لبنان يتذكر أمين معلوف ويكرمه بأرفع وسام للجمهورية

بعد أن توج عضوا في الأكاديمية الفرنسية

أمين معلوف أثناء تتويجه في الأكاديمية الفرنسية
TT

من جديد، ها هو لبناني آخر يكرم خارج بلده، كي يتذكره أهله. دخول أمين معلوف الأكاديمية الفرنسية، أو ما يعرف بـ«صرح الخالدين» الفرنسي، دفع الدولة اللبنانية إلى إصدار طابع بريدي باسمه، فيما قرر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تكريمه بإصدار ليرة لبنانية من الفضة الخالصة تحمل صورته، على أن لا يصدر من هذه الليرة سوى 1000 قطعة. رئيس الجمهورية ميشال سليمان، بدوره، أعلم رئاسة الوزراء، منذ أيام أنه سيمنح الكاتب الكبير أرفع وسام في الجمهورية. ثلاثة تكريمات رفيعة استتبعت التقدير الفرنسي الكبير لمعلوف، بدل أن تسبقه، علما بأن الرجل معروف في بلاده ومقروء ومؤثر. وعلى الرغم من أن صاحب «صخرة طانيوس» يكتب بالفرنسية، فإن روح كتابته شرقية خالصة، وللبنان حصة الأسد مما سطر. معلوف لم يقدم نفسه يوما إلا لبنانيا، وهو ليس ممن يتلعثمون حين ينطقون بالعربية بحجة أنهم نسوا لغتهم، أو يديرون ظهرهم للمكان الذي جاءوا منه. على العكس، لقد عاد معلوف في كتابه «بدايات» باحثا عن أصوله، في رحلة مؤثرة صوب العائلة والذكريات الحميمية، نابشا في ثنايا ماض لا بد أنه ما زال يعني له كثيرا. وفي كتابه «الهويات القاتلة» يكاد معلوف يقيم نظرية متكاملة حول تركيب الهوية الشخصية والجماعية، في بحث مباشر وغير مباشر، عن هويته الذاتية، وأصوله اللبنانية بعد هجرته إلى فرنسا. مع ذلك بقي أمين معلوف منسيا على المستوى الرسمي اللبناني، لا لسوء نية، لكن لأن السياسة في لبنان غارقة في نتنتها الذي لا تشفى منه أبدا، وكيديتها العمياء.

ولد أمين معلوف في بيروت عام 1949، درس الاقتصاد والاجتماع، والتحق باكرا بالصحافة وتحديدا بجريدة «النهار»، وسافر كمراسل لها، في عدة دول شهدت حروبا ساخنة. لكن التحول الكبير الذي ستشهده حياة معلوف هو باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي دفعته إلى حمل أولاده الثلاثة بصحبة زوجته هاربا كما آلاف اللبنانيين من أوار الحرب. في باريس، حط معلوف ليعمل في الصحافة، وليكتب بحكم الضرورة هذه المرة بالفرنسية. أمر لم يكن ليتصوره أمين معلوف قبل ذلك على الرغم من أنه خريج الجامعة الياسوعية، إلا أن للظروف أحكاما وللعيش ضروراته.

كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» (1983) قرأه الفرنسيون بشغف، مما دفع ناشره لأن يشجعه على كتابة مؤلف آخر. أمين معلوف الدمث، الطيع، وجد نفسه يكتب لمرة جديدة روايته «ليون الأفريقي» (1984). بداية مشجعة لكاتب يترك بلاده باحثا عن مكان في بلد آخر، ولغة أخرى تحميه من جحيم الحرب التي كانت قد استعرت حتى الجنون. كل كتابات أمين معلوف هي عن أزمات وبحث عن حلول لمأزق الإنسان المفتش عن النور وسط غابة من المفاهيم المتداخلة التي تغرقه في متاهات الضياع. «كاتب إنساني» هكذا يحلو لأمين معلوف أن يصف نفسه، وهو بالفعل كذلك؛ من «سمرقند» إلى «حدائق النور» و«سلالم الشرق» و«رحلة بالدسار» تجلت حكايات أمين معلوف إنسانية حتى النخاع. وفي كتابه «القرن الأول بعد بياتريس» الذي يخلط بين الحاضر وما يمكن أن يحدث في المستقبل، يبدو أمين معلوف أنثويا، قلقا، باحثا عن مخرج لعالم ينتحر ويتهاوى. لم يغب الشرق عن كتابات معلوف، ومن ميزاته وفضائله أنه بقي - على الرغم من محاولاته تحييد نفسه عن أي موقف سياسي صادم، يجعله في موقع ضد آخر – عربيا، لم يكتب كمستشرق يريد أن يرضي الغرب.

كتب معلوف كشرقي يريد أن يحكي للآخر رؤيته للعالم كما يراه وكما يتمناه أحيانا.

أمين معلوف أول لبناني يدخل الأكاديمية الفرنسية، وثاني عربي بعد آسيا جبار، إنه لخبر مفرح حقا. ومن الجميل أيضا أن يكون أمين معلوف قد خلف على الكرسي رقم 29 في الأكاديمية أحد أكبر عباقرة الأنثروبولوجيا في عصرنا الحديث، كلود ليفي ستراوس. ولعل ما يجمع اللبناني أمين معلوف بالأنثروبولوجي اليهودي ستراوس، هي تلك النزعة الإنسانية الشفافة التي تمتع قارئ كل منهما، وتجعله أكثر ذكاء وفطنة. ولهذا قال أمين معلوف أثناء احتفالية دخوله الأكاديمية «اليوم هناك جدار في المتوسط بين الفضاءات الثقافية التي أنتمي إليها (...) طموحي هو المساهمة في هدمه. لطالما كان هذا هدف حياتي وكتابتي وسأواصل السعي إليه إلى جانبكم، تحت نظر ليفي - ستروس العاقل».

هذا البعد الإنساني هو الذي يجعل أمين معلوف عكس الكثير من الكتاب العرب الذي تملقوا الغرب، يعود إلى لبنان، وأحيانا إلى قريته كفر عبيدا كما فعل في «صخرة طانيوس»، وفي روايته الجديدة التي ستصدر في سبتمبر (أيلول) المقبل بعنوان «ليه ديزوريانتيه» التي تروي حكاية مؤرخ منفي يرجع إلى لبنان.

دخول أمين معلوف الأكاديمية الفرنسية هو انتصار لأدب بقي أصيلا، صادقا، بعيدا عن الانتهازية والنفعية، لكنه في نفس الوقت حرص على أن لا يكون صداميا أو صريحا بما يمكن أن يثير حساسيات غربية لا تحمد عقباها.