رحلة الطوارق بين التعاويذ والنجوم والرمال

رواية «طبيب تينبكتو» لعمر الأنصاري

غلاف «طبيب تينبكتو»
TT

منذ الإهداء في الصفحة الأولى، يجعلنا الروائي عمر الأنصاري في صلب متاهة الصحراء، في روايته الصادرة حديثا «طبيب تينبكتو» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، ويعلن بادئ ذي بدء أن رحلته ستكون سرمدية، وهو يبرهن على ذلك كلما توغلنا في قراءة هذه الرواية الفريدة. تبدو براعة كتابة هذه الرواية في حقيقة أن أحد أبنائها هو الذي صاغها كما تصوغ الحائكة سجادتها؛ لأن كتابة هذه التفاصيل الدقيقة شيء يعجز عن كتابته روائي خارج هذا المحيط، ومما يزيد في ذلك أن الروائي نفسه قدم لنا، قبل سنوات، دراسة مستفيضة عن الطوارق وحياتهم في كتابه «الرجال الزرق» الصادر عن دار الساقي للنشر والتوزيع عام 2005.

بلدته «تاريت» وأماكن أخرى من الصحراء تتأرجح بين الخيال والواقع، وتتحول إلى جسد السرد، بينما تبقى شخوصه تسير بخطوط متوازية، وأخرى بخطوط ملتوية لكي تسبر لنا أغوار الصحراء وواحاتها. ومن هنا ننتبه إلى عائلة نذرت نفسها لفن عيش مغاير لما هو مألوف وسائد، وتمارس حياتها الطبيعية، التي تبدو لمن لا يعرف الصحراء حياة أسطورية. لا يمكن النظر إليها من دون هذا العالم غير المرئي، من تراكمات العادات والتقاليد والطقوس. فتبدو تارة متحررة، وتارة أخرى منغلقة، وما بين هذين العالمين، تكمن أرواح شخوص الرواية وسلوكها.

تبدو الرواية منذ بداياتها كسيرة طفل استثنائي، يسعى إلى تجسيد حيوات أخرى بعيدة كل البعد عن سيرة الأفراد أو الشخوص؛ لأنها تتضمن الوعي الجماعي بالقبيلة أو الجماعة، وتتضح سيرة «تاريت»، كما هو في «ماكاندو» المفقودة عند غابرييل غارسيا ماركيز، والحاضرة في النفوس فقط، أو مثل مدن إيتالو كالفاني غير المرئية. وإذا كانت غالبية الروايات التي كتبت عن الصحراء تحاول أن تكون عمومية، وسارحة في عوالم «فانتازية»، فإن رواية «طبيب تينبكتو» ترسم لنا ملامح صحراء شاءت الأقدار أن تكون بؤرة أحداث ساخنة، إضافة إلى حفلات الصيد والأعراس والأسفار وإحضار الطعام وسرد الحكايات. وهي في جوهرها تعبر عن أهم الحواضر الإسلامية في غرب أفريقيا تقع اليوم شمال مالي أسسها الطوارق في القرن الخامس الهجري 1080. لا شك أن مؤلف الرواية يتحرك في رقعة جغرافية واسعة، هي صحراء تينبكتو، لينقل عوالم الطوارق ويتتبع أثرهم المكاني والروحي، من جنوب الجزائر وليبيا وأطراف الساحل، إلى مالي شمالا وبوركينا فاسو، هذه الرقعة التي لا تزال مجهولة في الأدب العربي.

