ديكتاتورية «هوليوود» تتحكم في أمزجة العالم

خمس شركات تحتكر الإنتاج السينمائي في عاصمة الأفلام

TT

نجاح هوليوود ليس عائدا لتفوق منتجاتها الفنية فقط، وإنما لقدرتها الهائلة على التسويق. خمس شركات عملاقة تسيطر على الغالبية الساحقة من النتاجات في هوليوود وهي التي توزع الأحلام الأفكار والقيم على المتفرجين في العالم أجمع. هوليوود عاصمة الأفلام لكنها أيضا عاصمة القروض العملاقة، والمجازفات الاستثمارية، والعمل الشاق والربح الكثير. بعض خفايا هذه العاصمة السينمائية الفريدة، في هذا التحقيق.

تغني الأميركية الشقراء مادونا هوليوود، عاصمة الأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفزيونية، والفيديوهات الفنية، والأغاني، وهي تقول: «يأتي كل الناس إلى هوليوود، يريدون أن يكونوا جزءا منها، يريدون رؤية نجومها وشم هوائها. كيف لا، وهي الأجمل؟!».

لم تشتهر هذه الأغنية فقط لأنها عن هوليوود، ولأن مادونا هي التي تغنيها، ولكن لأن هوليوود نفسها هي التي أنتجتها، وأخرجتها، ووزعتها في كل أميركا والعالم. فعلت ذلك شركة «وورنر» للإنتاج السينمائي والتلفزيوني والغنائي: قدمتها كأغنية في ألبوم، وقدمتها خلال مهرجان «أوسكار» قبل بضع سنوات، وقدمتها في فيلم «تيل يو سيكريت» (أقول لك سرا).

هكذا نجحت ثقافة هوليوود باكتساح العالم ليس فقط بسبب الإبداع الفني الأميركي (الذي من أسبابه: الحضارة، والحرية، والبحث عن العدل، والتقدم التكنولوجي، والفردية، والخصوصية، والعقلانية). ولكن، أيضا، بسبب العقلية التجارية (التي تعتمد على المغامرة الخطيرة، والقروض العملاقة، والعمل الشاق، والربح الكثير). وفي الشهر الماضي في هوليوود في حفل توزيع جوائز «أوسكار» للأفلام السينمائية، ركزت الأضواء كثيرا على الممثلين والممثلات، وملابسهم، وتعليقاتهم. لكن، كان واضحا أن شركات الإنتاج والإخراج والتوزيع هي التي تحرك كل شيء، بما في ذلك حفل «أوسكار» نفسه. كانت هناك شركات، مثل: «وورنر» و«دريم ووركز» و«فوكس القرن العشرين» و«متروغلودين مايار» و«يونفيرسال» و«باراماونت» و«كولومبيا».

وكان هناك مخرجون مبدعون يتعاونون مع هذه الشركات أو يديرونها، مثل: ستيفن سبيلزبيرغ، مارتن سكورسيز، وودي ألن.

* سبيلزبيرغ: أفضل مخرج وأفضل زوج

* في كتابه «ستيفن سبيلبيرغ: قصة حياة»، كتب الصحافي الأميركي جوزيف ماكبرايد أنه في سنة 1970، كان سبيلبيرغ طالبا في المدرسة الثانوية. وفي وقت فراغه، كان يكتب سيناريوهات أفلام بدائية، ويصورها بكاميرا من النوع القديم، ويقطعها ويرصها ويعرض الأفلام على أصدقائه. كان يفعل كل شيء بنفسه. وفي وقت لاحق، عندما صار من أكبر مخرجي هوليوود، قال إنه افتقد العمل بمفرده، على الرغم من جيوش المساعدين والمستشارين الذين يعملون معه الآن.

وخلص الكتاب إلى أن سبيلبيرغ من نوع شخصية «أوبسيسيف» (الذي يحرص على مراقبة كل كبيرة وصغيرة في العمل، ويفضل أن يعمل كل شيء بمفرده ليرضي نفسه. يفضل سبيلزبيرغ ذلك ليقلل من التوتر الذي اشتهر به، والذي يسميه البعض حب السيطرة).

