لم يبقَ في عراق اليوم فن له علاقة بالحركات الفنية التي أسسها رواد الفن الحديث

كتاب «الفن في العراق اليوم» لضياء العزاوي وتشارلز بوكوك وآخرين

غلاف «الفن في العراق اليوم»
TT

صدر حديثا كتاب «الفن العراقي اليوم» باللغتين العربية والإنجليزية، عن منشورات «سكيرا» في إيطاليا، وبدعم من مؤسستي غاليري «ميم» وشركة «نفط الهلال» في دبي، ويقع في أكثر من 500 صفحة من القطع الكبير الفاخر، ويتضمن لوحات لـ16 فنانا عراقيا من المشاركين في الكتاب، يشكلون حاليا بانوراما الرسم العراقي المعاصر، وهم: نديم كوفي، هناء مال الله، رافع الناصري، محمود العبيدي، كريم رسن، دلير شاكر، علي طالب، نزار يحيى، مظهر محمد، هيمت محمد علي، ضياء العزاوي، أحمد البحراني، عمار داود، غسان غالب، علي جبار، وحليم كريم.

والكتاب يتألف من مجموعة من المقالات التي كتبها متخصصون وخبراء أمثال: ضياء العزاوي، وتشارلز بوكوك، وجبرا إبراهيم جبرا، ومي مظفر، وفاروق يوسف، وندى الشبوط، وسمر فاروقي، وجورج رباط.

كيف ولد هذا الكتاب؟

تؤكد المقدمة على أنه بالتواصل مع سلسلة المعارض التي أقامتها غاليري «ميم» تحت عنوان «الفن في العراق اليوم» 2010 – 2011، برعاية ضياء العزاوي وتشارلز بوكوك، جاءت فكرة الكتاب التي تجمع تجارب هؤلاء الفنانين الفنية في المنفى، خصوصا أن معظمهم، إن لم يكن جميعهم، قضوا سنوات تأهيلهم الفني في العراق، ومن ثم استكملوا تجاربهم في الخارج. لذا يوثق هذا البحث مساهماتهم المتواصلة في الفن العراقي، ويلقي الضوء على أهميتها في التاريخ الفني للشرق الأوسط المعاصر. وهؤلاء الفنانون هم جزء من الشتات العراقي، وتدل أعمالهم على تواصل المواهب في جيلين من الفنانين وتمثل الفن العراقي اليوم.

في مقدمة ضياء العزاوي استعراض مكثف لوضعية الفن العراقي وتاريخه الحديث منذ الثمانينات حتى الوقت الحاضر. ويقترب نقديا من تجارب الفنانين العراقيين سواء في الداخل أو في المنافي. كما يحدد قدرات ومساهمات كل فنان على حدة، ويقسم الفنانين إلى مجموعات. كما يقول: «عبر سلسلة المعارض التي أقيمت بالتتابع تم طرح تجارب متنوعة للفن العراقي ومن قبل فنانين متقاربي الأجيال ومتنوعي الإقامة جغرافيا. مثلت المجموعة المختارة في هذه المعارض المختلفة بعضا من النخب الأكثر فعالية في تطوير حركة الحداثة في الفن العراقي». المجموعة الأولى تتكون من هناء مال الله، ومظهر أحمد، ونديم الكوفي. والمجموعة الثانية تشمل كلا من كريم رسن وغسان غائب ونزار يحيى. أما المجموعة الثالثة فهي تتشكل من عمار داود، ودلير شاكر، وهيمت علي، بينما تميزت مرحلة السبعينات بانشغال واضح من قبل الفنانين بالبحث الفردي، وليس كما هو الحال في مرحلة التأسيس بالعمل الجماعي الذي كان ذا انحيازات اجتماعية أكثر منها فنية وثقافية.

