الليبرالية وتأسيس دولة القانون

أسئلة تعيد طرحها انتفاضات الشعوب العربية

جون لوك
TT

كان عصر جون لوك عصر الطوائف والمذاهب المتناحرة. إنه يشبه عصرنا العربي الراهن إلى حد كبير. وبالتالي فلكي نحل مشاكلنا ينبغي أن نفهم كيف حلت الأمم المتطورة مشاكلها.

* العنف مرفوض في المجتمع الليبرالي القائم على العقل والاحترام المتبادل. العنف مسموح به في حالة الدفاع عن النفس فقط أو الدفاع عن شخص مغدور يتعرض للضرب والعدوان.

* كل مجتمع يضمن لأفراده هذه الحقوق الأساسية يمكن القول بأنه مجتمع ليبرالي عقلاني. كما أن لكل فرد الحق في الإيمان بدينه أو مذهبه بشرط ألا يفرض ذلك بالقوة على الآخرين.

ساهم في تأليف هذا الكتاب الجماعي البروفسور جان فرانسوا ماتيي أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة نيس بجنوب فرنسا. ومعلوم أنه من مواليد وهران بالجزائر عام 1941. الكتاب مكرس لدراسة أعمال المفكر الإنجليزي الشهير جون لوك، وخاصة كتابيه عن التسامح، والحكومة المدنية. وهو موضوع يطغى على الأدبيات العربية في هذه الأيام بعد الثورات والانتفاضات الربيعية. فالبعض يخشى من هيمنة الدولة الدينية على المجتمعات العربية بعد اكتساح الإخوان المسلمين والسلفيين للانتخابات الأخيرة. ولكن هناك شبه إجماع بين المثقفين العرب على ضرورة تشكيل دولة مدنية يتسع صدرها للجميع.. فمن نظّر لهذه الفكرة يا ترى لأول مرة؟ ومن ألف أول رسالة في التسامح بغية تحقيق التعايش السلمي بين السكان الذين يختلفون مذهبيا داخل إطار الدولة المدنية؟ إنه هذا الفيلسوف الإنجليزي الكبير.

ومعلوم أنه يعتبر أحد كبار فلاسفة التنوير، ليس فقط على المستوى الإنجليزي وإنما أيضا الأوروبي والعالمي. وقد عاش 72 عاما بين عامي 1632-1704. وكانت هذه المدة كافية لكي يملأ الدنيا ويشغل الناس بعلمه ونظرياته السياسية والفلسفية. ويعتبر جون لوك أهم فيلسوف إنجليزي تنويري في العصور الحديثة. وتفتخر به إنجلترا مثلما تفتخر بإسحاق نيوتن الذي اكتشف قانون الجاذبية الكونية. ولم يكن فولتير الفرنسي يحلف إلا بهما. وأما على المستوى السياسي فيعتبر جون لوك بمثابة أحد مؤسسي النظام الليبرالي الديمقراطي الحديث إن لم يكن مؤسسه الأول. ولذا كان تأثيره على عصره والعصور اللاحقة ضخما في كل الميادين.

لقد ولد في مدينة صغيرة بالقرب من مدينة بريستول. وكان والده محاميا ثم موظفا كبيرا في خدمة البرلمان عام 1648. ولكنه أفلس وخسر كل شيء بسبب الحرب الأهلية التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في إنجلترا. ومعلوم أن عصر جون لوك كان عصر الطوائف والمذاهب المتناحرة. إنه يشبه عصرنا العربي الراهن إلى حد كبير. وبالتالي فلكي نحل مشاكلنا ينبغي أن نفهم كيف حلت الأمم المتطورة مشاكلها. وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة تأسيس علم الأديان والمذاهب المقارنة.. فمن لا يقارن لا يعرف، كما يقول المثل الصيني.