تطرح الرواية أيضا قضية استقلال الطوارق في دولتهم المستقبلية، وهو حلم يراودهم لأنهم منتشرون بين جنوب الجزائر وجنوب ليبيا وشمال النيجر وأطلس المغرب الكبير، وهي، كما يحددها الروائي: أهجار وآزجر وآيير وسجلماسة. خريطة روحية لأهل الطوارق الباحثين عن وجودهم. وهنا يمزج الروائي بين الهم العام والهم الخاص في توليفة روائية في غاية الانسجام، خاصة في مواجهة حالة التمزق التي يعيشها هؤلاء البشر ووقوعهم تحت عجلات الهيمنات السياسية والآيديولوجية. وهكذا يرحل حلم الاستقلال مع النجوم، التي يستدلون بها على الطرق والحظ والفأل. ويتقي الطوارق، شأنهم شأن جميع الشعوب، الشر من خلال صناعة قلادة «الخميسة» التي تعلَّق في رقاب النساء والفتيات. وكالعادة، فهذه الشعوب، لشدة ارتباطها بالنجوم، يمكن لها أن تسجل تاريخها في تحركاتها وسفرها، يتراءى لها، كصفحات مكتوبة، ومحفوظة في السماء. ومن هنا تأتي أهمية هذا السرد الذي يشكل بعدا آخر من أبعادنا الروحية العربية في المغرب العربي.

ونكتشف من خلال السرد الروائي أن هذه الحاضرة الصحراوية أنثى، وبطن لا يستطيع التوقف عن إنجاب الحكايات والقصص والبطولات لأناس بسطاء، شاءت الأقدار أن يعيشوا تائهين في الصحراء. وليس هناك فقط قصة عم الراوي، قاتل الأسود، بل إن كل شخصية من الشخصيات لها بطولاتها، في مواجهة هذه المتاهة الرملية. ومن خلال العلاقات بين أفراد عائلة الراوي أو بينها وبين الأقارب والعالم الخارجي، نجد ظهور ملامح العنف والطيبة في آن واحد، وهي مستقاة من طبيعة الصحراء وتقلباتها المناخية تماما مثل تقلبات أمزجة الشخصيات. وتظهر المفاهيم الغيبية التي تسيطر على الشخصيات مثل سلطة الشيخ الزروق، أحد أولياء الصحراء الصالحين، الذي يسعف الناس في فجيعتهم ومآسيهم، لكن شكوك الطفل تبقى في دائرة الضوء، على الرغم من انبهاره بعوالم السحر والكرامات التي تتمتع بها هذه الشخصية. وهو الذي يقدر على إخراج الجن والعفاريت من الأرواح الممسوسة.

تمنح الصحراء هذه الشخصيات حالة التأمل، والاهتمام بالفقه؛ لأنها نوع من المناظرات الفكرية والتساؤلات الوجودية التي تتهامس بها الشخصيات على موائد الطعام أو في طريق الأسفار. ويربط الروائي بين هذه التأملات وبين الروح القتالية لأبطال الصحراء الذين سطروا انتصارهم على «إيكوفار»، وهو الاسم الذي يطلقه الطوارق على الفرنسيين، وتعني «الكفار»؛ لأن الصحراء هي ملجؤهم الروحي الذي لا يمكن أن يخترقه أحد. الصحراء بيت الطوارق. كما أن سرد كرامات الزعيم، وقصص تواريه عن أبصار الأعداء إذا شاء، هو أحد الخوارق التي يسردها الروائي ويثبتها الواقع. ولعل مداواة المجانين هي إحدى الأساطير التي ترتبط بالصحراء؛ لأنه كان علامة فارقة في حياة الطفل الذي كف عن اللعب، كما لو أن الجنون هيأ له طريق العقل.

لعل مشهد سرد تفاصيل القيامة على الأرض قد أرهب الراوي الطفل، وأصابه بالإحباط وفقدان الأمل، لكن حديث الأب يخبره بأنه قد يبلغ من العمر 100 عام قبل أن تقوم القيامة، وهنا يبدو الزمن لا نهائيا في عيون الطفل، ويشكل منعطفا في رؤيته.