ويكتب الناقد الإنجليزي تشارلز بوكوك، الذي ساهم في تأليف الكتاب مع ضياء العزاوي، قائلا إن الكتاب الحالي مستوحى من فكرة جبرا إبراهيم جبرا، (والكتاب مهدى إليه بالمناسبة) وما كتبه في عامي 1961 و1972، مشيرا إلى ما تعرض له منزله الذي يحتوي على الكنوز الفنية الثمينة التي ضاعت. ويستعرض أهمية الفن العراقي باعتباره أحد الأركان الرئيسية في بناء الثقافة العربية الحديثة، وبالتالي الثقافة الشرق أوسطية. خلال السبعينات كان العراق، كما يؤكد الباحث، وتحديدا بغداد، محورا مركزيا في حركة الفن العربية. تدعم موقع ساحة الفن والمعارض مثل معرض جماعة البعد الواحد في 1971، ومهرجان الواسطي والبينالي العربي الأول، وغيرها. ويعطي لمحة تاريخية عن الفن العراقي، منذ الستينات، وأهم الإنجازات الفنية في الثمانينات مثل «نصب الجندي المجهول» 1982 لخالد الرحال، و«نصب الشهيد» 1983 لإسماعيل فتاح الترك، و«قوس النصر» 1989 الذي بدأه خالد الرحال وأكمله محمد غني حكمت. ويستنتج الباحث أنه لم يبقَ في العراق حاليا أي شيء له علاقة بالحركات التي أسسها رواد الفن الحديث، ولا بإرث جماعة الرواد وجماعة بغداد للفن الحديث، وجماعة الرؤية الجديدة، ولا بكل ما عبر عنه جبرا إبراهيم جبرا في مقالته «الفن في العراق اليوم». والملاحظة الأساسية التي يسوقها في هذا المجال أنه لم يعد ممكنا العثور على كل ذلك سوى في أعمال الفنانين المهاجرين، فقد بقي حيا في قلوبهم وعقولهم أينما أقاموا. ويشدد على أن إرث أجيال الخمسينات والستينات الإبداعي يعتبر جوهريا في فهم الثقافة العربية الحديثة المعاصرة.

ويستنتج الباحث، بعد أن يثمن تأسيس «المتحف العربي للفن الحديث» في الدوحة كموطن جديد للفن العراقي، أن ما يريد إثباته من خلال هذا الكتاب هو أن الإرث الثقافي العراقي الحديث يستمر في الوجود على المستوى الفكري، حتى وإن كانت الحركات تتطور في إطار محدود وتشمل أفرادا معينين.

ويتضمن الكتاب أيضا مقالة جبرا إبراهيم جبرا الهامة «الفن في العراق اليوم»، التي تعود إلى عام 1961، يستعيد فيها تاريخ الفن العراقي الحديث، وخصوصا ما أبدعه الفنان الراحل الكبير جواد سليم الذي أحدث ثورة في الفن العراقي. وامتدت تأثراته إلى الفنانين الآخرين، إضافة إلى أعمال محمود صبري وخالد الرحال وشاكر حسن آل سعيد وعطا صبري وحافظ الدروبي، وغيرهم ممن أسسوا اللبنات الأولى للفن العراقي الحديث.

وتتحدث مي مظفر عن ثلاثة فنانين هم: مظهر أحمد ونديم كوفي وهناء مال الله، وتلقي الضوء على جيل الثمانينات، وتأثيرات معهد الفنون الجميلة بأساتذتها المبدعين، ومن خلال جسور التواصل مع من سبقهم من الفنانين، ورفدهم بتجاربهم اللافتة الحركة الفنية الحديثة في العراق، علما بأن أيا منهم لم يكن قد تجاوز حدود العراق جغرافيا. ولعل أهم ما يميز هؤلاء الفنانين أنهم اخترقوا جدران العزلة من خلال الاشتراك في المعارض الجماعية التي كانت تقام في عمان وغيرها. وتقوم الباحثة أيضا بتحليل لوحات هؤلاء الفنانين وتفاعلاتها الجمالية والتشكيلية مع الواقع العراقي.

أما الناقد فاروق يوسف فقد تناول أعمال الفنانين: غسان غائب، وكريم رسن، ونزار يحيى، مؤكدا أنه مضى ربع قرن على ظهورهم لأول مرة، كادت أعمالهم تعلن عن تحول في الرسم العراقي الحديث، مرت بهم ثلاث حروب بأهوالها وضجيجها وما خلفته من خراب. ويشير الناقد إلى أن التعبيرية كانت أكثر المناهج التصويرية تعبيرا عن مرحلة ثمانينات القرن العشرين في العراق. ولقد تماهى هؤلاء الفنانون مع إرثهم التجريدي القائم على التقشف والتكثيف والزهد. ويعطي الناقد تعريفا لكل فنان على حدة مع تحليل أعماله، كما يتناول معرضهم المشترك، مؤكدا أن حضارة العراق التي تمتد إلى سبعة آلاف سنة لا تزال حاضرة في لوحاتهم. ويخلص الناقد إلى استنتاج بأن ما تعرض له العراق من غزو واحتلال وجرائم لم يعد فيه الحياد الجمالي المطلق أمرا ممكنا بعد أن تعرض الجمال نفسه للإبادة، وهو ما لاحظه الرسامون الثلاثة، بل عاشوه فتغيروا وتغيرت موادهم وأشكالهم وأسئلتهم الوجودية.

