مشهد ثقافي أوروبي عالمثالثي

لوحات لبيكاسو تنهب ومكان ولادة عطيل يئن بسبب الأزمة الاقتصادية

TT

لجأت غالبية الدول الأوروبية ومنها إيطاليا، وهولندا، وإسبانيا، والبرتغال، واليونان، إلى فرض حالة تقشفية على ميزانية المؤسسات الثقافية حتى العريقة منها. الأمر يمس متاحف كبرى، محفوظات وطنية، ومكتبات ومسارح تاريخية. ووصل الأمر بالبرتغال إلى إلغاء وزارة الثقافة بالكامل. الشح الاقتصادي أدى أيضا إلى سرقة آثار، وإغلاق مؤسسات وشل التبادل الثقافي. هل نحن أمام مشهد أوروبي ثقافي عالمثالثي؟ هذا ما يكشفه التحقيق التالي.

أوروبا التي تختنق بأزمة الديون اختارت أن تُضحّي بمؤسساتها الثقافية للاقتصاد في أعباء الحكومات وتجنب الإفلاس الذي يتهددها. هذه الحقيقة باتت مؤكدة، وقد ظهرت للعالم فجأة ودون سابق إنذار بعد أن تم الكشف عن وجود المئات من المتاحف والمكتبات ودور العرض المتروكة دون رعاية ودون تمويل.

اليونان، وإيطاليا، والبرتغال، وهولندا تطبق سياسيات التقشف بالاقتطاع من ميزانيات الثقافة، وإيقاف الدعم الحكومي لقطاعاتها المختلفة وحتى «بالتخلّص» من وزارة الثقافة نهائيا - كما حدث في البرتغال - بعد أن أصبحت تشكل ثقلا كبيرا لا تستطيع الدولة تحمله.

حكومات غارقة في الديون ومؤسسات ثقافية ضائعة...

إيطاليا التي تشكل ديونها 25 في المائة من ديون المجموعة الأوروبية بدأت منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 باتباع سياسة تقشف قاسية، ظهرت آثارها جلية في كل المجالات وبالأخص في قطاع الثقافة الذي اختزلت فيه الحكومة الجديدة بقيادة ماريو مونتي ميزانية الثقافة إلى ما نسبته 0.21 في المائة من مجمل الميزانية العامة. نسبة ضعيفة جدا إذا علمنا بأن نصف تراث العالم موجود في هذا البلد. هذه الإجراءات القاسية جعلت عدة مؤسسات ثقافية عريقة تحتضر تحت وطأة الأزمة مثل: «الأرشيف الوطني الإيطالي» بمدينة روما الذي يضم خمسة قرون من تاريخ إيطاليا، حيث تعود أقدم مطبوعاته للقرن الخامس عشر والذي تم بتر ميزانيته بنسبة سبعين في المائة. وضعية صعبة تشرحها أنتونيلا كسادا مديرة الأرشيف التي تقول: «أصبح لدينا بالكاد ما يمكننا من تسيير هذه المؤسسة الكبيرة ودفع رواتب الموظفين». وتضيف: «منذ 3 سنوات لم نقم بأي عملية ترميم، ولا نملك حتى نظام وقاية يحمينا من الحرائق إن هي اندلعت فجأة«‹. الوضعية نفسها تعرفها «دار أوبرا لا سكالا» العريقة التي شهدت مولد أوبرا فيريدي ورائعة «عايدة» و«عطيل» ومسرح «البيكولو تياترو» وكلاهما في مدينة ميلانو، واللذان عرفا عام 2011 انخفاضا في ميزانيتهما بنحو 17 مليون يورو. إجراء قد تكون له تبعات خطيرة حسب «ستيفن هسلر»، مدير أوبرا «سكالا» الذي يعتبر أن إيطاليا التي تملك أضعف ميزانية للثقافة في أوروبا لا تستطيع أن تضحي بمؤسساتها الثقافية أكثر من هذا الحد.

نفس صرخة الاستغاثة أطلقها أنطونيو مانفريدي، مدير ومؤسس «متحف الفن المعاصر» بمدينة كازوريا بجنوب إيطاليا، والذي يشن منذ أشهر حملة احتجاجية ضد ما سماه بلا مبالاة الحكومة الإيطالية وإهمالها لاحتياجات قطاع الثقافة. أنطونيو مانفريدي ينوي إحراق ألف تحفه فنية بموافقة مسبقة من الفنانين للتعبير عن يأسه من الوضع الذي وصلت إليه المرافق الثقافية في بلاده. وقد برر ما جاء في مبادرته بقوله: «إذا كانت الحكومة الإيطالية قد تركت آثار مدينة بوبيي العريقة تضيع دون مواجهة فما هو حظ متحفي الصغير؟».

