روجيه غارودي.. آخر المفكرين الفرنسيين المتمردين

خلف 40 كتابا فكريا.. ويوارى التراب غدا

غارودي في بيته
TT

علمت برحيل المفكر الفرنسي روجيه غارودي (17 يوليو/ تموز، 1913 - 13 يونيو/ حزيران، 2012) عن طريق أحد الأصدقاء، وهو يقول لي: «هل سمعت برحيل صديقك؟»، فأصابني الهلع، فقلت على الفور: «من يكون هذا الصديق؟»، قال: «روجيه غارودي». وسرعان ما عادت ذاكرتي إلى الأيام التي كنت أزوره فيه في منزله أو ألتقي به في الملتقيات الفكرية والأدبية. اللقاء بالمفكر الفرنسي روجيه غارودي ليس بالأمر السهل، إذ إن المرء سرعان ما يجد نفسه أمام رجل إشكالي، ترك بصماته الواضحة على عصره. حتى أواخر حياته، كان يتميز بروح متقدة من الفكاهة والنكتة الساخرة، ولم أر مفكرا يتحلى بهذا التواضع وبهذا الأدب الجم الذي ينم عن روح إنسانية كبيرة كما تجسده أعماله الفكرية.

بعد عام 1982 أصبح جل أصدقائه من العرب بعد أن تخلى عنه غالبية الفرنسيين، خاصة دور النشر. بدأت في تقليب الصحف الفرنسية الكبرى: «اللوموند»، و«الفيغارو» و«ليبراسيون»، وشعرت بالألم يعتصر قلبي لأنها، وللأسف الشديد، لم تقدم رحيله بشكل موضوعي، ولم تأت على ذكر كلمة مفكر وفيلسوف، واكتفت بذكر «المشكك في الهولوكوست»، خاصة بالنسبة لصحف مرموقة يفترض بها التحلي بالموضوعية حيث إن الصحف الثلاث تحدثت عن رحيل «المشكك في الهولوكوست» - المحرقة اليهودية على يد النازية. تقول صحيفة «اللوموند»: «إن موقعا لحركة اليمين المتطرف (المساواة والمصالحة) أول من نشر في فرنسا خبر موت روجيه غارودي»، وليس عن طريق الصدفة أن يروّج هذا الموقع لنجدة النظام السوري. فقد اختفى صاحب أطروحة التشكيك في غرف الغاز الألمانية «الهولوكوست»، حيث إن اختياره المعاكس للغرب منحه شهرة وشعبية في العالم العربي. هناك صحف أخرى سردت ما قالته بعض الشخصيات فيه مثل المثقفين الأردنيين الذين قالوا عنه إنه «أهم شخصية ثقافية في القرن العشرين»، وعبد الحليم خدام الذي أطلق عليه أنه «أعظم فيلسوف غربي معاصر». وقال حسن نصر الله عنه إنه «فيلسوف فرنسي عظيم»، كما قال عنه معمر القذافي «إنه أعظم فيلسوف أوروبي منذ أفلاطون وأرسطو».

وجاءت صحف أخرى على إدانة فرنسا لمحاكمته. وأخرى ذكرت كيف سددت الإمارات الغرامة المالية التي قررتها المحكمة الفرنسية عليه. وغيرها من ردود الفعل التي يراد بها الانتقاص من شخصيته وفكره الفلسفي.

ولم تقم أي صحيفة فرنسية بكتابة خبر موضوعي إلا القليل النادر، وهذا شيء مؤلم بالنسبة لمفكر وفيلسوف من طراز روجيه غارودي، بل ذهبت هذه الصحف إلى إدانته عند صدور كتابه الشهير «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» الذي حُكم بموجبه بدفع غرامة مالية. فلا يمكن أن تتجاهل هذه الصحف أعماله الفكرية البارزة، خاصة أنها كانت تمتدحه قبل عام 1982، السنة التي أدان فيها الاحتلال الإسرائيلي للبنان، ومن هذه الكتب من 1949 إلى 2004 «المصادر الفرنسية للاشتراكية العلمية»، و«مات الإله - دراسة عن هيغل ولينين» و«النظرية المادية في المعرفة» و«الحرية» و«آفاق الإنسان» و«ماركسية القرن العشرين.. من أجل نموذج فرنسي للاشتراكية» و«هل يمكن أن نكون شيوعيين اليوم؟»، و«المنعطف الكبير للاشتراكية» و«الماركسية والوجودية» و«أسئلة جان بول سارتر» و«الحرية المؤجلة» و«الحقيقية كلها» و«التاريخ القصير للاتحاد السوفياتي» و«من اللعنة إلى الحوار» و«عدم حتمية التاريخ»، و«نحن بحاجة إلى الله» و«نحو حرب دينيةّ»، و«عظمة وانحلال الإسلام»، و«الماركسية والأخلاق» و«ما هي الأخلاق الماركسية» و«نحو واقعية القرن العشرين – دراسة حول فرناند ليغير» و«واقعية بلا ضفاف» و«مساهمة تاريخية في الحضارة العربية الإسلامية» و«من أجل حوار الحضارات» و«عودة الإسلام» و«قضية إسرائيل»، و«فلسطين أرض الرسالات المقدسة» و«إسلام الغرب: قرطبة عاصمة روحية»، و«المساجد.. مرآة الإسلام»، و«وعود الإسلام»، و«المسجد مرآة الإسلام»، و«الإسلام وأزمة الغرب»، و«فلسطين مهد الرسالات»، و«الولايات المتحدة طليعة التدهور»، و«وعود الإسلام»، و«الإسلام دين المستقبل»، و«الإرهاب الغربي»، و«جولتي وحيدا حول هذا القرن»، و«حوار الحضارات»، و«الإسلام وأزمة الغرب»، وغيرها من الكتب والمقالات التي لا تعد ولا تحصى. ولا بد من ذكر تلك المؤلفات ليتعرف القارئ على مدى موسوعية وشمولية هذا المفكر.