وينتقل السرد من تارايت إلى إيجيف؛ حيث يزداد التوتر بقدوم الاستعمار الفرنسي، الذي يخفق في السيطرة على الصحراء الشاسعة، بعد أن يرتد قائد الجيش الفرنسي حين يلتقي الشيخ الزروق، ويتراجع عن غزوته، ويتأثر بسحره الخاص، ويزيد من إيمان أهالي الصحراء بمعجزاته. وفي المقابل يضع على التضاد منه الشيخ الزروق الذي «مات ولم يضع يده في يد إيكوفار قط». وإيكوفار هم «الكفار»، رمز الفرنسيين الذين يسعون إلى غزو الصحراء. وتجسد الرواية أنواع الصراع الدائر في هذه البقعة، وطموح القبائل في الاستقلال، وتشكيل حكومة مستقلة، سيترأسها الزنوج في الجنوب. وتتحول إيجيف إلى مرتع للأمراض التي تجبر الأهالي على الهجرة والانتشار في الضواحي الأخرى من الصحراء، إضافة إلى ما فعله المستعمر فيهم.

الانتقال إلى المدينة يشكل منعطفا في رواية «طبيب تينبكتو»؛ حيث تعج برونو بالضجيج والصخب. ويكون اللقاء بأهالي تينبكتو مثيرا للراوي، وهو يرى مظاهر المدينة الباذخة بعد أن اعتاد على حياة الصحراء. وهكذا تشهد الرواية انتقالات الراوي من عالم الصحراء إلى عالم المدينة، عندما يعمل محمد مساعدا للطبيبة الفرنسية ميشيل التي تعمل في بعثة الصليب الأحمر، ويتعلم الكثير منها، بل ويتماهى مع حياتها. وهي تنبهر بطقوس أهله من الطوارق، وهو الانبهار الغربي النمطي ذاته بعوالم الصحراء

ولا ينسى أن يسرد لنا معاناة الطوارق وما جرى لهم على يد حكام مالي وما جاورها من بلدان، ذلك كله ممزوج بكرامات الشيخ الرزوق الذي ينتصر على الأعداء بقيمه الروحية وقواه الخفية، فهو أحد أولياء الطوارق، الذي بهرهم بمعجزاته. ويستمر حلم الطوارق إلى ما لا نهاية مع رمال الصحراء التي لا حدود لها في مخيلتهم.

وتجسد الرواية ما آلت إليه تينبكتو في العصر الحديث، شأنها شأن جميع المدن الحضرية المتقهقرة، ويتجسد ذلك في الحوارات الذكية للشخصيات: «أتعرف يا محمد؟ تينبكتو مظلومة.. كيف تتخيل مدينة العلم والعلماء والمخطوطات تتحول إلى ما نراه اليوم؟ أتعرف أن تينبكتو هي وريثة غرناطة؟ هل تصدق لو قلت لك إن أحدهم ورث كتب ستة أجيال أولهم غرناطي؟!».. هذا ما يدور بين محمد وابن خالته، وهو ما يلخص مصير حوار المدن التي أصابها الجفاف الثقافي، وضياع إرثها هو ضياع كل شيء في حياة المدن. وهو ما يشبهه محمد بسقوط غرناطة: «هذا الإرث الكبير يحتاج إلى طلبة علم ونساخين ومعلمين. هذا كله انقرض من تينبكتو، لا أحد منهم هنا».

إن اختفاء محمد في نهاية الرواية يؤكد أن شاهدا مهما على حياة الطوارق قد اختفى من مسرح السرد وأشرفت الحكاية على الانتهاء في عالم تهيمن عليه ثقافة شفوية قابلة لجميع التأويلات. وكان هذا الاختفاء سببه البحث عن سر الصندوق الذي قد يلقي المزيد من الضوء على حياة الطوارق. وهنا يضعنا المؤلف في متاهة الأسرار من جديد، إيذانا بأن حكايات تينبكتو لا يمكن أن تنتهي.

وأخيرا، تمكن مؤلف «طبيب تينبكتو» من أن يختزل تاريخا متكاملا عبر 250 صفحة، تارايت وإيجيف وبرنو وتينبكتو، ذلك يتطلب كتابة آلاف الصفحات، وهذا هو شأن الرواية القادرة على الاختزال والتكثيف، بمعمار رمزي رصين، عبر سرد متدفق في متاهة الصحراء.