الفنانون التجار يتوجون على عرش الحركة التشكيلية في العالم

أشهرهم جاء من البورصة وآخر يدير مصنعا

TT

الفنانون باتوا مستثمرين كبارا، لا بل وتجارا من الصنف الأول. بعضهم جاء من البورصة، والبعض الآخر تعلم «الماركتينغ» كي ينجح في الترغيب بمنتوجاته. أشهرهم افتتحوا ما يشبه المصانع لفبركة عدد لا محدود من العمل الواحد، ولهم موظفون بالمئات. أرباح مشاهير الفنانين التشكيليين في عصرنا وصلت إلى مئات ملايين الدولارات. من هو الفنان التشكيلي الحديث؟ وهل ما يزال فنانا حقا؟

من الفنان الحقيقي؟ هل هو من يختار التضحية بالماديات ويبقى فقيرا جائعا لكي يركز على فنه وإبداعه؟ هل الفن الحقيقي كما يراه الرومانسيون لا يأتي إلا بعد معاناة ورقي أخلاقي وأن أجمل الأعمال وأعمقها لا تأتي إلا من أبسط الفنانين وأفقرهم، أم أن الفنان الناجح هو الضليع في العلاقات العامة وفن مخاطبة وسائل الإعلام والمتمكن من تقنيات تسويق الأعمال الفنية وبيعها بأسعار تحطم أرقاما قياسية في أسواق الفن؟

الإجابة عن هذه التساؤلات ما زالت تقسم الوسط الثقافي، لكن الأكيد هو أن التفكير بمنطق الربح والخسارة لم يعد محظورا على الفنانين ولا إظهار حبهم للمال والثروة أصبح شيئا غريبا. كثير من المحظورات سقطت بعد أن فرض منطق سوق الفن معايير جديدة «للفن الحقيقي». وما يبدو اليوم هو أن أعظم المبدعين هم من ينجحون في إقناع تجار الفن والمزادات والمعارض العالمية بأن أعمالهم تحمل قيمة فنية عالية. وهم خاصة من يفلحون في بيعها بملايين الدولارات، وتكوين ثروة طائلة بفضل عائدات إنتاجهم الفني دون الحاجة إلى إجماع نقاد الفن ولا حتى إعجاب الجمهور.

الظاهرة تخص تحديدا مجال الفن التشكيلي، حيث تحطم أسعار بعض التحف أرقاما قياسية، وحيث تُحسب ثروة أصحابها من الفنانين بالملايين. مؤسسة «آرت برايس» رصدت مؤخرا قائمة بأكثر الفنانين المعاصرين مبيعا في العالم، وكشفت بأن عائداتهم المادية تتراوح ما بين خمس وخمسين مليون دولار كأقصى حدّ إلى غاية مليوني دولار كأدنى حّد ممكن. أهمهم على الإطلاق الثلاثي الذي يطلق عليهم تسمية «ملوك المزادات»، وهم: البريطاني داميان هيرست، صاحب قطعة «القرش» المعروفة أو «الرأس المرصّع بالجواهر». وهو أغنى فنان معاصر في العالم حيث تقدر ثروته الشخصية بنحو مليار دولار. علما أنه ينجز تحفه الفنية في ورشات عمل توظف أكثر من مائتي متعاون. كثيرا ما يوصف داميان هيست بأنه رجل أعمال فذّ، وهو الذي حقق صفقة تجارية كبيرة حين نظم بيع تحفه بنفسه محققا رقما قياسيا وصل إلى 149 مليون دولار في يوم واحد. يقال أيضا إنه يلجأ لشراء تحفه بنفسه للمضاربة والرفع من القيمة النقدية لأعماله.

أما الثاني فهو الياباني تكاشي موراكامي، فتقدر ثروته بمائة مليون يورو. وهو فنان يستوحي أعماله من فن الرسوم المصّورة «المانغا». أهم إنجازاته: قطعة «بودا الدائري» و«مانغا».

* جيف كونز من وول ستريت.. إلى قصر فرساي

* قد يكون جيف كونز الملقب تارة بـ«الفنان الشقي» وتارة أخرى بـ«ملك الفن الهابط» صاحب الأعمال الأكثر إثارة للجدل والفضول. أعماله المفعمة بالألوان والأشكال والصور تتضمن إشارات قوية للجنس والطفولة والمجتمع الاستهلاكي.

