لم الفلسفة في الزمن الضنين؟

أحد أشهر فلاسفة فرنسا المعاصرين ووزير التربية والتعليم في حكومة شيراك في أحدث كتبه

غلاف «لم الفلسفة في الزمن الضنين»
TT

كان الشاعر الألماني هولدرلين يتساءل: لم الشعراء في الزمن الضنين؟ ونحن نتساءل على أثره: لم الفلسفة والفلاسفة في الزمن الضنين؟ في الواقع أن هولدرلين طرح سؤاله معكوسا عن قصد، فالحاجة إلى الشعراء الكبار تزداد في الزمن الضنين ولا تنقص، بل إنه لا حاجة لنا إلى الشعراء والفلاسفة إطلاقا في الأزمنة السعيدة، في مثل تلك الأزمنة، إذا ما وجدت، يكفي أن تعيش، أن تستمتع بالحياة، دون تفكير تقريبا، بلا هم ولا غم... أيا كان من أمر، فإن مؤلف هذا الكتاب يعتبر واحدا من أشهر فلاسفة فرنسا المعاصرين: إنه البروفسور لوك فيري الذي كان وزيرا للتربية والتعليم في حكومة الرئيس السابق جاك شيراك، وكان قد نشر سابقا عدة كتب لاقت رواجا كبيرا داخل فرنسا وخارجها، ذلك أن الرجل مترجم إلى أكثر من خمس وعشرين لغة أجنبية، وقد اشتهر بمقدرته على الكتابة الواضحة في مجال مشهور بغموضه وصعوبته: هو الفلسفة. فهل يعقل أن تكون الفلسفة واضحة؟ نعم، والدليل على ذلك كتابات لوك فيري. فهو من أفضل من بسط النظريات الفلسفية الأكثر تعقيدا.

وعلى هذا النحو يتمكن الطلاب من قراءتها وفهمها دون صعوبة تذكر. من بين كتبه السابقة يمكن أن نتحدث عن تاريخ الفلسفة السياسية (في ثلاثة أجزاء)، ويمكن أن نذكر أيضا كتابه عن فيلسوف الألمان هيدغر بعنوان: هيدغر والمحدثون، وكذلك كتابه: لماذا نحن لسنا نيتشويين، إلخ، وفي هذا الكتاب الجديد يحاول لوك فيري أن يشرح لابنته الشابة وكل من هو في سنها تحولات الفلسفة منذ عصر اليونان وحتى يومنا هذا، والواقع أنه أهدى الكتاب إلى بناته الثلاث: غابرييلا، ولويزا، وكلارا. يتألف الكتاب من مقدمة وستة فصول وخاتمة، وكل فصل يتفرع إلى عدة فقرات. الفصل الأول يحمل العنوان التالي على هيئة تساؤل: ما هي الفلسفة؟ وهنا يقدم المؤلف عدة تعريفات بعد أن يقول: ليس من السهل تعريف الفلسفة، والواقع أن لها تعريفات كثيرة، ولا يزال الفلاسفة حتى اليوم مشغولين بتعريفها دون أن يتوصلوا إلى رأي واحد مجمع عليه.

فالبعض يقول: إن الفلسفة هي ذلك العلم الذي يدربنا على الفكر النقدي والاستقلالية العقلية، والبعض الآخر يقول: إنها المنهجية التي تعلمنا التفكر الدقيق والصارم، والبعض الثالث يقول: إن الفلسفة هي عبارة عن فن التفكير المنطقي أو العقلاني، إلخ، ولكن الفلسفة في الواقع تهدف إلى تقديم خلاص للإنسان على هذه الأرض، من هنا كان التنافس الحاصل بين المشروع الفلسفي والمشروع الديني على مدار التاريخ الأوروبي، فالدين أيضا يقدم مشروعا خلاصيا خلاصا أو عزاء للإنسان الذي يعرف أنه سيموت لا محالة.

ثم يردف لوك فيري قائلا: لقد عرف أحد فلاسفة الإغريق الفلسفة بكلمات بسيطة قائلا: إنها الفن الذي يعلمنا كيف سنموت. المقصود بأن الفلسفة تدربنا على قبول فكرة الموت التي يصعب على الإنسان القبول بها عادة، وبالتالي فالفلسفة تقدم لنا الحكمة العميقة التي تقنعنا بضرورة الموت أو على الأقل بضرورة القبول به رغم كل شيء بصفته قدرا محتوما لا مفر منه.

ثم يستدرك المؤلف: ولكنني أنا أقول: إن الفلسفة على العكس تعلمنا فن الحياة: أي كيف نعيش ونتصرف بشكل ذكي وحكيم وناجح في الحياة. أقول ذلك ونحن نعلم أن مفاجآت الحياة كثيرة، وكذلك مصائبها وكوارثها، وبالتالي فالفلسفة تجعلنا نقبل بهذه الكوارث، أو بالأحرى تمكننا من مواجهتها بكل رباطة جأش ومن دون خور أو جبن.

إنها تساعدنا على تبديد الخوف والقلق والهلع الذي يعترينا ما أن تصيبنا مصيبة أو نتعرض لحادث ما. فالذي يفقد أخاه أو أباه أو أي شخص عزيز عليه قد يفقد توازنه إذا لم يكن مسلحا بموقف فلسفي ما، ولهذا السبب قلنا إن الفلسفة هي عزاء للإنسان في عالم مليء بالمخاطر والمفاجآت.

