا هي الأحسن، وبأننا الأفضل بسبب حريتنا المتمثلة في دستورنا، وقوانيننا، وعدالتنا، وتأدبنا».

وقال الكتاب إن ثقافة الصين تتردد بين «أميركافيليا» (حب الأميركي) و«أميركافوبيا» (الخوف من الأميركي)، وإن الجيل الجديد يميل نحو الخيار الأول، ولهذا يسمى «الجيل المحظوظ»، جيل الإنترنت والتلفزيونات الفضائية والتلفونات الذكية.

* كتاب البوابة الذهبية

وعودة إلى جيمس واتسون، أستاذ علم الاجتماع في جامعة هارفارد المتخصص في الثقافات، قال: «لماذا نقول الثقافة الأميركية؟ عندما يتربى طفل في الصين على مسلسل (سيسيمي ستريت - شارع السمسم) في التلفزيون كل يوم يصير جزءا من ثقافته الصينية». وأضاف: «نفس الشيء عندما يأكل الطفل ساندويتش (ماكدونالد). بالنسبة للطفل ما يأكله ليس أميركيا، ربما لأنه لا يعرف حتى أين تقع أميركا. لهذا يصير الساندويتش جزءا من ثقافته الصينية، أو في الحقيقة يصير جزءا من ثقافته الشخصية، لأنه قد لا يعرف حتى انتماءه الوطني».

وأضاف: «عندما يكبر هذا الطفل، ويعرف أن هذا الساندويتش الذي يحبه هو ساندويتش أميركي، يمكن أن يقول إن الأميركيين لا بد أن يكونوا أكثر تطورا وحضارة، ولعله لن يقولها، وإنما فقط يحس بها وتصبح جزءا من جيناته».

يعرف البروفسور واتسون كثيرا عن هذا الموضوع لأنه كتب مؤخرا كتاب «غولدن آرش» (البوابة الذهبية في شرق آسيا)، إشارة إلى علامة مطاعم «ماكدونالد».