باحث بريطاني: الغرب مسؤول عن عدم ظهور مجتمع مدني ديمقراطي في الشرق الأوسط

في ضوء الربيع العربي

«الفرصة الأخيرة.. الشرق الأوسط في الميزان»المؤلف: ديفيد غاردنرالناشر: «I.B. TAURIS»عدد الصفحات: 228
TT

في زحمة الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط وما رافقها – ولا يزال - صدور كم هائل من الكتب والمقالات، بين محلل للحدث ومستشفّ للقادم من الأيام، أو متابع ومؤرخ لهذا الإعصار الذي ضربت آثاره العالم بأسره. من هنا، فإن كتاب «الفرصة الأخيرة.. الشرق الأوسط في الميزان»، لمؤلفه ديفيد غاردنر هو على درجة من الأهمية والتميز بتحليله الموضوعي لخارطة المنطقة السياسية، والتغييرات الجارية، التي ما هي إلا النتاج الطبيعي لمتوالية من الأحداث أسهمت بها أطراف عدة، تعكس بشكل رئيسي تخبط السياسات الغربية في الشرق الأوسط.

إن المغامرات العسكرية التي قام بها جورج بوش لم تكن سوى الحدث الأكثر وضوحا، لكنه ليس الحدث الوحيد الذي يفضح المخططات الكارثية للغرب في المنطقة كما يقول المؤلف. فيذكر مثلا أن جورج بوش كان أيضا قد أكد لآرييل شارون في رسالة عام 2004 تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل كي تحتفظ بكامل المستوطنات في الضفة الغربية، الأمر الذي بدا للعرب حينها وكأنه وعد بلفور جديد، خصوصا أن توني بلير قد أيد الرسالة أيضا.

بعد ذلك يأتي بول بريمر، الذي عيّن حاكما في العراق، ليصور نفسه على أنه «ماك آرثر بلاد الرافدين» في مذكراته الصادرة عام 2006، وهو الذي ارتكب الأخطاء الفادحة بدءا بتسريحه للجيش العراقي، وإبعاده للبعثيين مما ترك المرارة في أحشاء أكثر من 400 ألف عراقي يحملون السلاح ولهم خبرة في استخدامه. ثم يأتي دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأسبق في حكومة بوش، ليقول بغطرسة ردا على مخاوف البعض من أن العراق قد «ضاع» بعد مشاهد النهب والدمار في الأيام الأولى للهجوم على بغداد عام 2003، إن «هذه الأمور تحدث»!

من النقاط المهمة التي يشير إليها الكتاب، ويكاد يكون المؤلف هو الوحيد الذي ينفرد بهذا التحليل، كما قرأت في الفترة الأخيرة، تلك العلاقة الغريبة التي تربط الولايات المتحدة بالدول العربية، فهي لم تكن قط علاقات «مؤسساتية» على الإطلاق، كتلك التي تربط أي حكومة في العالم بحكومة أخرى، إنما هي علاقات فردية مع «حكام» تحكمها صفقات البترول مقابل السلاح ودعم غير محدود لحكومات يفتقد أغلبها الشرعية.

وتحتل العلاقات العربية – الإسرائيلية حيزا كبيرا في كتاب «الفرصة الأخيرة»، إذ يتناولها بدرجة عالية من الواقعية الموضوعية، حيث يقول جون سنو، المذيع في تلفزيون القناة الرابعة الإنجليزية، عن الكتاب: «أخيرا، وجدنا كتابا يذهب إلى قلب الأزمة الأزلية في الشرق الأوسط. فديفيد غاردنر يكتب بصراحة وشجاعة عن الدعم الغربي غير المحدود للحكومات الديكتاتورية الفاسدة... كما يعري الدعم الأميركي – البريطاني لإسرائيل كي تشدد قبضتها على الفلسطينيين والضفة الغربية».

الكتاب صدر الشهر الماضي بنسخته الشعبية مع مقدمة عن الربيع العربي، إذ كانت النسخة الأولى قد صدرت بغلاف سميك في طبعته الأولى، ومع ذلك فهو عموما يناقش مسألة الاستقرار في المنطقة، الذي لا يمكن أن يحدث، على حد تعبير المؤلف، دون تحول سياسي يشمل الأنظمة العربية التي تستمد شرعيتها إما من النظم العسكرية المستبدة، وإما من الدعم الغربي لها. وبهذا كان الغرب بدوره، ومن خلال ارتباطه بهذه الأنظمة، قد أسهم في عملية تصعيد الحركات الجهادية في كل أنحاء العالم، وقتل أي مبادرة لظهور مجتمع مدني ديمقراطي في الشرق الأوسط.