لقد كان عصر جون لوك هو عصر الأصوليات المتعصبة، وكان أتباع البابا، أي الكاثوليك، يكرهون جدا أبناء المذهب المسيحي الآخر، أي المذهب البروتستانتي الذي ينتمي إليه هو شخصيا كمعظم الإنجليز. كانوا يتهمونهم بالهرطقة والزندقة. ولكن لسوء حظ الكاثوليك فإن عدد البروتستانتيين في إنجلترا كان أكبر منهم بكثير وذلك على عكس فرنسا. وقد درس جون لوك في طفولته اللغة اليونانية واللاتينية لأنهما كانتا لغتي العلم والفلسفة في ذلك الزمان. كما درس فلسفة أرسطو في مدرسة ويستمنستر بين عامي 1646 - 1652. ثم أصبح محاميا في مدينة أكسفورد. ومعلوم أنه كانت توجد آنذاك منافسة كبيرة بين كمبردج وأكسفورد. وكلتاهما مدينتان جامعيتان من أعلى طراز.. فالأولى كان يسيطر عليها أتباع أفلاطون، والثانية أتباع أرسطو. نقول ذلك ونحن نعلم أن الصراع بين الفلسفة الأفلاطونية والفلسفة الأرسطوطاليسية اخترق تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره سواء في العالم الأوروبي، أو في العالم العربي الإسلامي. فالأفلاطونية كانت مثالية أو روحانية جدا، وأما الأرسطوطاليسية فكانت واقعية أو مادية عموما. وقد انعكس ذلك على الفلسفة العربية الإسلامية ذاتها.. فابن رشد مثلا كان واقعيا من أتباع أرسطو، وابن سينا كان مثاليا مليئا بشطحات الخيال والروحانيات على طريقة أستاذه أفلاطون.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن الفلسفة الحديثة، أي فلسفة فرانسيس بيكون وتوماس هوبز ورينيه ديكارت، كانت قد نقدت بشدة فلسفة أرسطو وأفلاطون وأسست ما يدعى بالفلسفة الحديثة. وبالتالي فقد استفاد جون لوك من ذلك كله وبنى عليه نظرياته الفكرية والسياسية المقبلة.

ثم ارتبط الفيلسوف المقبل بعلاقة صداقة مع أحد كبار رجال السياسة الإنجليز، وهو لورد آشلي الذي كان وزيرا عند الملك شارل الثاني. ولكن الظروف السياسية انقلبت عليه فاضطر إلى اللجوء للمنفى في هولندا مع جون لوك لمدة ست سنوات. وفي أثناء هذه الفترة درس جون لوك أحوال أوروبا كثيرا. وفكر في المشاكل الطائفية والحروب الأهلية. وخرج بنظرية جديدة لتجاوز كل ذلك في المستقبل. خرج بكتاب شهير تحت عنوان: «رسالة في التسامح». وقلده فولتير في ما بعد عندما نشر كتابا بنفس الاسم كانت الكاتبة السورية هنرييت عبودي قد ترجمته بشكل ناجح وناصع إلى العربية ونشرته «رابطة العقلانيين العرب» مؤخرا.

لقد بلور هذا الفيلسوف الإنجليزي النظرية الليبرالية لدولة الحق والقانون. ودافع فيها عن حق الملكية والحرية الفردية.. وعندئذ خرج بالقانون التالي: إن حريتي تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين. وبالتالي فإذا كان هو فيلسوف الليبرالية، أي الحرية، فإن ذلك لا يعني أنه مع الفوضى. فالمجتمع الليبرالي هو ذلك المجتمع الذي يحترم فيه كل شخص حرية الآخرين ولا يعتدي عليها. وعلى هذا النحو تنتظم أمور المجتمع.

وقال جون لوك إن الحرية لا تعني الإباحية وإنما المسؤولية.. فالله زودنا بالعقل والحرية لكي نستخدمهما بشكل صحيح لا بشكل خاطئ. والقانون الطبيعي الذي يحكم البشر قائم على العقل، وهو ذو أصل إلهي.

ثم نص الفيلسوف الكبير على المبادئ التالية: على الناس أن يحافظوا على حياتهم بقدر المستطاع لأنها هبة من الله. على الناس أن يحترموا حياة بعضهم البعض وملكية بعضهم البعض وإلا فإن المجتمع يدخل في حالة من المشاعية والاضطراب الخطير. وهذا ما يؤدي إلى تدمير الحياة الاجتماعية. انظر إلى الحروب الأهلية وانهيار الدولة وكل المشاكل المرعبة الناتجة عن ذلك.

على كل فرد أن يحيا بشكل منسجم مع بقية أعضاء المجتمع من دون اللجوء إلى العنف.. فالعنف مرفوض في المجتمع الليبرالي القائم على العقل والاحترام المتبادل. العنف مسموح به في حالة الدفاع عن النفس فقط أو الدفاع عن شخص مغدور يتعرض للضرب والعدوان، والحوار الحضاري الديمقراطي هو البديل عن العنف في المجتمعات المتقدمة.

