عبد الله القصيمي.. من الشعبية الواسعة إلى الاستسلام اليائس

كتاب في معرض الرياض الدولي يتحدث عن «فيلسوف العبث»

.القصيمي بلباسه السعودي
TT

أعاد معرض الرياض الدولي للكتاب الذي أسدل ستاره يوم الجمعة الماضي سيرة المفكر السعودي عبد الله القصيمي إلى الواجهة مجددا، إذ مثل الراحل ظاهرة مثيرة للجدل في الوسط الثقافي العربي، كما شدت أطروحاته الغربيين وتناوله باحثون عبر عدد من الأطاريح الأكاديمية.

وعرضت دار «جداول» ضمن إصداراتها في المعرض كتابا عن عبد الله القصيمي تقدم به مؤلفه يورغن فازلا لنيل شهادة الدكتورة في جامعة فرايبورغ الألمانية، متناولا السيرة الحياتية للقصيمي مرورا بتحولاته الفكرية. وترجم الكتاب محمود كبيبو الذي شدد في مقدمة الترجمة على أن القصيمي مهما اختلفت حوله الآراء، ومهما وجه له من اتهامات، رجل صادق، ليس له وجهان، مؤمن إيمانا عميقا بالخير وكرامة الإنسان، مدافع بلا هوادة أو ممالقة، أو الجري وراء منفعة، عما يؤمن به ويعتقد أنه في صالح قومه وأمته. وهو لم يكف طيلة حياته عن البحث والتمحيص باحثا عن طريق يعتقد أن فيه خلاص الأمة، وتوصل بعد رحلة طويلة وشاقة إلى أن الحرية وحدها هي السبيل إلى التطور والتفوق، وأدرك أن مجتمعا يلغي التنافس النزيه ويقدم الولاء على الأداء سيبقى مجتمعا قاصرا حتما، مهما بذل أفراده أو بعضهم من جهود، لأن آليته الداخلية ستكون آلية كابحة لا دافعة. وما أحوجنا اليوم إلى هذه الصفات: المصداقية، والصراحة، والتنافس النزيه، والحوار البعيد عن التهديد والاتهام، والذاكرة التي تراكم - دون تشنج - الصواب وتستبعد - دون تشنج - الخطأ، والقدرة على سماع الرأي الأخر وعلى نقد الذات.

وتكمن أهمية كتاب يورغن فازلا في أن من أهم مصادره عبد الله القصيمي نفسه الذي تناوله الكاتب، حيث تخلى القصيمي عن موقفه الرافض للحديث عن حياته وسيرته بعد أن أباح للمؤلف بجوانب من حياته وسيرته لتضيف أهمية تميز هذه الدراسة التي ضمنها الكتاب، يقول المؤلف حول ذلك: بعد أن عثرت على القصيمي، وتخلى شيئا فشيئا عن موقفه الرافض في بادئ الأمر تجاه اهتمامي بشخصه، أصبح أهم شريك لي فيما أجريته من مقابلات، وأنا أشكر له الساعات الكثيرة التي خصصها للتحدث معي من عام 1993 حتى 1995، والسماح لي بالمشاركة في جلسات النقاش التي كان يعقدها كل أسبوع، وكانت أحاديثي الأخيرة مع القصيمي قد أجريت على سرير المرض قبل تسعة أشهر من وفاته في يناير (كانون الثاني) 1996م.

ومع أن هدف الكتاب عرض حياة وأعمال كاتب كثيرا ما وصفت صيرورته الثقافية بتعبير الانحراف والارتداد والانشقاق، لا بل إنه اتهم بالإلحاد والزندقة، إلا أن الهدف الأهم هو تقديم تكملة وتوسعة لتاريخ الفكر العربي الحديث من خلال تقديم القصيمي الذي ارتبطت سيرة حياته أكثر من سبعين عاما بهذه الحياة الفكرية، واتصل خلالها بجميع التيارات الدينية السياسية في العالم العربي، ودخل معها في كثير من الأحيان في نزاعات حادة، كما عبر عن ذلك المؤلف يورغن، مضيفا بالقول: الشيء المميز في سيرة حياة الكاتب العربي السعودي عبد الله بن علي النجدي القصيمي هو أن هذه السيرة تمثل نموذجا متناقضا كليا لـ«اتجاه الأسلمة»: فلقد تطور القصيمي من مؤيد قوي لحركة التجديد الوهابية، إلى ممثل لأكثر أشكال النقد الديني تطرفا وحدّة وبشكل لم يسبق له مثيل على الإطلاق في العالم العربي.