كانت آخر زيارة لي للمفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي في منزله الكائن في ضاحية شينفيير سور سين، ذلك البيت الشاهق الجميل، الذي يتربع على تلة مرتفعة، في عام 2004 على ما أعتقد، وذلك بصحبة الصديق الدكتور غسان الرفاعي، لكنني كنت أتواصل على زيارته نحو عشرين عاما، وأجريت معه العديد من الحوارات التي نُشرت في كتابي «هذه وصيتي إلى القرن الـ21» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007. وفي هذه الزيارة، وجدت أن صحته قد تدهورت. وعلى الرغم من ذلك لم يكن يتوقف عن التأليف حيث سرعان ما أخرج لي مخطوطة كتابه الجديد المعنون «الإرهاب الغربي» (Le Terrorisme Occidental)، وسلمني نسخة إلكترونية منه - مطبوعة على الفلوبي آنذاك قبل أن يختفي - حيث قرأت أجزاء منه. وكان حائرا في نشره كعادته مع كتبه الأخيرة لأن دور النشر الفرنسية لا تريد نشرها أو الالتزام بترويجها، فهو في عداد «الكُتّاب المغضوب عليهم» لأنه وببساطة لا يشارك الأطروحات الفكرية الرسمية التي تعلنها وسائل الإعلام بكل أشكالها. ولهذا قاطعته كبريات دور النشر الفرنسية بعد أن أصدرت له كتابا في شتى ميادين المعرفة مثل «غاليمار» و«سوي» و«غراسيه» وغيرها قرابة نصف قرن، وها هو ينشر كتابه القيم «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، وسرعان ما ترجم الكتاب إلى معظم لغات العالم لأهميته في الولايات المتحدة وإيطاليا ولبنان وتركيا والبرازيل وألمانيا وروسيا.

كان غارودي يعاني من جلطة دماغية أقعدته الفراش حين كان في عمر الـ91 عاما أثناء زيارتي الأخيرة له. استقبلتنا زوجته بوليت، وسرعان ما سألناها عن حالة غارودي الصحية في حين كان ينتظرنا هو في الطابق الأول من منزله. فقالت لي زوجته «لم نكن نصدق أنه سيفيق من غيبوبته التي دامت شهرا ونصف الشهر.. حياته الآن معجزة».

كان يجلس على أريكة جلدية، يتأمل الأشجار الظاهرة من مكتبه الزجاجي. ففي غضون عام واحد تغيرت ملامح وجهه كليا وكانت آثار الجلطة الدماغية واضحة على محياه. وعندما رآنا نهض، مرحبا بنا، ثم عاد للجلوس إلى أريكته معتذرا، وهو محاط بالكتب المبعثرة هنا وهناك. تتوزع في منزله بعض التحف العربية والإسلامية. قلت له: «سيد غارودي: هل تعلم أننا كنا نعرف كتبك منذ أكثر من عشرين عاما وكنا نقرؤها بالعربية مثل كتابي (النظرية المادية في المعرفة) و(واقعية بلا ضفاف)؟».. فقال لي: «والآن تترجم كتبي إلى اللغة التركية». فقلت له: «لكننا كنا نقرأ كتبك في سنوات الغليان الماركسي في سبعينات القرن الماضي في العراق»، فضحك قائلا: «لكن من العجيب أن الترجمات في العالم العربي تتم من دون حقوق نشر». فقلت له: «أجل هذه حقيقة مؤلمة بالنسبة لكثير من الأدباء الأجانب الذين أعرفهم»، ثم أضاف: «المؤسف في عمليات قرصنة الترجمة أن دور النشر لا تجهد نفسها حتى لإرسال نسخة من الترجمة لمؤلفيها!».. لكنه سرعان ما ابتسم قائلا: «لكني لا أعير أي اهتمام لحقوق النشر المهم أن يطلع القراء العرب على ما أكتبه، كما هو الحال مع كتابي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) الذي كما علمت نشرته صحف عربية عديدة بشكل متسلسل». ثم أضاف: «وكما ترى فإنني طبعت كتابي الأخير على نفقتي الخاصة لأن العديد من دور النشر رفضت نشره»، فقلت له: «لم أكن أتصور أن ثمة اضطهادا فكريا في بلد ديمقراطي مثل فرنسا!».. فأجابني: «حرية الفكر موجودة إذا كانت تصب في منهج السلطة بأنواعها».

