«صدام الحضارات» بنسخة فرنسية

هل يجنح بلد «حقوق الإنسان» صوب العنصرية؟

TT

هل نحن في فرنسا أمام تنامي تيار جارف لـ«المحافظين الجدد»؟ هذا ما يخيف المهاجرين العرب، بعد أن بنى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حملته الانتخابية الرئاسية على التخويف من المهاجرين، مقتربا من اليمين المتطرف في طروحاته، حاصدا 27% من الأصوات، بينما حصل اليمين المتطرف نفسه على أصوات قياسية بلغت نحو 20%. أمر يثير التساؤلات حول الهوى الفرنسي الجديد، هل هو عنصري وتمييزي؟

«الحضارات ليست متساوية»، هذه العبارة التي تفوه بها وزير الداخلية الفرنسي، كلود غيان، بمناسبة ملتقى جمعه مع طلبة يمينيين، أثارت جدلا كبيرا، وأعادت إلى الأذهان النقاش الحاد الذي صاحب إطلاق صمويل هنتنغتون لطروحته حول «صراع الحضارات». وبينما نرى الجدل قد هدأ في الولايات المتحدة بعد غياب نجم جورج بوش، نجده يعود من جديد في فرنسا عن طريق اليمين الفرنسي الذي بدا وكأنه من أشد المدافعين عن هذه النظرية.

* مشكلات الهجرة.. الورقة الرابحة لليمين

* التيار اليميني الذي يبدو اليوم على شفا هزيمة في الانتخابات الرئاسية، شغل الرأي العام الفرنسي منذ مدة بإشكاليات جديدة يدور معظمها حول مشكلات الهجرة والمهاجرين المسلمين تحديدا، وقسمت هذه النقاشات النخبة السياسية والمثقفين ورجال الإعلام قبل موعد الانتخابات. وبدل أن يدور جدل جدي حول الأزمة الاقتصادية الخانقة أو البطالة التي وصلت إلى أعلى المعدلات (9 في المائة) أو حتى أزمة الديون التي تهدد أوروبا كاملة، كان كل الكلام يدور حول المهاجرين وقيمهم وعاداتهم وثقافتهم، حتى أصبحت هذه المواضيع هاجس بعض الساسة وذريعة لتأجيج المخاوف وتبرير بعض القرارات السياسية.

الإشكاليات المتعلقة بالهجرة والمهاجرين أصبحت أكثر حضورا منذ وصول الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية، وهي تعكس، في الواقع، إيمانه الشديد بنظريات وقناعات «اليمين الجديد» حول أثر الاختلافات العرقية، وضرورة حماية الثقافة الوطنية ومنعها من الاختلاط بمختلف أشكال الثقافات الأجنبية الأخرى، أو ما يسمى بـ«نظرية الاختلاف» أو «ديفيرونسياليزم».

حملة ساركوزي الانتخابية الرئاسية الأخيرة تميزت بالتشدد مع المهاجرين والاعتماد على المقاربات الأمنية في معالجة مشكلاتهم. ساركوزي مثلا كان أول من دعا الفرنسيين إلى التساؤل عما آلت إليه هويتهم الوطنية مع ظهور أجيال الهجرة، حيث تم تنظيم لقاءات حوارية سميت بـ«النقاش الكبير حول الهوية الوطنية». الحزب اليميني الحاكم حاليا طرح مشكلات الهجرة والاندماج للنقاش العشوائي، وفتح الأبواب على مصراعيها لكل الانحرافات العنصرية، وأذكى مشاعر الحقد والإسلاموفوبيا. وكانت صحيفة «رو 89» الصادرة على شبكة الإنترنت قد أحصت أكثر من اثنتين وسبعين حادثة عنف ومناوشة نشبت على أثر هذه اللقاءات، واستلزم الأمر تدخل عناصر الشرطة بعد أسابيع فقط من انطلاقها. وكان زعيم اليمين الجديد هو أيضا أول من أشار بأصابع الاتهام إلى المسلمين الذين يؤدون صلاتهم في الشوارع، والنساء المنقبات، واللحوم الحلال. خطابه المتشدد تجاه الأفارقة والمسلمين لاحقهم حتى خارج حدود فرنسا، وكان قد وصف الرجل الأفريقي في خطابه الأخير في داكار (2009) بأنه «لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية ولم يسهم في بناء الحضارة الإنسانية بما فيه الكفاية».

