كاتب يهودي: إنها ليست عودة.. بل احتلال

الصهيونية خلقت لليهود قومية لم تكن موجودة

غلاف الكتاب
TT

* يرى وايزمن وموسى هس قبله، أن الاندماج بالآخرين يعني الموت لليهودي لأنه فريد. كما يريان أن الاختلاف بين اليهودي وغيره، هو اختلاف عرقي، وهذا ما يبقي الصراع مستمرا ولا يمكن تفاديه. ويعتقد عتصمون أن هذه القضية ما زالت قائمة عند اليهود، ولم تحل إلى اليوم.

جلعاد عتصمون كاتب وموسيقار إسرائيلي يعيش في بريطانيا وكتابه هذا المعنون «wandering» هو آخر كتبه. وربما يظن من يقرأ العنوان الرئيسي أن الكتاب يناقش فكرة اليهودي التائه، كما يوحي العنوان.. فكلمة «wandering»، هي الصفة التي أطلقت على اليهودي في القرون الوسطى. لكن المؤلف يوضح مضمون الكتاب بعنوانه الجانبي، الذي يشير إلى أنه دراسة للهوية اليهودية، حيث يستعرض فيه العناصر المحددة لهذه الهوية والاختلافات حولها، وفيما إذا كان المحدد لها الدين أو الآيديولوجيا، أو أنها فقط حالة ذهنية. ولكن عتصمون لا يقتصر في كتابه على هذه القضايا، بل يتجاوزها إلى قضايا هي موضع جدل ونقاش، ليس فقط بين اليهود وغيرهم بل بين اليهود أنفسهم.

وموضوع الهوية من المواضيع التي يهتم بها اليهود كثيرا ويناقشونه ويجادلون حوله. وكلما تقدم الزمن تظهر قضية جديدة تتعلق بهوية اليهودي. فالديانة اليهودية التي يعتبرها الكثير من اليهود هوية لهم، لم تعد موحدة كما كانت، بل افترقت إلى فرق متعددة تختلف في معتقداتها وممارساتها، إلى حد أن بعضها لا يعترف بالبعض الآخر. ثم بعد عقود من ذلك ظهرت الصهيونية والهولوكوست. ثم ظهرت إسرائيل أيضا، وأصبح لهذه ارتباط بالهوية اليهودية، بشكل مباشر أو غير مباشر. وعلى غير ما يتوقعه القارئ، لا يتطرق المؤلف إلى قضية العنصر اليهودي فهو يهمله ولا يهتم به، ويقول في بداية الكتاب «إن القارئ سوف لا يجد فيه حتى ولا إشارة واحدة إلى هذا الموضوع». ويوضح أن السبب في ذلك هو تبنيه رأي شلومو ساند (زند)، من أن اليهود ليسوا من أصل واحد، وإنما هم من أصول متعددة، اعتنقوا الدين اليهودي في مراحل مختلفة من تاريخهم.

وهو أيضا يرى رأي ساند أن الصهيونية هي التي خلقت لليهود قومية لم تكن موجودة، تأثرا بالقومية الألمانية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر، كما أنها قامت باستخدام التوراة ورموزها، واستعمال الآثار من أجل ترسيخ فكرة القومية والتأكيد على وجود دولة عظمى للملك داود، وربط التاريخ الحديث بالقديم، كما فعلت بعض الشعوب الأوروبية لتاريخها. وهو أيضا يرى رأي ساند أن الصهيونية هي التي ابتدعت كذبا فكرة العودة إلى الوطن، على أساس أن الرومان طردوا اليهود وهم يعودون إلى حيث طردوا، إذ لم يكن من سياسة الرومان تهجير الشعوب المحتلة، فاليهود لم يهجروا، وحينئذ لا يكون للمهاجرين الحاليين علاقة بفلسطين كوطن يعودون إليه. ولذلك يرى عتصمون أن الصهيونية نشأت وقامت وأسست على أساطير. وإضافة إلى أن آراء ساند تفتح الطريق واسعا أمام مناقشة القومية اليهودية، التي هي هوية للكثير من اليهود، فهي كذلك تفتحه أمام فكرة العداء للسامية، حيث لا يكون لها معنى، بعد أن أصبح لليهود أكثر من أصل، ويكون نقد الآخرين لهم ضمن إطار النقد العادي.