وتحت عنوان «في سياق التسامي» كتبت ندى الشبوط عن الفنانين هيمت محمد علي وعمار دواد ودلير شاكر، مؤكدة أن تحول الفنانين العراقيين إلى الفن الحديث ارتبط بالإمبريالية والاستعمار. وتقول الناقدة: «يتحقق في أعمال الفنانين الثلاثة الاندماج بين الدنيوي والمقدس. تمثل أعمال الفنانين الثلاثة نماذج لاستخدام الوسائط لديهم بين الوطن والمنفى، وتعالج لوحاتهم فكرة الزمان والمكان، وبالتالي المسألة الوجودية من خلال الجماليات والفلسفة الروحية في التسامي».

وتحت عنوان «إعادة تشكيل الهوية في الفن الحديث» يكتب سمير فاروقي عن ضياء العزاوي ورافع الناصري وعلي طالب، حيث يشير إلى أهمية مرحلة الستينات المتميزة بالغنى، وحيث ظل الفنانون الثلاثة منفتحين على مجموعة من المصادر: الوطنية والإقليمية والعالمية والشخصية، مما أتاح لهم إعادة تكوين هوياتهم الفنية على أسس جديدة. وركز على تأثر ضياء العزاوي بالفنان النمساوي غوستاف كليمت. واستشهد بقول الفنان: «لقد أصبحت أكثر اهتماما بخلق أسلوبي الشخصي من الرد على ما كان لدينا من أزمة في ما يخص الهوية»، بينما يؤكد أن استخدام رافع الناصري للخط كان له علاقة أكبر بالأفكار المتعلقة بالإنسانية والطبيعة الروحانية، وليس إظهارا متميزا للهوية المحلية أو الثقافية.

ويعتبر الفنان علي طالب الرسم بوصفه «سرا» معززا هيمنة اللاوعي والباطن في أعماله، وفي مقالته الثانية «الفن كحل نفسي متأخر: الهجرة وأعمال الفنانين العراقيين المعاصرين» يتحدث الناقد عن نديم كوفي واستخدامه لوسيط الفوتوغراف، وكذلك إشارات الفنان نزار يحيى إلى الهندسة الإسلامية، كما في سلسلة لوحاته «عشق دجلة»، بينما تتشكل لوحات هناء مال الله في ظل الحروب والمحن. وهي تلجأ في لوحاتها من خلال دراستها الجامعية إلى السيميائية والمنطق والرياضيات. أما غسان غائب، ونتيجة لاحتلال وطنه، فقد قام في لوحاته بتشكيل تركيبات من أشياء الحياة اليومية مثل الوثائق والحبال والمعادن. ولوحات الفنان كريم رسن تحاكي في جزء منها كما في سلسلة لوحاته «جدران زمن الحرب» التي تستند إلى علاقة الإنسان ومحيطه.

وتحت عنوان «التهجير، المفهوم، المكان» يتناول الناقد جورج رباط الفنانين: علي جبار وحليم الكريم ومحمود العبيدي، ويحلل أسباب توحدهم على الرغم من أساليبهم المختلفة. وترتبط أعمال علي جبار بأعمال النحت والهندسة المعمارية، وحليم الكريم الذي تميز بلوحات تصوير سلبية مكبرة وملونة في بعض الأحيان، بينما تغلب على أعمال محمود العبيدي نزعة الأرشفة والذاكرة الرقمية.

ولعل أهم ما يميز الكتاب أنه أفرد لكل فنان من الفنانين الـ16 فصلا خاصا يتضمن مقتطفات من أقواله وسيرته ورأيه في الفن. إنه كتاب أساسي في التوثيق لمرحلة هامة من مراحل تطور الفن العراقي المعاصر.