* اليمين الفرنسي.. صدام حضارات أم صدام ثقافات؟

* كتب الباحث والصحافي الفرنسي دانيال فيرني على صفحات موقع «سلات» الإخباري: «عندما يقول لنا وزير الداخلية الفرنسي كلود غيان بأنه وخلافا لليساريين و(مذهبهم النسبوي) الذي يتبنى فكرة أن لكل ثقافة قيمها ومعتقداتها التي لا يجب أن تقارن بأخرى، فهو ومن معه من نخبة اليمين الحاكم يؤمن بأن الحضارات لا تتساوى، وبأن تلك التي تدافع عن الإنسانية تبدو له أكثر تقدما من تلك التي تتجاهلها، وتلك التي تدافع عن الحريات والأخوة والمساواة أرفع وأكثر قيمة من تلك التي تشجع الطغيان وتهمش النساء، وبأنه في كل الأحوال سيحمي حضارة بلاده... هذه العبارات يستوحيها كلود غيان كلمة بكلمة من كتاب (المحافظين الجدد.. تيار للإنسانية - دار نشر لي براس أنوفرسيتار دو فرانس) لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي إيف روكو، أحد منظري اليمين الجديد. وهو مثقف مقرب من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وأحد أهم مهندسي خطاباته السياسية. وعندما يقول وزير الداخلية الفرنسي إن من واجبه حماية قيم بلاده من الأجانب، فهو يستوحي خطاباته وأفكاره أيضا من نظريات مفكرين مقربين من اليمين المتطرف، أمثال آلان دو بونواست، العضو المؤسس لمجمع البحوث والدراسات الأوروبية، أو لوغريس، المستشار الخاص لجان ماري لوبان زعيم تيار اليمين المتطرف. وكان قد انتقد بشدة في حقبة التسعينات آيديولوجية (النظير)، تلك التي ترفض رسم اختلافات بين الثقافات وترفض تفضيل بعضها على بعض، أو ما يسمى بـ(نظرية الاختلاف). هذه النظرية التي يعرفها باحث الاجتماع الفرنسي جان بيار تاغيافان بأنها تلك التي تنظر إلى الاختلافات الثقافية على أنها فروق (طبيعية). وهو ما يجعل مفهوم الثقافة يحل محل مفهوم (العرق)، وعليه يصبح ممكنا مثلا تصنيف الثقافات حسب قيمتها أو أهميتها، فيكون بعضها، مثل الحضارة الإسلامية بحسب هذا المفهوم، (بربريا) و(دمويا)، وبعضها الآخر كالحضارة الغربية (إنسانيا وراقيا). وهكذا تصبح الموسيقى الكلاسيكية مثلا أرفع قيمة من الموسيقى الشرقية، أو التراث الثقافي لشعوب الأنكا أقل قيمة من التراث الفرنسي. علما بأن هذا التيار من المفكرين يضع الثقافة (البيضاء) أو الأوروبية فوق كل الثقافات الأخرى ويعتبرها (الأحسن) و(الأهم)».

* مثقفون مع وضد

* الجدل الذي قسم النخبة السياسية طال أيضا المثقفين. وكانت الحرب على العراق أول مناسبة تجسد هذه الوضعية الجديدة، لا سيما بعد المساندة الصريحة لمجموعة منهم للتدخل الأميركي في العراق بحجة أن الإسلام يروج لثقافة العنف. ومن أمثال هؤلاء الفيلسوف الفرنسي أندريه كلوكسمان، والكاتب باسكال بروكنر، وميشال توبمان مدير قسم الأخبار في قناة «آرتي»، وغيرهم ممن شكلوا نادي «حلقة الخطباء» أو (لوسركل دو لوغاتوار) عام 2002، الذي يصدر منذ 2006 مجلة «أحسن العوالم» أو (لوميور دي موند). وقد كان ميشال توبمان أحد مؤسسي هذا النادي قد أعلن صراحة: «الأميركيون ليسوا أعداءنا، نستطيع انتقادهم ولكن لا يحق لنا أن نعاديهم. ما يقلقني هو العيش في عالم تصبح فيه الولايات المتحدة ضعيفة. النقطة المشتركة بيننا وبين المحافظين الجدد أننا نحارب عدوا واحدا: الإسلام المتطرف».

محاربة التنوع الثقافي ورفض «ثقافة الآخر» أخذت مظهرا مختلفا منذ 2001 حين اتجهت مجموعة من المثقفين إلى تبني خطاب متشدد اتجاه أجيال الهجرة من المسلمين تحديدا، من حيث التشكيك في ولائهم لـ«الوطن» واندماجهم في المجتمع الفرنسي. هجوم الفيلسوف الفرنسي آلان فنكلكروت الأخير على الفريق الوطني لكرة القدم جسد هذه النزعة، حيث وصف تصرفاتهم في كأس العالم بجنوب أفريقيا بـ«غير الحضارية»، وقال إنهم مجموعة من المنحرفين الأثرياء الذين يروجون لثقافة «الضواحي» دون أي إحساس بالانتماء إلى الوطن. اتهامات اعتبرت أنها تستهدف خصوصا اللاعبين الأفارقة والمغاربة المسلمين الذين يكونون غالبية أعضاء الفريق الوطني الفرنسي.