في الشهر الماضي في حفل «أوسكار»، كان فيلم «مغامرات تن تن» أول فيلم كرتون ينتجه سبيلزبيرغ. ومرات كثيرة خلال الإنتاج كان يحمل كاميرا إلكترونية صغيرة يصور بها مناظر الفيلم. وكان يكرر: «بفضل التكنولوجيا صرت سيد نفسي. أتذكر أيام صباي». ويفتخر بأنه، في عصر التكنولوجيا، صار من نوع «ملتي تاسك» (يفعل أكثر من شيء في وقت واحد: يصور بالكاميرا، يتكلم بالتليفون، ويصدر الأوامر للممثلين والممثلات). حتى الآن، شارك سبيلبيرغ في إنتاج وإخراج مئات الأفلام السينمائية والتلفزيونية. وتساعده زوجته وأربعة من أطفالهما السبعة الذين احترفوا الإنتاج السينمائي. كما يفتخر بأنه «زوج أحسن من أزواج كثيرين، وأب أحسن من آباء كثيرين»، كما قال. وسئل مرة عن كيف يوفق بين كل هذه الأشياء، فقال: «عندما تعمل عملا لعشرات السنين، يجب أن تكون قد تعلمت كيف تجعله سهلا. لهذا، أقدر على أن أشرف على إنتاج هذا الفيلم، وإخراج هذا المسلسل، ومشاهدة مباراة كرة السلة لهذا الابن، وتناول عشاء هادئ مع زوجتي»، وأضاف: «عندما أركز على شيء واحد، وأستبعد الأشياء الأخرى، أفقد الموضوعية».

لهذا، لم تكن صدفة أنه أنتج فيلم «مغامرات تن تن» بينما بدأ في إنتاج فيلم «وور هورس» (حمار الحرب الذي فاز أيضا بجوائز في مهرجان «أوسكار» الأخير). وكان يخطط لفيلم «أبراهام لنكولن» (الذي يصور مناظره حاليا، ويتوقع أن يفوز أيضا في السنة المقبلة).

* سكورسيس: مخرج الشباب

* وكان في مهرجان «أوسكار» المخرج مارتن سكورسيس. وقالت عنه الممثلة ليزا منيلي: «مارتن كان يجلس وراء الكاميرا التي تصورني وأنا أمثل، ويتحرك حركات تفيدني. طبعا، أنا لا أتابعها، لكني أحس بها»، كانت تتحدث عن فيلم «نيويورك، نيويورك» الذي أخرجه الرجل قبل عشرين سنة، والذي لعبت فيه دور البطولة.

حتى الآن، أخرج الرجل 22 فيلما. آخرها «هوغو» الذي فاز بعدة جوائز في مهرجان «أوسكار».

وقال عنه بات كيلي، مؤلف كتاب «سكورسيس: رحلة»: «نجح الرجل لأنه يخلط بين الإبداع والنظام، لأنه يتشدد في اتباع تعليماته كمخرج فيلم. ممثلون وممثلات قالوا لي إنه يتعالى عليهم، لكنهم يعرفون أن هذا من منطلق الحرص على نجاح التصوير» ، وأضاف: «ينتج الفيلم وكأنه يقود فرقة سيمفونية».

وربما يشذ سكورسيس عن غيره لأنه يرضي شباب الجيل الجديد في أفلامه، ويتابع مزاجهم، ويفهم أهدافهم. مثل أفلام: «ريجنغ بول» (الثور الهائج) و«أليس نوت هيا» (أليس لا تعيش هنا) و«مين ستريت» (شارع لعين). وأشار إلى مشهد الممثل دي نيرو يحاسب زوجته وأخاه، وهما يقفان أمامه، لأنهما يخونانه. وقال: «واحد من أكثر مشاهد الأفلام تسجيلا في الذاكرة. وواحد من إبداعات سكورسيس».