إسبانيا التي دخلت هي الأخرى في مرحلة كساد اقتصادي منذ عام 2009 حيث سجل ميزان مدفوعاتها عجزا ماليًا بلغ نسبة 8 في المائة عام 2010، أعلنت بداية شهر أبريل (نيسان) عن ميزانيات جديدة في إطار ما يعرف بأكبر مخطط تقشف تشهده إسبانيا منذ إنشاء الجمهورية. قطاع الثقافة كان الأكثر تضررا، فالصندوق الوطني لحماية السينما الذي يهتم عادة بتمويل المشاريع السينمائية الواعدة خسر نحو 27 مليون يورو حيث انخفضت ميزانيته من 76 مليون عام 2011 إلى 49 مليون عام 2012. إضافة إلى «البرادو» أي المتحف الوطني بالعاصمة مدريد، وأحد أهم معالمها الثقافية والذي انخفضت ميزانيته بقيمة 5 ملايين يورو. وكذا «سونترو دو أرتي دي رينا صوفيا» أو «مركز الفن للملكة صوفيا» الذي يضم عددا كبيرا من لوحات الرسام بيكاسو والذي فقد هذا العام 14 في المائة من نسبة المساعدات الحكومية المخصصة له.

التوفير على حساب القطاع الثقافي لا ينتهي عند هذا الحد، فـ«المسرح الكبير» لمدينة برشلونة كاد أن يغلق أبوابه للأبد لولا هبات متبرعين أنقذوه من الإفلاس. وفي مدريد «لو سركيلو دو بيلا أرتيس» أهم أحد المراكز الثقافية في أوروبا فقد 30 في المائة من ميزانيته هذا العام. أما الخسارة الكبرى فتسجلها «الوكالة الوطنية للتعاون والتطوير» التي تهتم بنشر اللغة الإسبانية وتسيير معاهد «سرفانتاس» في الخارج والتي تخسر هذا العام 50 في المائة من ميزانيتها. وهو الإجراء الذي لقي الكثير من الانتقاد على اعتبار أن اللغة الإسبانية واسعة الانتشار ويتحدث بها أكثر من 400 مليون شخص في العالم.

حكومة «بيدرو باسوس كويليو» في البرتغال بدأت هي الأخرى في اتباع خطة تقشفية صارمة - بعد أن وصلت نسبة ديونها إلى 93 في المائة من الدخل القومي للبلاد. وكانت أولى بنود هذه الخطة الاستغناء نهائيا عن وزارة الثقافة. مما يعني أن على المؤسسات الرسمية أن تجد بنفسها التمويل اللازم لتسييرها.

في هولندا التي بلغت فيها قيمة الديون الخارجية نسبة 26 في المائة من الدخل القومي الوطني، كان قرار حكومة «مارك ريتي» اليمينية اقتطاع مبلغ 265 مليون يورو من ميزانية وزارة الثقافة حتميا رغم صعوبته، لا سيما أن النقص يمثل نسبة 25 في المائة ومستمر لغاية 2013. الحكومة الهولندية أعلنت أنها لن تحافظ على دعمها إلا للمؤسسات الكبيرة والمعروفة التي تملك «جمهورا واسعا» مما جعل صوفي لومبو المسؤولة عن مسرح «إنترنشيونال دانس تياتر» بأمستردام تقول: «الحكومة أصبحت تفكر بمنطق السوق، وهذا يعني أن (تسونامي) كبيرا سيقضي على كل الفرق الصغيرة».

أما عن الوضع في اليونان، فهو أخطر بكثير والكل يتفق على وصفه بالمأساوي. البلد الذي دخل في حالة كساد اقتصادي خطير منذ 2009 بعد أن بلغت ديونه نسبة 120 في المائة من الدخل القومي الوطني، مقيد بشروط قاسية فرضها صندوق النقد الدولي والمجموعة الأوروبية، من أهم مظاهرها تخفيض ميزانية الثقافة بنسبة أربعين في المائة وتخفيض أجور العاملين في هذا القطاع وتسريح أكثر من ألفين منهم. من بين العشرين ألف معلم أثري تزخر بهم اليونان، خمسة معالم فقط لا تزال تتمتع بالدعم الحكومي الكامل. أما البقية فهي لا تعاني فقط من تحديد ميزانيتها بل أيضا من تخفيض عدد العمال المكلفين بحراستها والعناية بها والذي تقلص إلى نحو 7000 عامل. المتاحف التي خسرت نسبة كبيرة من موظفيها اضطرت إلى تخفيض ساعات استقبال الزوار وفقدت الكثير من مقتنياتها جراء تزايد عمليات السطو والنهب، التي وصلت في شهر فبراير (شباط) فقط حسب تقييم «ديسبينا كوتسومبا» رئيسة جمعية علماء الآثار في اليونان: إلى ستين قطعة أثرية وثلاث لوحات من بينها لوحة لبيكاسو وموندريان.