لكن كونز هو أيضا من أكثر الشخصيات إيمانا وتجسيدا لمبدأ «تسليع» التحف الفنية وأكثر الفنانين تحررا من عقدة الأرقام التي تلازم بعض الفنانين حين يسألون عن ثروتهم. فهو يؤمن بأن التحف الفنية يمكن أن تباع وتشترى كأي سلعة أخرى ويقول كالفنان «مرسيل دوشان» - مثله الأعلى - بأن النظرة «هي التي تعطي العمل الفني قيمته». وهو ما يفسر أن تصل أعماله في تقدير بعض المعجبين الأثرياء إلى أسعار خيالية.

جيف كونز أحد رواد موجة الفنانين الذين بلغت القيمة المادية لأعمالهم أرقاما قياسية، وكانت أسعار أعماله قد ارتفعت بصورة مذهلة ابتداء من أواخر الثمانينات إلى أن وصلت ذروتها عام 2007، حين بلغت قطعته «القلب الأرجوازي المعلق» رقما قياسيا في مزاد كريستيز لم يبلغه قبله أي فنان معاصر وهو 23.6 مليون يورو. كما بيعت قطعته الشهيرة «البالون الأرجوازي المزهر» 16 مليون دولار وبيعت لرجل الأعمال الفرنسي فرانسوا بينو. وإن كان ثمة جدل كبير حول القيمة الفنية لأعماله، إلا أن الأكيد هو أن هذا الفنان الذي بدأ حياته المهنية كمضارب في بورصة وول ستريت عرف كيف يستفيد من عائدات إنتاجه الفني، حيث قدرت مجلة «فرانايت مكازينس» ثروته الشخصية بنحو 500 مليون دولار. وهو يحتل حسب التصنيف الأخير لمؤسسة «آرت برايس» المرتبة الثالثة في قائمة الفنانين المعاصرين الأكثر مبيعا في العالم.

وعن سبب ارتفاع القيمة النقدية لأعمال جيف كونز يقول برنار فيشر، مدير متحف الفنون الجميلة بلوزان بأن «لديه شبكة تواصل جيدة، فهو يعلم ما سيثير الفضول أو الاستفزاز. وهو ما فعله في بداياته حين كان يمثل في أعماله زوجته السابقة نجمة الأفلام الإباحية لاشيشيولينا في أوضاع خليعة، أو حين عرض بالوناته البلاستيكية في قصر فرساي العريق محدثا جدلا كبيرا». والمعروف أيضا أن جيف كونز لا يؤمن بالنسخة الأصلية الوحيدة، فهو ينظم عمله الإبداعي وكأنه صاحب مصنع، حيث يوظف في ورشة واقعة بمدينة نيويورك أكثر من 150 متعاونا ينجزون قطعا فنية حسب الطلب كما تنجز أي سلعة، مكتفيا هو بتصميم الفكرة والدعاية لها في مختلف أرجاء العالم دون المشاركة في الإنجاز الفعلي للعمل، كما يحرص على الحفاظ على شبكة علاقات عامة قوية. فهو صديق شخصي لكثير من النبلاء والمجمعين الأثرياء كالفرنسي فرانسوا بينوا.