* وودي ألن: فيلسوف فوضوي

* في نفس مهرجان «أوسكار» كان هناك عبقري سينمائي آخر، هو وودي ألن. وقال عنه روبرت وياد، مؤلف كتاب «وودي ألن: وثيقة»: «ثلاث كلمات يوصف بها وودي ألن: عصبي، فوضوي، وفيلسوف. تنعكس هذه الكلمات على أفلام هذا المبدع»، وأشار إلى فيلم «ميدنايت إن باريس» (منتصف الليل في باريس) الذي نال جوائز في مهرجان «أوسكار» الأخير. زوج وزوجة أميركيان يسافران إلى باريس لقضاء شهر العسل. لكن، في منتصف كل ليلة، يترك الزوج الفندق، وينتظر سيارة عتيقة يعود عمرها إلى أكثر من مائة سنة. تنقله السيارة ليقابل فلاسفة وكتابا فرنسيين ماتوا منذ أزمان طويلة، مثل: جان جاك روسو. أو غير أميركيين، مثل: إرنست هيمنغواي، بابلو بيكاسو، سكوت فتزجيرالد. كل ليلة عند مدخل الفندق، يكون في السيارة العتيقة واحد من هؤلاء. يتبادلان التحية، ويذهبان إلى مكان الرجل، ويتحدثان عن الفلسفة والأدب. ومع اقتراب شروق الشمس، يعود إلى عروسه.

* تجارة ثقافية

* هذه أمثلة لثلاثة مبدعين أثروا دور السينما وقنوات ربما في كل العالم. لكن، ما كان إبداعهم الفني سينتشر لولا إبداع أميركي آخر هو: التجارة الثقافية.

حسب آخر إحصائيات، فإن نسبة 80 في المائة من الأفلام التي درّت أكبر دخل في تاريخ العالم أميركية، أو أجنبية صورت في استوديوهات أميركية، أو أجنبية، ولكن بتمويل وإنتاج أميركي، أو، في غياب كل هذه العوامل، تعكس الثقافة الأميركية والأفكار الأميركية.

أكبر فيلم إنتاجا وتوزيعا وأرباحا في تاريخ السينما الأميركية (وبالتالي العالمية) هو «تايتانيك» الذي حصد قرابة مليارين من الدولارات. ومن الأفلام التي حصدت مليار دولار: «جوراسيك بارك» (الحديقة الجوراسية)، و«ستار وورز» (حروب النجم)، و«إنديبندانس داي» (يوم الاستقلال)، و«ليون كنغ» (الملك الأسد، الفيلم الكرتوني الأفريقي).

من بين أكبر خمسة وعشرين فيلما في التاريخ، عشرون أميركيا. ومن الاستثناءات فيلمان، الأول: «باشون أوف كرايست» (عاطفة المسيح) أسترالي، لكن بطله هو الأميركي ميل غيبسون. الثاني: «هاري بوتر» البريطاني، لكن تمويله واستوديوهاته أميركية.

بالإضافة إلى الإبداع الفني الأميركي، لعب رأسماليو هوليوود دورا كبيرا في شهرة هذه الأفلام الخمسة والعشرين. وصار واضحا أنه ليس هناك من يجاري شركات الأفلام الأميركية في المغامرات الرأسمالية: الاقتراض الضخم، والصرف الكبير، والإدارة الصارمة والربح المجزي. وخلال العشر سنوات الماضية، بلغ دخل الشركات السينمائية الأميركية مليارا ونصف المليار دولار، مقابل نصف مليار دولار فقط للشركات السينمائية الأوروبية. هذا على الرغم من أن الشركات السينمائية الفرنسية، مثلا، تنتج كل سنة ضعف الإنتاج الأميركي.

* أفلام تسوق بالأكل والشراب

* شيء آخر أبدعه رأسماليو هوليوود، وهو ربط الأفلام السينمائية بالأكل والشراب. مثل التعاقد مع شركة «ماكدونالد» لساندويتشات الهامبورغر لتوزع رسومات ومجسمات وحيوانات من فيلم «الملك الأسد».

لماذا؟ ليقول الأطفال لوالديهم بعد مشاهدة الفيلم: «هل يمكن أن نذهب إلى مطعم (ماكدونالد) ونحصل على هدايا مجانية من الفيلم؟» أو يقولوا لوالديهم، بعد الأكل في المطعم: «هل يمكن أن نشاهد الفيلم بعد أن حصلنا على هدايا مجانية؟».