احتوى كتاب «عبد الله القصيمي.. التمرد على السلفية» للألماني يورغن فازلا على فصول خمسة، تناول الفصل الأول نشأة وسيرة القصيمي التعليمية واندرج عنه عنوانان: الطفولة والشباب: رحلة إلى المخافر الخارجية لنظام التعليم الإسلامي، ونجدي في القاهرة: خلاف القصيم مع الأزهر، في حين تناول الفصل الثاني من الكتاب التطورات الأيديولوجية التي حدثت عام 1930م والتي كانت مهمة بالنسبة للقصيم وحمل عنوان هذا الفصل: الداعية الأول للوهابية في مصر، ومنشورات القصيمي في الثلاثينيات، وغطى الفصل الثالث من الكتاب موضوع «طريق القصيمي إلى الانشقاق» و«تعدد الشخصيات». وهو ما عرض القصيمي لهجمات، وقاده إلى الانسحاب من الحياة العامة، وقد غطى ذلك الفصل الرابع من الكتاب الذي نتناول قراءته، وحمل عنوان «الضياع بين مختلف الاتجاهات»، مستعرضا الفراغ الأيديولوجي من عام 1947 إلى عام 1960. وجاء الفصل الخامس من الكتاب مثيرا وغنيا بالمعلومات وغطى موضوع تراجع الخطاب الإسلامية ومعه غالبية الموضوعات التي تناولها القصيمي، حيث فقد هذا الخطاب كثيرا من وزنه وأهميته كما فقدت الأيديولوجيات المختلفة كثيرا من مكانتها، ذلك أن المناخ الفكري والسياسي السائد في نحو عام 1960 كان يعطي أولوية للمسائل الاجتماعية والتركيز على المشكلات المتعلقة بقضية الاستقلال الوطني، وهو ما أدى إلى إرغام التيارات الأيديولوجية على الانضواء تحت لواء ثقافة الدولة المفروضة من فوق، وفي إطار وضع دولي جديد تمثل في تشكل المعسكرات الكبيرة، وكل ذلك حدث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد عنون المؤلف هذا الفصل بـ«من الشعبية الواسعة إلى الاستسلام اليائس»، واندرج تحته موضوع أعمال القصيمي المتأخرة منذ عام 1963، وأدرج الفصل موضوعات أربعة تحت إطارها وهي: العودة إلى حياة العامة: بيروت كمسرح جديد (1960 - 1971)، الاستفزازات وتحطيم الصور: مقولات أساسية من أعمال القصيمي المتأخرة، الألم والعجز والذاتية: العقيدة وإرثها المتناقل، الإنسان يختلق لنفسه ماردا جبارا.. المواقف السياسية للقصيمي، مفكر طليعي أم معول للهدم؟ الأعمال المتأخرة في مرآة القراءات النقدية، «ستار الصمت» عن مصير المنشق.

وضم الكتاب خاتمة وفهرس أعمال القصيمي ورسائل ومقابلات ومراجع ثانوية وصورا فوتوغرافية ضمت القصيمي مع أصدقائه ومريديه، بالإضافة إلى صور لبعض المخطوطات ومنها: ملاحظات ومقالات بخط اليد قدمها القصيمي سواء في ندوته أو كمشروع رسالة خاصة.

