فرنسوا بايرو يدين ساركوزي «الذي شوه وجه فرنسا»

أراد أن يجبر البلد على السير على هدى ثاتشر في إنجلترا وريغان وبوش الابن في أميركا

غلاف الكتاب و فرنسوا بايرو
TT

مؤلف هذا الكتاب هو زعيم حزب الوسط في فرنسا: فرنسوا بايرو. وقد كان مؤخرا مرشحا لرئاسة الجمهورية مثل الاشتراكي فرنسوا هولاند واليميني نيكولا ساركوزي. ولحسن الحظ فإن هولاند هو الذي ربحها. وبايرو أحد القادة السياسيين الذين يحظون بالاحترام والتقدير في فرنسا نظرا لإيمانه بالقيم الديمقراطية الحقيقية وبالنزعة الإنسانية المسيحية والعلمانية في آن معا. والأطروحة المركزية التي يدافع عنها في هذا الكتاب هي أن فرنسا كانت قد أنشأت نظاما إنسانيا قائما على الشعار الثلاثي الأبعاد للثورة الفرنسية: حرية، مساواة، إخاء. منذ مائتي سنة وفرنسا تسير على هذا النهج الذي دشنته ثورتها الكبرى والمتمثل بتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين. وأيا كان الرئيس الذي يحكمها فإنها كانت تمشي في هذا الاتجاه حتى ولو كانت المساواة ناقصة والعدالة غير مكتملة. ولكنها مؤخرا، وفي ظل ساركوزي تحديدا، بدأت لأول مرة تتراجع عن هذا النهج الإنساني، عن هذا المثال الأعلى، بل وتتخلى عنه بكل وضوح. والسبب هو أن ساركوزي يريد أن يجبر فرنسا على السير في الخط الذي دشنته مارغريت ثاتشر في انجلترا وريغان وجورج بوش الابن في أميركا وعموم المحافظين الجدد والرأسماليين الجشعين في الغرب كله، فهؤلاء يعتقدون أن المساواة بين البشر فكرة سخيفة ولا تليق بمجتمع رأسمالي ديناميكي يريد أن ينافس القوى الأخرى الصاعدة كالصين والهند والبرازيل وسواها. وبالتالي فلكي ننجح اقتصاديا، يقول ساركوزي «ينبغي أن نسمح بحصول الظلم أو التفاوتات بين المواطنين ونعتبرها نعمة لا نقمة حتى ولو كانت صارخة، فالرأسمالي ورجل الأعمال وأرباب الشركات يحق لهم أن يكسبوا مبالغ طائلة وأن يكون راتبهم الشهري أكثر من مليون دولار لأنهم يقودون معركة العولمة والمنافسة المحمومة ضد البلدان الصاعدة، إنهم يتحملون مسؤولية كبيرة، وبالتالي فيحق لهم أن تكون رواتبهم أكبر بألف مرة أو حتى عشرة آلاف مرة من رواتب عمالهم وموظفيهم وكوادرهم». يؤكد بايرو أن الضريبة أصبحت تقع على كاهل الشعب بشكل أساسي لا على الأغنياء فاحشي الثراء، وهذا عكس ما ينبغي أن يحصل، وهكذا عدنا إلى ما قبل الثورة الفرنسية! عدنا إلى عصر الإقطاع والامتيازات، وقد صرح ساركوزي علنا في أحد خطاباته بأن المجتمع الديناميكي الحديث ينبغي بالضرورة أن يكون مجتمع اللاعدالة واللامساواة، ولكن فرنسوا بايرو يرد عليه قائلا بأن «هذه الفكرة مضادة لإعلان حقوق الإنسان والمواطنة الذي دشنته الثورة الفرنسية وصدرته كهدية إلى العالم كله، وبالتالي فساركوزي يسير عكس المنطق التاريخي للحضارة الفرنسية ذات النزعة الإنسانية والحضارية التنويرية. إنه يخون معظم المبادئ التي قامت عليها بلاد فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو». تقول المادة السادسة من هذا الإعلان الشهير ما يلي: «القانون ينبغي أن يكون لخدمة الجميع عن طريق حماية الضعيف المعتدى عليه، ومعاقبة القوي الظالم. كل المواطنين سواسية أمام القانون. وكلهم لهم الحق في الكرامة الشخصية والوصول إلى جميع المناصب والوظائف العامة طبقا لإمكاناتهم وكفاءاتهم ومن دون أي تمييز اللهم إلا طبقا لنزاهتهم الشخصية ومواهبهم».