ومن قضايا الهوية التي يتطرق إليها عتصمون، هي ما يسميه الثنائية عند اليهودي العلماني بصفة خاصة. يشرح هذا بالقول إن اليهودي يريد من جانب أن يعتبر نفسه متساويا مع الآخرين (في الإنسانية) ويكون واحدا منهم، ولكنه في الوقت نفسه يريد أن يكون متميزا عنهم ومتمسكا بما يسميه المؤلف «القبلية». وفكرة التميز أكد عليها بعض زعماء الصهيونية الأوائل، مثل وايزمن الذي يرى أن الاندماج بالآخرين يعني الموت لليهودي لأنه فريد، وأكد عليها أيضا موسى هس قبل وايزمن، حيث رأى أن الاختلاف بين اليهودي وغيره هو اختلاف عرقي، وهذا ما يبقي الصراع مستمرا ولا يمكن تفاديه كما يقول. ويرى عتصمون أن هذه القضية ما زالت قائمة عند اليهود ولم تحل إلى اليوم. وفي رأيه أن اليهودي بطبيعته لا يمكن أن يندمج، حتى الذين اندمجوا لم يكونوا يؤمنون حقيقة بالاندماج.

ومن القضايا الأخرى التي يتطرق إليها المؤلف ويراها مرتبطة بالهوية، والتي قد لا يعرف عنها الناس، هي قضية خوف اليهودي من الآخرين. ويرى المؤلف أن الخوف يسيطر على اليهود جماعيا من توقع حدوث ما لا تحمد عقباه لهم، وأن هذا الخوف، مترسخ عند اليهودي وملازم له. ويقول عن ذلك «إنه لكي تكون يهوديا يجب أن ترى تهديدا لك في كل شخص غير يهودي، وهذا يعني أنك يجب أن تكون حذرا دائما». وبسبب هذا الخوف، كما يقول، يحاول اليهود أن يكونوا قريبين من مراكز القوى، ومتعاونين معها ومؤثرين عليها، عن طريق اللوبي - وهذا ليس مؤامرة منهم وإنما يقومون به علنا - كما يقول. وهو يعزو أصول هذا الخوف إلى التوراة التي هي، في رأيه، قد وضعت هذه الأصول ورسختها. وهو يضرب مثلا على ذلك بالقصة التي يتضمنها سفر «أستير».

أما عن قضية الهولوكوست، التي يعتبرها بعض اليهود هوية لهم، حيث يقولون «هتلر جعلني يهوديا»، فعتصمون لا ينكرها ولا يشكك فيها، ولكنه يقول إنها قد أصبحت دينا له أنبياؤه وكهنته وأضرحته المقدسة. وهو يرى أنه يجب أن ينتزع منها المضمون الديني، وألا تعتبر قضية فريدة لا مثيل لها في التاريخ، بل يجب أن تبقى قضية تاريخية كالقضايا الأخرى، وتدرس وتناقش على هذا الأساس. كما يرى كذلك أن أسئلة يجب أن تطرح حول هذا الموضوع، مثل لماذا يكره اليهود؟ ولماذا قتلهم جيرانهم؟ وما هي الفائدة من تشريع قوانين ضد منكري الهولوكوست؟ «وإذا لم نسأل هذه الأسئلة فإننا سنبقى ضحية اللوبي الصهيوني، ونبقى نقتل باسم المعاناة اليهودية». ثم يذكر أن قضية الهولوكوست تستعملها إسرائيل منذ عام 67 كوسيلة سياسية، عندما احتاجت إلى تبرير أخلاقي لكونها محتلا غير أخلاقي. وتستعملها كذلك كحماية لها من الاتهام باضطهادها للفلسطينيين.

ويرى عتصمون أن اليهود العلمانيين في إسرائيل، أضاعوا الكثير من يهوديتهم، وأخذوا يقلدون الأوروبيين في حياتهم ويسلكون سلوكهم. وهم اليوم يهتمون بالبحث عن حياة أكثر رفاهية أكثر من اهتمامهم بالدفاع عن البلد والموت في سبيله، بل الكثير منهم محبطون ويريدون الخروج منه. ومن المفارقات التي يذكرها المؤلف، أن اليهودي يعتز بكونه يهوديا، ولكن ما إن يقال له أنت يهودي أو سلوكك يشبه سلوك اليهودي، فإنه ينتفض ويعتبر ذلك إهانة عنصرية.

وعلى الرغم من أن الكتاب مدحه باحثون وكتاب معروفون من غير اليهود، وأثنوا عليه لجرأة مؤلفه في تطرقه إلى مواضيع يهودية حساسة، فإن اليهود على اختلاف مشاربهم وأطيافهم وجهوا وما زالوا يوجهون له نقدا قاسيا، لأنهم يرون فيه تجاوزا للخطوط الحمراء، بسبب بعض الآراء التي يطرحها، كرأيه بأن القومية اليهودية توسعية وعنيفة، وأن إسرائيل تقوم بالتطهير العرقي للفلسطينيين منذ إنشائها، وأن ما تقوم به هو تطبيق لما ورد في التوراة، وأن ما قام به الصهاينة في فلسطين هو احتلال وليس عودة، إلى غير ذلك من آراء.