ويرجح المؤلف أن يكون ميلاد عبد الله بن علي النجدي القصيمي 1907م في قرية صغيرة اسمها خب الحلوة تقع في منطقة القصيم في نجد. والخب جمعها خبوب وتعني منخفضا في وادٍ صحراوي يسمح باستخدام الري الاصطناعي، ونشأ القصيمي في خب الحلوة في ظروف فقيرة للغاية وعندما كان في نحو الرابعة من عمره انفصل أبواه عن بعضيهما. وبينما تزوجت أمه مرة أخرى في قرية مجاورة غادر أبوه نجد الفقيرة المتخلفة وهاجر إلى خليج عمُان حيث استقر في الشارقة وعمل في تجارة اللؤلؤ، أما عبد الله الصغير فقد بقي عند جده لامه. ويبدو أن الجد لم يكن قادرا على إعالة حفيده ولذلك تركه وهو في الخامسة من عمره يعمل على هواه في سوق المواشي وفي الزراعة. ومن ذكريات الطفولة التي عبر عنها القصيمي في رسالة كتبها في السبعينيات ينطلق صدى مرارة كبيرة من مصيره واحتقار للوسط الاجتماعي الذي أمضى فيه أعوامه الأولى: «كل ما أعيه من الأيام الأولى لهذه الطفولة أنني وجدت مع جدي لأمي.. الذي كان القحط الإنساني والقحط الطبيعي وكوارث أخرى قد امتصت منه كل شيء.. أي إن كلمة فقر لا بد أن تعد مظلومة لو قلت إنه كان فقيرا جدا، أجرت نفسي بلا أجر.. نعم، بلا أجر. أعمل في سوق المواشي وفي الزراعة وجني النباتات البرية الصحراوية الطبيعية القليلة جدا في هذه البيئة التي لا يجود أو يعظم أو يبتسم فيها إلا القحط والعبوس والشحوب والضآلة والهوان»..

مر القصيمي بمحطات كثيرة من الرياض إلى الشارقة وبغداد ودلهي وبيروت والقاهرة والأزهر التي حلقت به إلى العوامل الكونية الأسطورية وقادته إلى الصدمة القاتلة، حيث قادته الأقدار إلى الرياض عاصمة الدولة السعودية الفتية إلى مخيم للمهاجرين من نجد التي حل بها الجفاف والمجاعة في عام 1918م، باحثا عن أبيه معتمدا على نفسه، وتوجه إلى الشارقة وهناك وصلها حيث يقيم والده، وكانت صدمة قاسية عندما التقى والده بعد غياب طويل حيث لم يعامله بمحبة وحنان وإنما بقسوة سلطوية ومن تقريره التالي يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات عن نوع التربية الدينية المبكرة التي خضع لها القصيمي: «وصلت إلى حيث يقيم والدي ولأول مرة جربت الأبوة.. كانت صدمة قاسية أكثر وأبعد من كل حساب.. لقد وجدته متدينا متعصبا بلا حدود».

وأبرز الكتاب علاقة القصيمي بتاجر من الشارقة اسمه علي المحمود لعب دورا مهما في حياته السياسية للدولة، كما أسس المحمود الذي كان قريبا من الحركة الوهابية عدة مدارس كان يعلم فيها أساتذة من نجد والعراق وكان بعضهم من خريجي جامعة الأزهر بالقاهرة، حيث انتسب القصيمي إلى مدرسة داخلية من المدارس التي أسسها علي المحمود، كما تأثر بعبد العزيز بن راشد التاجر فقد صادقه وقرر مرافقته، كما رافق عبد الله بن يابس، وأبرز الكتاب أيضا الشخصيات التي كانت لها تأثيرها على القصيمي وهم: طالب الحقوق المصري إبراهيم عبد الرحمن، ورجل الدولة اليمني أحمد محمد نعمان، والناشر اللبناني قدري قلعجي.

كما أبرز الكتاب قصصا عن القصيمي منها طرده من بيروت ومنعه من الدخول إليها، ثم تدخل كمال جنبلاط الذي كان وزير الداخلية في لبنان حيث عمل على إلغاء الأمر القاضي بمنعه من دخول لبنان، إضافة إلى قصة طلب دمشق للقصيمي للإقامة في سوريا لحمايته واستعدادها لإعطائه وظيفة تتناسب مع كفاءاته، ورفض القصيمي هذا العرض لأنه لا يريد أن يصبح أداة دعائية في يد حزب البعث.