«الحركة الشعرية» الفرنسية تتوارى عن عمر 62 عاما

عدد أخير عبارة عن حصيلة حقبة بأكملها

TT

من الصعب تأسيس مجلة شعرية، لاعتبارات كثيرة، لعل من أكثرها قوة عُزوف القارئ عن قراءة الشعر، وعن شراء المجاميع الشعرية، مقارنة مع إقباله، النسبي، على قراءة الرواية والقصة القصيرة، وعلى أجناس كتابية أخرى، من بينها البيوغرافيا والأوتوبيوغرافيا وأدب المراسلات والرحلات.. إلخ. ولكن من الصعب والمؤلم، في آن، توقف مجلة شعرية عن الصدور، خاصة إذا كان لدى هذه المجلة قُرّاء أوفياء وخطّ تحريري خاص بها، أو لنقل: تنطلق من ذائقة شعرية لصيقة بها. ولعل هذا ما فاجأ عشاق الشعر في فرنسا، مع خبر توقف مجلة «الحركة الشعرية» Action Poétique، نهائيا، عن الصدور، بعد 62 سنة من التجريب والعطاء والانفتاح (1950 - 2012). وقد جاء العدد الأخير بمثابة حصيلة نهائية، ويباع مع العدد قرص مدمج يتضمن كل أعداد المجلة من بدايتها إلى اليوم.

وقد وُلِدت المجلة في مدينة مارسيليا إثر لقاء جمع بين هنري دولوي مع جيرالد نوفو وجان مالريو، ثم أضيف إليهم جان تورتيل وجان تودراني. وقد عبّرت المجلة، من البداية عن انبهارها وإعجابها بكل «أنواع السورياليات والمستقبليات»، وقد صدح من خلالها بابلو نيرودا وماياكوفسكي وريتسوس وحِكْمت وبريخت وتزارا وإلوار وغيرهم.

ولم تتوان المجلة عن الانخراط، بطريقتها، في الحركة المجتمعية، فشاركت في الحركات السياسية في زمنها، وهو ما سيعتبره البعض من بين أخطاء المجلة. وقد عرفت هذه المجلة التي كانت مقربة، في البدايات، من الحزب الشيوعي الفرنسي (على الرغم من قرب المجلة من الحزب الشيوعي فقد ظلت المجلة على الدوام مستقلة، وقد اكتشفت في الستينات وزن الستالينية الحقيقي والمرهق، وحينها مالت إلى التنويع من النصوص واللجوء إلى أعمال الترجمة)، كيف تخرج من جبته وتبتعد عنه بصفة تدريجية، لكنها استمرت في تكريس مكانة مهمة لما يمكن أن نطلق عليه النضال الشعري، ولعل في اسم «الحركة» ما يسفر عن هذا الأمر.

في تاريخ المجلة الطويل يبرز الشاعر هنري دولوي Henri Deluy الذي عمل بالمجلة خلال 60 سنة، وارتبطت به وارتبط بها أكثر من أي شخص آخر، وقرّر مع أعضائها الآخرين وضع حد لصدورها.

ليس ثمة أصعب من التوقف، خصوصا عن مغامرة تعشقها الذات، وهنا يستعيد الشاعر هنري دولوي جملة أرثر رامبو الشهيرة: «سيأتي عمال آخرون أقوياء!»، يقصد لإكمال المسيرة على طريقتهم وبنفسهم وتجاربهم.

ما السبب في توقف المجلة؟ يأبى هنري دولي إلا أن يؤكد: «لا يوجد سبب خاص. ليس هناك سبب ماليّ. ماليتنا سليمة، مع وجود فائض. والمجلة تباع بشكل جيد. الاشتراكات صامدة، تصل إلينا اشتراكات حتى من جامعات ومكتبات في الخارج، خصوصا من الولايات المتحدة الأميركية. صحيح أن المبيعات ضعيفة في المكتبات، ولكن ثمة نزوع إلى زيادة المبيعات. ليس ثمة من سبب آيديولوجي، إذ لا يوجد صراع حول توجهات المجلة، وليس من سبب شخصي، إذ ليس هناك صراع في لجنة الإدارة. فقط يبدو لي أنه، على وجه التحديد، في هذه الظروف، حان الوقت للتوقف بعد أكثر من ستين سنة من المنشورات والأنشطة».

وعلى الرغم من الدور الكبير لهنري دولوي في استمرارية المجلة، فإنه لا يجب إغفال إسهام جيرالد نوفو، الذي على الرغم من عدم تحدثه، وعلى الرغم من أنه لم يكن يمتلك أي شكل من السلطة ومن الشرعية، فهو الذي منح معنى أوّلا لتأسيس مجلة الحركة الشعرية. ومن حوله، ومن حول هالته كشاعر حقيقي، كشاعر «ملعون»، كما يقال، أي غير معترف به، من حوله خُلِقَت النواة الحساسة، النواة العاطفية والتخييلية أيضا، لما ستصير عليه المجلة مستقبلا.

وبتأثير من هنري دولوي ومساعدين آخرين، من بينهم جان روبو وجان بيير بالب، طبقت المجلة فن الانسجام الدقيق، وفن ملاءمة الاختلافات والتعارضات. وهو ما يفسر سر طول عمر هذه المجلة وطريقتها الخاصة بها في تجديد نفسها والعثور على أصالتها. لقد كان ديدنها السفر بعيدا عن كل الحدود، وأيضا التلفظ بكل اللغات. ولهذا السبب انفتحت المجلة على كل الأشكال المرتبطة بالشعر، من قريب ومن بعيد، من التانغو والدادائية إلى التروبادور والتحليل النفساني.

وقد حظيت المجلة بدراسات كثيرة تشيد بدورها في المشهد الشعري الفرنسي في انفتاحه على الشعر العالمي، وليس مستغربا ظهور مجلة شعرية عربية حملت ذات العنوان: «الحركة الشعرية». ويستحسن الرجوع إلى الأنطولوجيا التي كرسها باسكال بولانجي لمسار المجلة، حقبة بعد أخرى، ولا سيما مواجهتها مع مجلة «تيل كيل» في سنوات الستينات من القرن الماضي ورفضها لكتابة الالتزام، وأيضا سنوات الأزمة والعمى أمام ظهور حداثة جديدة. وكذلك موقفها ما بين سنتي 1968 و1978 من حضور على كل الجبهات، بما فيها ثورة مايو وبراغ والشعراء الإيرانيين وجدانوف والواقعية الاشتراكية.

من حسن حظ الشعر في فرنسا، أن «الحركة الشعرية» ليست المجلة الشعرية الوحيدة، إذ توجد العشرات من المجلات الشعرية، التي تكافح من أجل أن تعيش، وعلى رأسها مجلة «شعر» التي يشرف على إدارتها ميشال دوغي، التي خصصت عددها الجديد (139 - 140) للشعر الكوري المعاصر.