فرنسا وألمانيا: أحسن حالا ولكن إلى متى؟

من بين الدول التي تشكل المجموعة الأوروبية، وحدهما فرنسا وألمانيا لم تلزما قطاعهما الثقافي بسياسة تقشفية صارمة. ألمانيا استطاعت أن تتجنب الكساد الاقتصادي بمعدل نمو يناهز 3.6 في المائة ولا تحتاج بصفة عاجلة للاقتصاد في مصاريف الدولة. علما أن قطاع الثقافة يقع مباشرة تحت مسؤولية «اللآندز» أو المقاطعات الفيدرالية التي تتمتع باستقلالية سياسة ومالية عن الدولة الفيدرالية. «اللآندز» التي يبلغ عددها في ألمانيا 16 تدعم ماديا كل المشاريع الثقافية المحلية، ورغم أن الوضع يختلف من مقاطعة لأخرى حسب وضعيتها الاقتصادية فإن القطاع ككل استفاد كثيرا وهذا منذ السبعينات: فقد قفزت قيمة المساعدات الرسمية من ملياري يورو إلى أكثر من تسعة مليارات يورو اليوم، والنتيجة أن ألمانيا تتمتع بأكبر عدد من المرافق الثقافية في العالم: أكثر من 6300 متحف، و8000 مكتبة و140 مسرحا. لكن منذ مدة تعالت بعض الأصوات تطالب السلطات الألمانية بالاقتصاد والحد من دعمها للقطاع الثقافي: تقرير كتبه أربعة جامعيين بعنوان: «دار كولتورإنفاركت» أو «السكتة الثقافية». يطالب التقرير بإغلاق نصف المرافق الموجودة في ألمانيا وإبقاء الدعم للمؤسسات التي تحظى بإقبال جماهيري كبير فحسب. أصحاب التقرير حذروا من إسراف السلطات الألمانية في دعمها لقطاع الثقافة خاصة أن الاقتصاد الأوروبي ككل يتجه نحو سياسية تقشفية صارمة.

وزارة الثقافة الفرنسية هي الأخرى لم تسجل انخفاضا في ميزانيتها هذا العام بل على العكس من ذلك عرفت زيادة بمعدل 0.9 في المائة عن السنة الماضية حيث وصلت إلى 7.4 مليار يورو هذا العام. وكان «فريديرك ميتران» الوزير المكّلف بالثقافة قد صرح لدى إعلانه عن الميزانية الجديدة: «إذا كانت إسبانيا، واليونان، وبريطانيا، وإيطاليا وحتى ألمانيا قد قررت الاقتصاد على حساب بعض القطاعات الثقافية فإن فرنسا تؤمن بأن الثقافة ذات أولوية كبيرة ولن تعرض ميزانيتها لأي تعديلات». هذا الوضع لم يمنع بعض النقابات من الاحتجاج على إجراءات تجميد القروض التي تستهدف الشركات الفنية ومهنيي قطاع الفن المعاصر التي بلغت 6 في المائة، إضافة لزيادة 1.5 في المائة التي قررتها الحكومة على ضريبة أسعار الكتب.

الآثار السلبية للمخططات التقشفية الصارمة التي تطبقها كثير من الدول الأوروبية على حساب مؤسساتها الثقافية بدأت تظهر حتى في الخارج حيث سجلت صحيفة «نيويورك تايمز» في عدد 24 مارس (آذار) 2012، أن غياب عدة فرق أوروبية عن مهرجان «أندر ذا رادار» الذي ينظم في نيويورك كان بسبب عجزها عن تغطية تكاليف تنقلاتها. أما نيجل ريدن مدير المهرجانات بمركز «لينكون سانتر» بنيويورك فقد لاحظ بأن عدد الفرق الأوروبية التي تشارك هي في تضاؤل مستمر، وكذا عدد أعضائها، كما أن معظمها بدأت تبدي حرصا شديدا للاقتصاد في تكاليفها ولا تستأجر إلا القاعات الأصغر والفنادق الأرخص وهو ما لم تكن تفعله في السابق.