هذا، علما بأن مثل هذه العقول المنظرة لليمين الجديد هي نفسها واقعة تحت تأثير مفكرين أميركيين معروفين أمثال ليو ستروس مثلا الذي هاجم الليبراليين بشدة لأنه يرى أنهم وضعوا العالم الغربي في مأزق خطير. وبحجة دفاعه عن الحريات والقيم العالمية يقول ستروس: «يترك الغربيون قيمهم الوطنية عرضة للضياع». وهو الذي صرح لتجسيد هذه المفارقة بالعبارة التالية: «إذا كانت كل القيم تتساوى فهذا يعني أن أكل لحم البشر هو قضية ذوق فقط لا غير..»..

اليمين الفرنسي الجديد تأثر أيضا بنظريات المفكر الأميركي آلان بلوم الذي هاجم في كتابه «ذي كلوزينغ أوف أميركان مايند»، المترجم إلى الفرنسية بعنوان «الروح الضعيفة» عام 1987، التنوع الثقافي الذي يتبناه الغرب تحت شعار «التعايش السلمي» بين مختلف الثقافات، والذي سيؤدي به في النهاية إلى فقدان هويته وقيمه الأصلية.

في الاتجاه المعاكس يقول الباحث المعروف إيمانويل تود، مؤلف كتاب «اختراع فرنسا» (دار غاليمار)، للتعبير عن رفضه لـ«نظرية الاختلاف»: «ما يحاول اليمين الفرنسي الترويج له ليس إلا أكذوبة كبيرة. فالفرنسيون لم يكونوا يوما شعبا ذا ملامح ثقافية موحدة، فهناك فرنسيو الألزاس وفرنسيو البروتاني والبروفانس والبورغيون والكورس، وكلهم مختلفون في ما بينهم، وهم متعودون على هذا التنوع الذي لم يغير قدوم المهاجرين فيه شيئا، بل إن الجيل الثاني من المهاجرين المغاربة كان أسرع اندماجا من سابقه، وأخص بالذكر المهاجرين اليهود الذين قدموا من أوروبا الشرقية والذين كنت واحدا منهم. وهو ما كتبته منذ عشرين سنة في كتابي وأؤكده اليوم أكثر من أي وقت مضى».

أما الفيلسوف أندري كونت سبونفيل فيقول: «من هم هؤلاء حتى يقيموا الحضارات (الثقافات) ويضعوا لها علامات؟ هل يعني هذا أن بعض الحضارات تستحق 18 علامة وأخرى 8 على 20؟ الأمر سخيف... ببساطة لأن لكل ثقافة قيمها ومعاييرها ومرجعيتها. وهي معايير مختلفة من مجتمع إلى آخر. ولكي نقيم الحضارات بكل نزاهة فهذا يستلزم منا أن نكون خارج كل هذه الحضارات، وهذا أمر مستحيل. ثم إن الحضارة لم تكن يوما وحدة متجانسة محددة المعالم». ويضيف: «الثورة الصناعية كانت لها آثارها الإيجابية، ولكنها دمرت البيئة ونشرت التلوث أيضا، كما أنه لا أحد يستطيع أن يجزم بأن الثقافة التي أتى بها البيض إلى أميركا كانت أحسن من تلك التي كانت عند الهنود الحمر. لا أحد ينكر أن الغرب الذي عرف الثقافة والعلوم وحقوق الإنسان عرف أيضا تجارة العبيد والاستعمار والنازية..»..

الجدل الذي يقسّم أنصار التنوع الثقافي ومحاربيه في فرنسا بلغ ذروته مع بدء الانتخابات الرئاسية الجديدة، لا سيما وأن اليمين الجديد اتخذ كعادته الإشكاليات الثقافية للمهاجرين كذريعة للصيد في أراضي التيار المتطرف.

ومع أن الجميع متفق مع نظرية الباحث الكبير كلود ليفي ستراوس حول ضرورة الحفاظ على نسبة معقولة من الأجانب في كل مجتمع للحفاظ على توازنه، فإن هذا لا يعطي الحق لأحد في الانتقاص من قيمة ثقافة أو حضارة أي من الشعوب.