هذا المبدأ أسس للمواطنة الحقة ليس فقط في فرنسا وإنما في العالم المتحضر كله. ولكن السيد ساركوزي يخرج عليه علنا ويخونه. إنه يخون قدس الأقداس الفرنسية: إعلان حقوق الإنسان والمواطنة الذي يعتبر إنجيل الثورة الفرنسية.

ينبغي العلم أن نيكولا ساركوزي ابتدأ عهده بطريقة استفزازية ولكنها تفضح معالم شخصيته وتفصح عن ميوله العميقة. وبالتالي فلها بعد رمزي كاشف. فقد دعا إلى مقهى «الفوكيت» الراقي في شارع الشانزلزيه كبار القوم للاحتفال بفوزه «المبارك» عام 2007. لقد جمع هناك أصدقاءه من كبار المليارديرات الذين يسيطرون على مرافق الاقتصاد الفرنسي ووسائل الإعلام الكبرى من جرائد وإذاعات وفضائيات هذا بالإضافة إلى بعض نجوم السينما والأضواء اللامعة. وسهر معهم وشرب نخب الكؤوس محتفلا بيوم النصر. وهكذا بدا الشعب العامل المكافح في جهة، والأغنياء المترفون المتخمون في جهة أخرى. والرئيس المنتخب اختار معسكره بشكل واضح: إنه ضد الشعب! وهذا شيء مخالف لفلسفة الحزب الديغولي الذي يحكم باسمه لأن الجنرال ديغول كان دائما مع الشعب. ولكن هل لساركوزي علاقة بديغول؟ أمر مشكوك فيه وإن كان يحكم باسمه. وبعد ذلك مباشرة راح يقوم بجولة بحرية استعراضية بحذاء شواطئ مالطة على يخت فخم لصديقه الملياردير. وبعدئذ رفض أن يمضي العطلة الصيفية في فرنسا التي لا تليق به وبعظمته فذهب إلى أميركا، ولكن ليس إلى أميركا المستنيرة لكلينتون أو أوباما وإنما إلى أميركا بوش والمحافظين الجدد. وكان المقصود منها إثبات تحول الموقف الفرنسي جذريا وكليا. ففرنسا في عهد ساركوزي هي مع الأقوياء في كل مكان وزمان وضد الضعفاء المظلومين في كل مكان وزمان أيضا. ثم أين هي روح الثورة الفرنسية؟ وهكذا تخلى عن كل ما كان يشكل أصالة فرنسا وإشعاعها في العالم على مدار التاريخ، وأثبت بذلك أن فرنسا أصبحت فعلا تحت حكم المحافظين الجدد الذين يعتبرون العالم العربي الإسلامي العدو الأول، ولذلك كنت قد نشرت هنا على صفحات «الشرق الأوسط» وبعد انتخابه مباشرة مقالة بعنوان: «شبح المحافظين الجدد يخيم على الإليزيه» (10 مايو /أيار 2007)، ثم سرعان ما أعاد ساركوزي فرنسا إلى حلف الأطلسي أو قل إلى جناحه العسكري، الذي كان ديغول قد سحبها منه. وفي الوقت ذاته أصبحت كل مراكز القرار السياسية والاقتصادية والإعلامية مربوطة ببعضها البعض عن طريق شبكة متراصة تقع تحت سيطرته ويحرك خيوطها من وراء الستار وهو جالس في قصر الإليزيه. بل وراح يلاحق خصومه من خلال التلاعب بمؤسسة القضاء المقدس في البلدان الديمقراطية. فبما أنه «رئيس مجلس القضاء الأعلى» بصفته رئيسا للجمهورية فإنه يستطيع أن يلحق التهم جزافا بخصومه السياسيين ويصفي حساباته معهم ويهددهم بالمحاكمات تمهيدا لإخضاعهم، كل يوم ينبش لهم قصة جديدة! هذا ما فعله مع دومينيك دوفيلبان وجاك شيراك بشكل