لكي تسير أمور المجتمع على ما يرام ينبغي على الناس أن يحترموا المواثيق والعهود التي قطعوها على أنفسهم. فإذا أخل كل واحد بكلامه أو لم يحترم الوعد الذي قطعه على نفسه فإن المجتمع يخرب وينهار. وبالتالي فالحرية تعني احترام كل هذه المبادئ. الحرية مسؤولية في نظر جون لوك. وقوانين الطبيعة هي التي تفرض علينا ذلك. وهي قوانين عقلانية تنطبق على جميع البشر.

ثم قال جون لوك: في المجتمع الليبرالي الحديث فإن للإنسان الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الاستمتاع بأملاكه الشخصية. وكل مجتمع يضمن لأفراده هذه الحقوق الأساسية يمكن القول بأنه مجتمع ليبرالي عقلاني. كما أن لكل فرد الحق في الإيمان بدينه أو مذهبه بشرط ألا يفرض ذلك بالقوة على الآخرين. وهنا أسس التسامح بين المذاهب والأديان. بل ووصل الأمر به عام 1689 إلى حد الدفاع عن المسلمين واليهود وما عداهما من غير المسيحيين العائشين في المجتمع الإنجليزي. وقال بالحرف الواحد: لا ينبغي إطلاقا حرمانهم من الحقوق المدنية أو نبذهم من المجتمع لأسباب دينية أو طائفية.. انظر كتابه الشهير: «رسالة في التسامح». وبالتالي فما نص عليه قبل ثلاثة قرون ونصف القرن هو ما نحاول جاهدين أن نحققه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم!

أما المجتمعات السابقة فكان يسودها قانون الغاب والذئاب.. بمعنى أن القوي كان يقتل الضعيف ويعتدي على ملكيته. ولهذا السبب فإن البشرية المتحضرة خرجت من تلك الحالة البدائية الهمجية لحسن الحظ وانتقلت إلى حالة يسودها حكم القانون.

ثم يقول الكتاب إن فكر جون لوك هو الذي أسس الليبرالية، أي فلسفة الحرية، وذلك على كلا الصعيدين السياسي والاقتصادي. وبالتالي فالمجتمع الإنجليزي المتحضر ناتج عن أفكار هذا الفيلسوف الكبير.

على المستوى السياسي كان السؤال المطروح على لوك هو التالي: هل يمكن الخروج من الحكم الديكتاتوري المفروض على الناس فرضا من فوق؟ وكيف؟ ثم هل يمكن أن نتوصل إلى نظام حكم جديد قائم على الحرية، أي على احترام كرامة الناس المحكومين؟

هذا هو السؤال الأساسي الذي كان مطروحا في ذلك العصر المضطرب الذي شهد أبشع أنواع الاستبداد والحروب الأهلية. ولهذا السبب بذل جون لوك جهودا مضنية لمحاربة الطغيان وتأسيس السياسة على أساس آخر، هو الحرية والمسؤولية. فحكم التعسف والاعتباط ينبغي أن ينتهي إلى غير رجعة إذا ما أردنا أن نصبح حضاريين متمدنين.

وبالفعل فقد تراجع الاستبداد في إنجلترا بعد الثورة المجيدة في 1688 التي ساهم لوك في التنظير لها ودعمها. ويمكن القول إن أفكاره كانت وراء اندلاع هذه الثورة الإنجليزية التي أسست ولأول مرة في التاريخ دولة الحق والقانون.

وهكذا سبقت إنجلترا فرنسا بمائة سنة إلى تأسيس النظام الديمقراطي الليبرالي الحر. ولهذا السبب مجدها فولتير بعد أن زارها عام 1728 ورأى كل التقدم الذي حققته، وأسف لأن فرنسا لا تزال محكومة من قبل نظام أصولي فاسد ومستبد بشكل مطلق. والمقصود به نظام لويس الخامس عشر. ومعلوم أن فولتير كان معجبا جدا بأفكار جون لوك. وقد حاول ترجمتها ونقلها إلى فرنسا لكي يشيع فيها جو الحرية والتسامح والديمقراطية.

وبالتالي فلا يمكن فهم النظام السياسي الحديث الذي تشكل في أوروبا لاحقا إلا إذا درسنا فلسفة جون لوك.. فقد كان المنظر الأكبر لهذه الثورة الديمقراطية التي زعزعت العروش وأنظمة الطغيان والاستبداد من أساسها. يضاف إلى ذلك أن جون لوك أسس فلسفة التسامح الديني في أوروبا، ودعا إلى محاربة الأصوليين والطائفيين الذين يبثون الأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد ويمهدون للحرب الأهلية المدمرة.