رحيل أنطونيو طابوكي الكاتب الإيطالي الأكثر برتغالية

أحبّ فرناندو بيسوا.. وشاءت الأقدار أن يموت في لشبونة

أنطونيو طابوكي
TT

كانت مفاجأة سارة لأنطونيو طابوكي (أو تابوكي، كما يكتب البعض!)، أحد أكبر كتاب إيطاليا في الفترة الحالية (الذي رحل الأسبوع الماضي عن سن الثامنة والستين بعد مرض عضال)، أن يرى اسمه في قائمة الأدباء البرتغاليين المدعوين على هامش معرض الكتاب في باريس سنة 2000، والذي كانت البرتغال ضيفة الشرف فيه. وبقدر اعتزازه من هذا التقدير، غير المنتظر، أبى إلا أن يكتب مقالا في صحيفة «لوموند» الفرنسية يؤكد فيه أنه سيظل، دوما، كاتبا إيطاليا.

ولد طابوكي في مدينة بيزا سنة 1943، واهتم مبكرا بالأدب خاصة، والثقافة بالمعنى العام، بما فيه الفن التشكيلي. وبدأ في كتابة نصوص اطلع عليها الكاتب الإيطالي الكبير إيتالو كالفينو، وقرر نشرها. وابتداء من سنة 1962، وكان حينها طالبا في باريس، اكتشف نصوص البرتغالي فرناندو بيسوا، ولم «يشف» منه أبدا (لعل القدر كان رحيما معه، فأخذ روحه في لشبونة فرناندو بيسوا)، وكان لقاء أدبيا حاسما سيقوده إلى الاهتمام بالبرتغال وبثقافته، من خلال دراسات في الأدب البرتغالي وأطروحة حول السوريالية في مدينة سيينا، ثم من خلال ترجمة كل أعمال بيسوا إلى اللغة الإيطالية، إضافة إلى الإقامة في البرتغال والتدريس في إحدى جامعاتها.

ويتميز أنطونيو طابوكي عن كثيرين من كتاب ومثقفي إيطاليا الذين اكتفوا، منذ عقود، بالتفرج من فوق، على الصراعات السياسية التي تتخبط فيها إيطاليا وجعلتها تعرف رقما قياسيا في عدد رؤساء وزرائها، بالانخراط في النضالات الاجتماعية والسياسية، على غرار المخرج الإيطالي الكبير ناني موريتي الذي كان لا يتوانى عن شن تهجماته العنيفة على زعامة اليسار الإيطالي، الذي تخلى عن كل مبادئ أنطونيو غرامشي وأدبيات اليسار التاريخية، تاركا إيطاليا لرجل غبي يفتخر بتكديس الأموال والنساء والقنوات التلفزيونية.

في كتابه الأهم «تريستان يموت»، يوجه الكاتب هجوما للحقبة البيرلوسكونية التي أفسدت الثقافة والذوق الإيطاليين وجعلت الإعلام في خدمة الجشع التجاري. وقد قاده انخراطه السياسي إلى المشاركة في تأسيس البرلمان الدولي للكتاب، سنة 1993، بهدف مؤازرة المؤلفين من ضحايا التهديدات الإرهابية. كما أنه انخرط، في السنوات الأخيرة، في الدفاع عن الغجر ضحايا العنصرية الإيطالية، وكأنما كان يستبق التحذير من مسار الاحتقار والتشويه الذي سيعرفه هؤلاء الغجر الرحل في فرنسا نيكولا ساركوزي ووزراء داخليته. ولم يسلم الكاتب من دفع الثمن غاليا، فقد طالبه رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي ريناتو شيفاني، أمام القضاء بتسديد غرامة مليون و350 ألف يورو بسبب مقال له نشر طابوكي في صحيفة «يونيتا» اليسارية. وكانت «جريمة» طابوكي متمثلة في مساءلة السيد شيفاني، وهو شخصية مركزية في السلطة البيرلوسكونية، عن ماضيه وعلاقات أعماله وصداقاته المشبوهة. وكم كان الكاتب الإيطالي سعيدا وأنا ألتقي به مبلغا إياه تحيات الشاعر حسن نجمي، رئيس اتحاد كتاب المغرب، ودعم الاتحاد له في نضالاته المتعددة ومؤازرته في محنته السياسية. ولكنه لم يخف حزنه من مصير نصوص له تترجم إلى العربية من دون علمه ومن دون علم دور النشر الأصلية. وأتذكر أنه طلب مني أن أرسل له بعض كتبه المترجمة، إلى لغة الضاد، ولكني تقاعست لأسباب كثيرة.

يعتبر طابوكي كاتبا لا نمطيا، وتصعب مقارنته بكتاب إيطاليا الحاليين، ومن بينها أنه يحرص في كتبه المترجمة إلى الفرنسية من قبل صديقه برنارد كومونت، الذي كان من أعلن رسميا عن وفاة طابوكي، على ألا تحمل تسمية «رواية»، ويضع مكانها «هلوسة»، أو «شهادة» أو «اعتراف».

لم يكن منتظرا من هذا المتخصص الكبير في الأدب البرتغالي، وفي رمزه الأكبر فرناندو بيسوا، الذي لا تزال روحه تسكن لشبونة ومقاهيها، ولا يزال البرتغاليون يحسون بذات «الصوداد» التي أحس بها بيسوا في كتاباته الطويلة، إلا أن يكون ذا نزعة أوروبية بالمعنى الواسع للكلمة، وقد كان مراقبا دقيقا للحياة السياسية الأوروبية، تعبر عن هذا مقالاته الصحافية الكثيرة.. وشاءت له الأقدار «الرحيمة» أن يغادرنا في لشبونة، ذات المدينة التي تقاسم مع بيسوا عشقها.