وظهر التعاون أيضا في مجال الأغاني. مثل تعاقد شركة «بيبسي كولا» مع الشركات التي تنتج وتوزع أغاني مادونا، ومايكل جاكسون، وبريتني سبيرز، وغيرهم.

وهكذا، تخلط الرأسمالية الأميركية الأكل والشراب والغناء والسينما والموسيقى في خلطة واحدة، جزء منها ثقافي وجزء آخر اقتصادي.

* احتكار ثقافي عالمي

* مثلما صار الاحتكار مشكلة في النظام الرأسمالي الأميركي (تشتري شركات بعضها لتقل المنافسة)، صار مشكلة في الحركة الثقافية الأميركية. وذلك لأن شركات إنتاج وتوزيع الأفلام والمسلسلات والأغاني تفعل الشيء نفسه. قبل ثلاثين سنة تقريبا، كانت هناك مئات الشركات في هذه المجالات. لكن في الوقت الحالي، تركزت كل هذه النشاطات في أقل من عشر شركات.

وحسب أمثلة ذكرها كتاب «تاريخ السينما»: إذا كنت تملك شركة استوديوهات أغان ومحطات إذاعة، تنشر الأغنيات في الإذاعة. وإذا كنت تملك شركة استوديوهات أغان واستوديوهات أفلام، تجعل الأغنيات تظهر في الأفلام. وإذا كنت تملك شركة استوديوهات أفلام ومحلات تأجير فيديوهات، يسهل عليك تأجير الأفلام.

وفي كل الأحوال، يقل خطر المغامرة لأنه إذا فشلت الأغنية، يمكن أن ينجح الفيلم. وإذا لم يشاهد الناس الفيلم في دور السينما، يمكن أن يشتروه في فيديو ويشاهدوه في منازلهم. وإذا لم يفشل أي شيء، يتضاعف الربح.

هناك رأيان حول هذا الموضوع، حسب كتاب توم زانلو: «سينما العولمة»: الأول يشيد بنجاح الأميركيين في خلط الثقافة والفكر والقيم والمأكولات والمشروبات والملابس والعطور والإكسسوارات.

الثاني ينتقد ما يسميه «الاستعمار الثقافي» و«الهيمنة الثقافية» «الفساد الثقافي» (نشر أفكار وعادات تفسد أفكارا وعادات أخرى).

* «مدرسة فرانكفورت» تحذر من الأنانية

* ويشير الكتاب إلى «مدرسة فرانكفورت»، إشارة إلى مثقفين أوروبيين انتقدوا، وينتقدون، الحضارة الغربية، ليس من منطلق شيوعي، ولكن اشتراكي اجتماعي (ينتقدون ديكتاتورية الشيوعية، لكنهم يعترفون باستغلال الرأسمالية). يقولون إن زيادة الحياة الحضارية أوجدت ثقافة جديدة، وربما متناقضة: فيها حرية وإبداع، لكن فيها فردية وأنانية.

ولأنه مع ظهور الشركات الفنية العملاقة في هوليوود، اختلطت الثقافة بالتجارة. لهذا، يخشى تلاميذ «مدرسة فرانكفورت» من أن التجارة سوف تبتلع الثقافة في نهاية المطاف. مثلما ابتلعت شركة «وول مارت» للسوبر ماركت المحلات التجارية العائلية الصغيرة. ومثلما بلعت شركة «ستارباكس» المقاهي الشعبية الصغيرة.

لهذا، هناك خوف من أن تتمكن شركات هوليوود الفنية العملاقة من ابتلاع الاستوديوهات المحلية والشخصية والتعاونية والاجتماعية، ليس فقط داخل أميركا، ولكن أيضا في العالم.

حسب كتاب «سينما العولمة»، تسيطر على تجارة النفط العالمية خمس شركات نفط عملاقة، وتسيطر على النظام البنكي العالمي خمس بنوك عملاقة، وتسيطر على إنتاج الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية في هوليوود خمس شركات عملاقة.

وأخيرا، حتى لو قبل الناس احتكارات البنوك وشركات النفط؛ فهل سيقبلون احتكار خمس شركات للثقافة، ليس فقط داخل أميركا، ولكن أيضا حول العالم؟