وقد أثيرت كل هذه الضجة المفتعلة ضد غارودي على الرغم من أن هذا المفكر كرّر مرارا بأنه يدين الصهيونية وليس المعتقد اليهودي، وقد أكد على الدوام أن المرض القاتل لنهاية عصرنا الحالي هو التزمت حتى لو كان في الإسلام «الإسلاموية هي مرض الإسلام»، وفي المسيحية قال إن «مسيح جان بول ليس هو المسيح»، وأدان الهرطقة الصهيونية التي تريد استبدال بني إسرائيل بدولة إسرائيل.

كتب غارودي سيرته الذاتية في كتابه الجميل «طوافي المتوحد حول القرن»، ولو قُيض له أن يعيش عامين آخرين لأكمل قرنا كاملا. وقال لي: «يتضمن هذا الكتاب جميع تفاصيل حياتي، كما أنه لم يترجم بعد إلى اللغة العربية». رأيت في غارودي هذا الكاهن الذي لا يفترق عن الكتب والقضايا الساخنة. قال عن كتابه الأخير «الإرهاب الغربي»: «بعت من هذا الكتاب 30 ألف نسخة بطريقة سرية لأن غالبية المكتبات كما تعلم ترفض عرضه وبيعه في واجهاتها. ولعلك تتذكر كيف كسروا واجهة المكتبة الكائنة في الحي اللاتيني لأنها عرضت كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)». لم يؤلف أي كتاب آخر منذ صدور كتابه هذا نتيجة تعرضه للجلطة الدماغية في عام 2004 حيث اضطر لملازمة منزله ولم يعد يسافر، مكرسا جل وقته للتأمل والقراءة. ولم تعد له مشاريع طويلة الأمد. وظل المفكر يكتب بخط اليد إلى اللحظة الأخيرة من حياته، وتقوم زوجته بطباعة ما يكتب على الكومبيوتر بعد إنجازها.

وعن الإسلام قال لي: «ما أريده هو تصحيح الفكرة الكاريكاتيرية التي تقدمها الصحافة الغربية عن الإسلام. فعلى سبيل المثال التقيت بالشيخ حسن الترابي في الخرطوم فوجدت صورته تختلف عن الصورة التي كانت تقدمها عنه الصحافة الغربية. وقد تعرفت على لويس فرقان والسيد رفسنجاني.. والشيء ذاته حصل معهم. كما أنني لا أطالب بأن يتفق جميع الناس مع أفكاري. إنني أحاول أن أقول بأن الصحافة الغربية أعطت صورة كاريكاتيرية عنهم. وهكذا شوهت الصحافة صورتي».

لقد تحدث غارودي عن الأصوليات المسيحية والإسلامية من دون مشاكل، وكما يقول: «عندما تحدثت عن الأصولية الصهيونية للسياسة الإسرائيلية، تم استدعائي من قبل الشرطة والعدالة، وباشر زمرة من الصحافيين أغلبهم لم يقرأ كتابي حملة تشهيرية ضدي على الصعيد الإعلامي كما تعلم وأنت الذي تابعت محاكمتي».

لقد نشر غارودي نحو 50 كتابا في حياته عند كبريات دور النشر الفرنسية: «غاليمار»، «غراسيه»، «سوي»، وسواها. وكتابه «نداء إلى الأحياء» باعت منه دار النشر 190 ألف نسخة، وعندما ألف كتابا عن الصهيونية، قاطعته معظم دور النشر ولا أحد يريد أن ينشر له، كما يقول: «ليست الحرية الفكرية في فرنسا كما تتصورونها. تخيّل أن صحافية تجرأت ودعتني إلى القناة التلفزيونية الثانية، ولم يخصص لي سوى أربع دقائق قلت خلالها الشيء التالي، وذلك على أعقاب حرب الخليج: (إننا نخوض حربا كولونيالية جنبا إلى جنب مع الأميركان..)، وفي اليوم التالي فصلوا الصحافية من وظيفتها.. هذا مجرد مثال لا أكثر ولا أقل».

ثمة هيمنة على الإعلام الفرنسي، كما يؤكد غارودي: «مع أن يهود فرنسا لا يمثلون سوى 2 في المائة من السكان، فإنه على الرغم من هزالة هذه النسبة فإن الصهيونية تسيطر على جميع سياسات الإعلام الفرنسي بما فيها دور النشر والسينما خاصة بعد الغزو الثقافي الأميركي لفرنسا».