ثم يردف المؤلف قائلا: هناك ثلاثة جوانب للفلسفة، الجانب الأول نظري، وهو يشرح لنا تركيبة العالم وسر الكون، والجانب الثاني عملي أو أخلاقي يشرح لنا كيفية التصرف في الحياة وأنواع السلوك، والجانب الثالث يخص الحكمة وهو يشرح لنا كيفية الخلاص أو النجاة.

والواقع أن الدين ينقذنا عن طريق الإيمان الذي يدخل السكينة والطمأنينة إلى قلوبنا، هذا في حين أن الفلسفة تنقذنا عن طريق العقل، وبالتالي فالمشروعان متكاملان في نظر البعض، ومتناقضان في نظر البعض الآخر، فالخلاص الديني غير الخلاص الفلسفي، أو قل إن مفهوم الخلاص في الدين غير مفهومه في الفلسفة.

أما الفصل الثاني من هذا الكتاب القيم فيتخذ العنوان التالي: أحد نماذج الفلسفة اليونانية، حب الحكمة لدى الرواقيين، وهم فلاسفة دعوا بهذا الاسم لأنهم كانوا يجتمعون في رواق معين للتفكير في شؤون الدنيا والحياة والموت، وكانوا يقولون إن على الإنسان أن يتقبل كل ما يحصل له حتى ولو كان سيئا، لأن هناك حكمة ما وراء كل ذلك.

فلا شيء يحصل في هذا العالم إلا بعقلانية معينة أو لسبب ما قد نجهله في معظم الأحيان، وبالتالي فلا داعي للتذمر والشكوى أو النواح والعويل إذا ما أصابتنا مصيبة ما، وإنما ينبغي أن نتقبل كل ذلك برحابة صدر، فما الفائدة من البكاء على الأطلال؟

وهو موقف صعب لا يقدر عليه إلا القليلون، ولكن إذا ما دربنا أنفسنا على الحكمة والتحمل والجلد فإننا نستطيع التوصل إلى الموقف الرواقي الصبور جدا والمتقبل لكل ما يأتي به القدر.

ويقول الرواقيون إن علينا ألا نخشى الموت كثيرا، لأننا جزء من هذا الكون وسنعود إليه بعد أن نموت وإن بشكل آخر، وبالتالي فلا يوجد موت نهائي أو فناء أبدي في هذا العالم، وإنما تحول من حالة إلى حالة، فلماذا الرعب إذن من الموت، هكذا نلاحظ أن الفلسفة اليونانية تسهل علينا قبول النهاية المحتومة التي تنتظر كل واحد من بني البشر.

أما في الفصل الثالث من الكتاب فإن المؤلف يتحدث عن انتصار المسيحية على الفلسفة الإغريقية، وهنا أصبح الإيمان هو الأهم وليس العقل البشري الخاص، فالإيمان يجبرنا على تحجيم العقل، أو بالأحرى تحجيم استخدام العقل وتسليم النفس للمشيئة الإلهية التي تتجاوز كل عقل بشري.

وهنا نلاحظ أن الخلاص لم يعد يحصل عن طريق الاتحاد بالكون أو العودة إليه كما اعتقدت الفلسفة الإغريقية، وإنما عن طريق اليوم الآخر والحساب الذي قد يوصلنا إلى الجنة إذا ما رجحت كفة الحسنات على كفة السيئات، وبالتالي فهنا يوجد تصور مختلف تماما عن مصير الإنسان بعد الموت، وعن الخلاص في هذا العالم أو النجاة في الدار الآخرة.

أما الفصل الرابع من الكتاب فيكرسه المؤلف لدراسة الموضوع التالي: النزعة الإنسانية ونشأة الفلسفة الحديثة، وهنا يتحدث المؤلف عن نظرية المعرفة لدى ديكارت وفلاسفة التنوير الذين جاءوا بعده، وبالأخص جان جاك روسو، ويرى المؤلف أن فلسفة التنوير تجاوزت التصور اليوناني والتصور المسيحي للكون والإنسان والميلاد والمصير.

أما الفصل الخامس من الكتاب فمكرس لنيتشه وما بعد الحداثة، وهنا نلاحظ أن صاحب «هكذا تكلم زرادشت» تجاوز التنوير والحداثة وشكل تصورا آخر هو تصور ما بعد الحداثة وما بعد التنوير، فنيتشه اخترع نظرية العودة الأبدية للشيء ذاته، وبالتالي فلا شيء يموت إلا لكي يحيا من جديد، وكل شيء يعود بطريقة أو بأخرى إلى هذا الكون، فالربيع الذي مر قبل مليون سنة سوف يمر بعد مليون سنة، وهكذا دواليك.

أما الفصل السادس من الكتاب فمكرس لفلسفة ما بعد التفكيك: أي لفلسفة لوك فيري نفسه، ولكنه يتوقف مطولا عند هيدغر ويعتبره أهم فيلسوف في العصر الحديث، لأنه اكتشف مرض الحضارة الحديثة قبل أي فيلسوف آخر، ولأنه عرف المخاطر المترتبة على غزو التكنولوجيا لكل مظاهر الحياة.