والمؤلف يعرف المنطقة جيدا، كمحرر لشؤون الشرق الأوسط في جريدة «الفايننشيال تايمز»، وقد اعتمد في كتابه على العشرات من المقابلات التي أجراها مع شخصيات صانعة للحدث، ومؤثرة فيه، على مدى أكثر من عشرين سنة، مثل الملك حسين، وحسن نصر الله، ورجب طيب أردوغان، وحسني مبارك، ونتنياهو، وإيهود باراك، وبرويز مشرف، ورفيق الحريري، ولإسحق رابين، ووليد جنبلاط، وحسين فضل الله، ومصطفى مشهور، وبطرس غالي، وإدوارد سعيد، ومحمود الزهار، وآخرين، ظل يستفيد من كلماتهم ومواقفهم ويزنها في كتابه.

يمكن أن نجمل ما يريد الكاتب الإشارة إليه عن الأخطاء التي ارتكبها الغرب وارتدت عليه في النهاية في النقاط الأساسية التالية:

بالنسبة للعراق، هو يتتبع الخيوط المتشابكة هناك بدقة متناهية ليصل إلى أن التخلص من صدام حسين إنما خلق عشرات النسخ منه، وأن دعم الشيعة في وصولهم إلى السلطة في العراق إنما عزز الطائفية وانتهى بالعراق في أحضان إيران. فالحكام الشيعة الذين أتى بهم الغرب لم يبدِ أي منهم استعدادا لوضع مصلحة البلد فوق العقدة الطائفية، إنما جرته مواقفه إلى التحالف مع إيران ضد الغرب. وحزب الدعوة على سبيل المثال، استطاع أن يجر أعدادا كبيرة في صفوفه ليسخرهم في خدمة أهدافه الطائفية.

ويكشف الكاتب أيضا دور الفساد داخل المؤسسات الغربية والأميركية بشكل خاص، إذ يتطرق إلى التقارير التي كان مكتب المساءلة الحكومية الخاص بالتسلح يبعث بها إلى البنتاغون حول أهمية ضبط السلاح الأميركي الذي يدخل العراق. ففي أحد التقارير يذكر أن 110000 بندقية كلاشنيكوف و80 ألف مسدس اتجهت إلى أيدي قوات الأمن في العراق في عام 2007، لكنّ أحدا لا يعرف كيف تصرفت بها قوات الأمن، حيث اختفت لتظهر بيد الميليشيات، هذا علاوة على الكميات الضخمة من أسلحة الجيش العراقي التي فشلت قوات التحالف في العثور على مخازنها، والتي صارت هي الأخرى في أيدي الميليشيات المتعددة، لتستخدمها في قتل المدنيين وعناصر قوات التحالف.

النقطة الأخرى التي يؤكدها الكاتب هي فشل الغرب في احتواء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ويذكر المؤلف أن منظمة التحرير، وهي قوة علمانية، أرادت تجنب إضفاء أي طابع ديني على حركتها، وكانت قد ناشدت الأمم المتحدة والعالم عدة مرات، وعلى لسان أمين الحسيني، بعدم إسقاط ورقة القدس من يد المنظمة، حتى لا تستغلها منظمات دينية ويتحول النزاع إلى صراع ديني. لكن إسرائيل، ولتقويض المنظمة، قامت بتسليح حركة حماس الإسلامية، فتحولت الأخيرة ضد إسرائيل والغرب في نهاية الأمر!

وهنا يؤكد الكاتب أن الحروب «الاختيارية» التي شنها الغرب في السنوات الأخيرة، ولا يزال مثل حرب العراق، وحرب أفغانستان، وربما إيران.. إنما كسرت هيبة القوات الغربية وحولتها إلى كتائب صغيرة تدافع عن نفسها ضد هجمات فردية. وهنا يقول: «كأنك ترسل أفضل فريق كرة قدم في العالم ليلعب كرة السلة».

إننا بصدد كتاب يتسم بالذكاء في تحديده ومعالجته للنقاط الأساسية التي يتناولها، ومن المقرر أن تقوم «دار نون» المصرية بترجمته إلى العربية ونشره هذا العام.