أساسي، فقد أرهقهما بالملاحقات. وسلط البوليس السري (المخابرات) على خصومه بشكل دنيء وقذر لا يليق ببلد حضاري كفرنسا. وخرج بذلك عن أحد المبادئ الأساسية للنظام الديمقراطي ألا وهو: الفصل بين السلطات، وهو المبدأ العظيم الذي نظر له الفيلسوف الكبير مونتسكيو.. وبالتالي فقد شوه مفهوم الحكم الديمقراطي إلى درجة أنه يصعب القول بأن فرنسا كانت ديمقراطية في عهده. لقد كانت دولة بوليسية مثل دول العالم الثالث. حقا لقد شوه هذا الشخص صورة فرنسا في الداخل والخارج على حد سواء. وقد وصل الأمر بأحدهم إلى حد أنه وصفه بأنه: شخص لا أخلاقي، متعجرف، فظ، خشن الطباع، كذاب، أناني، حقود، انظر إلى معاملته لشيراك كما ذكرنا آنفا: لقد سحقه سحقا والآن أصبح يشيع عنه أنه مختل عقليا ومصاب بمرض فقدان الذاكرة، الخ. ولو استطاع لربما قتله وقتل أيضا دومينيك دوفيلبان بل وفرنسوا بايرو نفسه مؤلف هذا الكتاب. هل نحن في أحد بلدان العالم الثالث الديكتاتورية أم في بلد حضاري؟ فهل يعقل أن يستمر ساركوزي على رأس بلد عظيم وحضاري ورائد تاريخيا مثل هذا البلد؟ لحسن الحظ فإن الاشتراكي فرنسوا هولاند استطاع الإطاحة به بعد معركة ضارية. وهكذا أعاد إلى فرنسا وجهها المشرق وبعدها الإنساني والحضاري. الكل يتنفسون الصعداء الآن في باريس بمن فيهم اليمين الديغولي ذاته. ففرنسوا هولاند شخص محترم ونظيف وكفؤ باعتراف الجميع. وله علاقة حقيقية بالشعب، ولكن ساركوزي فعل المستحيل لكي يبقى في السلطة، لقد استخدم كل الأساليب الملتوية. ففجأة يحصل حادث غريب الشكل. وإذا به يعيد حظوظ ساركوزي إلى الواجهة قبيل التصويت بقليل ويقلب الأمور عاليها سافلها. ثم فجأة إذا بشاب هستيري أحمق يدعى «محمد مراح» يرتكب جريمتين متتاليتين راح ضحيتهما عدة أطفال يهود وعسكريين، وعندئذ راح ساركوزي يستعرض عضلاته كحامي حمى الفرنسيين ضد الإرهاب الأصولي الإسلامي، وراح يلعب على وتر الخلط بين الجالية المغاربية الكريمة التي تعد بالملايين وإرهاب حفنة من المتزمتين المتطرفين، وعندئذ ارتفعت أسهمه فجأة في بورصة المعركة الانتخابية وربح أربع نقاط دفعة واحدة في استطلاعات الرأي العام. فهل سيشكر ساركوزي محمد مراح؟ لولاه لكانت شعبيته قد ظلت في الحضيض. ليفهم كلامي جيدا: لم يحارب أحد الأصولية الدينية مثلما حاربتها أنا، ولكن هناك رائحة مريبة تشتم من وراء كل هذه الاختلاجات الاستعراضية التي شهدتها فرنسا آنذاك، لا أحد يعرف لماذا حصلت هذه الجريمة النكراء في هذه اللحظة بالذات وفي عز المعركة الانتخابية التي ستقرر مصير فرنسا؟ لا أحد يعرف لماذا لم تحصل إلا بعد أن أصبحت أسهم ساركوزي في الحضيض وإعادة انتخابه من رابع المستحيلات. أليس هدفها تحجيم فرنسوا هولاند بعد أن أصبح يهدد ساركوزي جديا ويمنعه من النوم؟ إنها قضية مشبوهة وغامضة حقا، ولكن لحسن الحظ فإن ألاعيبه الاستخباراتية لم تنفعه بل ارتدت عليه سلبا في نهاية المطاف، وأثبت الشعب الفرنسي بذلك أنه شعب ناضج لا يمكن الضحك عليه بسهولة. بالطبع يحق له حماية فرنسا من الشيوخ الراديكاليين الذين يدعون إلى العنف علنا في خطبة الجمعة أو على صفحات الإنترنت وشاشات الفضائيات. والواقع أن هؤلاء القروسطيين الظلاميين يسيئون إلى سمعة الإسلام والمسلمين أكثر مما يسيئون إلى فرنسا ذاتها. وينبغي على المسلمين المستنيرين أنفسهم أن يوقفوهم عند حدهم، ولكن ما لا يحق له هو أن يوهم الشعب الفرنسي بأن الجالية العربية الإسلامية تشكل خطرا على فرنسا وبالأخص على الطائفة اليهودية المحترمة والمعتدلة في أغلبيتها ما عدا غلاة اللوبي الصهيوني المسعور. ينبغي العلم بأن الجالية المغاربية والعربية الإسلامية هي الخائفة وليس العكس! فعلى من يضحك ساركوزي ووزير داخليته؟ كل يوم يكتشفون مجموعة إرهابية جديدة مؤلفة من أشخاص مزودين بلحى سوداء هائلة ويعرضونهم مرارا وتكرارا على شاشات التلفزيون لكي يرعبوا الفرنسيين أكثر وترتفع أسهم المرشح ساركوزي أكثر فأكثر وتنخفض أسهم هولاند وتتراجع.. عيب.. شيء مخجل. لماذا لم يكتشفوا كل هؤلاء الإرهابيين طيلة الخمس سنوات السابقة من حكمهم؟ لماذا لم يكتشفوهم إلا في هذه اللحظة بالذات: لحظة الحسم وانتخاب رئيس جديد؟ هل الشعب الفرنسي ساذج إلى مثل هذا الحد لكي تنطلي عليه ألاعيب السيد ساركوزي؟ هل نسوا أن الجالية المغاربية الكريمة والضخمة هي التي بنت فرنسا بسواعدها وعرق جبينها بعد الحرب العالمية الثانية؟ بل وهي التي أسهمت في تحريرها من الاحتلال النازي، وبالتالي فكانت تستحق معاملة أخرى غير التي تتلقاها الآن. كلنا يعلم بأنها مهمشة تضرب البطالة في صفوفها بنسبة 70 في المائة وتعاني أحياؤها من الفقر والإهمال، والآن أصبحت مشبوهة في كل حركاتها وسكناتها. كل علماء الاجتماع الكبار يقولون للقادة الفرنسيين ما يلي: لا يكفي أن تحاربوا التطرف والمتطرفين داخل أوساط المغتربين بشكل بوليسي، أمني. وإنما ينبغي أيضا تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المزرية. ينبغي أن تعاملوهم كبشر أو كمواطنين أو حتى كنصف مواطنين! وعندئذ ينحسر التطرف من تلقاء ذاته أو قل يتقلص إلى حد كبير.. لحسن الحظ فإن الشعب الفرنسي أثبت أنه ناضج سياسيا وعريق حضاريا فلم يستسلم لردود الفعل غير المحسوبة، ولم يقم بأي عمل انتقامي ضد الجالية على الرغم من كل التهييج الإعلامي الذي قام به ساركوزي والذي لم يكن له هدف إلا إعادة انتخابه بأي شكل، ولكن انقلب السحر على الساحر وسقط هذا الشخص الذي شوه وجه فرنسا، والآن بدأت فضائحه تظهر تباعا، وليس من المستبعد أن يستجوبه القضاء قريبا في عدة قضايا مشبوهة يبدو أنه متورط فيها.. تعسفات السلطة أو تجاوزاتها (أي سلطة ساركوزي).

المؤلف: فرنسوا بايرو