من دورر إلى بيكاسو.. كلهم أحبوا المال؟

الصحافية المختصة في شؤون الفن «جوديت بن حمو - هويي» كشفت في كتابها الأخير: «الفنانون أحبوا المال دائما» (دار نشر غراسيه) عن حقيقة مذهلة، مفادها أن الفنانين على مرّ العصور بدءا بـ«ألبرشت دورر» إلى غاية داميان هيرست عاشوا علاقة جذب وشدّ مع المادة والمال، وقليل منهم من اختار الفقر «طوعا». جوديت بن حمو وصلت لهذه النتيجة بعد بحث في أرشيف المتاحف والمكتبات ومراسلات كبار الرسامين لمدة ثلاث سنوات، وتمكنت من رصد حقيقة العلاقة الغريبة التي تربط رجال الفن والإبداع بعالم المال والتي سمتها بـ«ضحالة العظماء». تكتب جوديت بن حمو: «ألبرشت دورر فنان عصر النهضة الألماني وصاحب رائعة (عيد تتويج العذراء) قد يكون أول فنان يلجأ للدعاية والإشهار لبيع أعماله. فقد كان يوظف فريقا من المتعاونين يجولون أوروبا لتعريف نبلائها وأمرائها بأعماله وبيعها لهم، ولم يكن يحط ببلدة إلا قد مرّ بها رجاله». تضيف جوديت بن حمو بأن تحكّم ألبرشت دورر في تقنيات تسويق أعماله مكنه من العيش في رفاهية. وقد مات وهو يملك 18 كيلو من الذهب وهو ما يعادل آنذاك ثروة لا يستهان بها. وقد اعترف في إحدى مراسلاته بأنه «نادم لأنه ركز على رسم اللوحات بدل النقش على الخشب والمعادن (التي كانت مهنة والده)، فلو فعل ذلك لكان من أكبر أثرياء عصره». وكذلك هو الحال بالنسبة لبيار بول روبنز، أشهر رسامي عصر الباروك وصاحب رائعة «اختطاف بنات ليوسيبي» (1617) الذي تقول عنه جوديت في كتابها: «كان عبقريا في فنه بنفس الدرجة التي كان فيها تاجرا شاطرا. وقد كتب لأحد أصدقائه وهو دوق مانتو مايلي يقول له: (أعترف أني تنازلت عن كل طموحاتي وأحلامي الفنية، وكل ما أصبح يهمني هو رغبات زبائني). روبنز سبق بثلاثمائة سنة الفنان الأميركي أندي وارهول أو جيف كونز حين لجأ لفتح ورشته الخاصة بمدينة أنفرس موظفا فيها رسامين صغارا يستنسخون لوحاته. وكان حرصه الشديد على تحصيل أرباح كثيرة جعله ينظم عمل موظفيه في عدة أقسام. فكانت ورشاته تضم قسما لرسم الطبيعة وآخر لرسم الوجوه وآخر للحيوانات لإنجاز أكبر قدر ممكن من اللوحات التي كان يمضيها باسمه رغم أنها كانت من إنجاز معاونيه. جاء أيضا ذكر الفنان الإيطالي جيوفاني كناليتو الذي كان بمثابة بطل (التصدير) حيث كان يملك عقد احتكار مع تاجر بريطاني ثري يشتري كل لوحاته، لدرجة أن مناظر البندقية كانت أكثر ما يزين بلاطات وقصور بريطانيا، حتى قال عنه كاتب فرنسي عام 1739: (البريطانيون دللوا هذا الرجل /كانيليتو/ ومنحوه أكثر من حقه لدرجة أنه أصبح من المستحيل التفاوض معه في أسعار لوحاته)، وحتى بيكاسو الذي ولد فقيرا وكان بسيطا في مظهره، تعلم على مر السنوات كيف يحافظ على أمواله، فكان مثلا حين يريد أن يقدم هدايا يكتفي بأي ورقة عليها رسمه وتوقيعه على اعتبار أن قيمتها ستتضاعف بعد حين».

* المال والفن.. العلاقة الخطيرة

* لا شك أن أسواق الفن التي عرفت انفجارا كبيرا منذ أواخر الثمانينات قد غيرت من مفهوم الفن وقلبت رأسا على عقب مواصفات الفنان العبقري. صورة الفنان الذي يموت جوعا لكي يعيش فنه والذي جسدته إنتاجات فنية رائعة كلوحة فنسنت فان غوغ «الغرفة»، أو لوحة «الشاعر الفقير» للرسام الألماني كارل سبيتورغ باتت تبدو كحلم بعيد.

اليوم أنجح الفنانين يبدو أكثرهم جدلا وحرصا على تحصيل الأرباح المادية، لدرجة أن الحدود اختلطت بين الإبداع والذوق الرديء وإثارة الاستفزاز. الفنان الإيطالي بيارو مانزوني الذي قام بوضع فضلاته في 90 معلبة حديدية وعرضها كتحفة فنية لم يكن يتصور أن قيمة قطعة واحدة من معلبة فضلاته ستصل بعد بضع سنوات إلى أربعين ألف يورو للقطعة الواحدة، ولا جيف كونز كان يتصور أن بالونه الأرجوازي المعلق الذي يشبه بالون طفولته سيجلب له من الأرباح ما يغنيه عن عمله في البورصة لسنوات طويلة.

لكن يبقى دخول المال مجال الفن حتميا كنتيجة طبيعية لاعتراف المجتمع بقيمة الفنان الإبداعية. فالفنان بحاجة للمال للعيش والاستمرار في الإبداع، ولا أحد اليوم يبدو حريصا على النصيحة التي تركها ليوناردو دي فنشي (الذي مات فقيرا) في أحد دفاتره القديمة: «أيها الرسام خذ حذرك من أن تصبح نكهة الربح أقوى من حبك للفن. الحفاظ على هذا الشرف يجب أن يبقى أهم من سلطة كل الثروات...».