أبو الفكر الأميركي المحافظ ألكسندر هاملتون يعود إلى الواجهة

مات مقتولا في مبارزة مع نائب الرئيس الليبرالي جيفرسون بعد نقاش ساخن حول التوجهات الاقتصادية

TT

منذ كتابة الدستور في أميركا والأميركيون منقسمون بين الجيفرسونية الليبرالية والهاملتونية المحافظة.. الأزمة المالية الحالية التي تمر بها البلاد والاقتراب من انتخابات رئاسية حاسمة تعيد الجميع لمراجعة وجهتي النظر اللتين قادتا أميركا.. فما بين جيفرسون وهاملتون حكمت أميركا العالم.. من هما هذان الشخصان؟ وبماذا يختلف هاملتون المحافظ تحديدا عن مناوئه جيفرسون الليبرالي؟

يحتفل الأميركيون هذه السنة بمرور مائة عام على تأسيس «فيدرال ريسيرف بورد» (مجلس الاحتياط الاتحادي) الذي يوازي البنك المركزي في الدول الأخرى. وقبل هذا الاسم، كان اسمه «فيرست بنك» (البنك الأول) الذي أسسه ألكسندر هاملتون، من «فاوندينغ فاذرز» (الآباء المؤسسون)، وأول وزير خزانة، وأبو الفكر الأميركي المحافظ.

ولا يذكر أبو الفكر الأميركي المحافظ، إلا ويذكر أبو الفكر الأميركي الليبرالي: توماس جيفرسون. وهو أيضا من «الآباء المؤسسين»، وكاتب إعلان الاستقلال الأميركي، وأول وزير خارجية (في عهد الرئيس الأول جورج واشنطن)، ونائب الرئيس الثاني جون آدامز. والرئيس الثالث، لفترتين.

تبحر الرجلان في الفلسفة، وتأثرا بآراء فلاسفة أوروبيين، وكانا أحسن حظا ممن سبقهما لأنهما وصلا إلى الحكم، واستطاعا تطبيق كثير من أفكارهما.

تأثر أبو الليبرالية جيفرسون بالفيلسوف البريطاني جان لوك (ولد قبله بمائة سنة تقريبا، وتوفى سنة 1704) الذي يعتبر أبو الفكر الليبرالي الغربي. وتأثر أيضا بفلاسفة فرنسيين، مثل فرانسوا فولتير، وجان جاك روسو، وهما من جهتهما تأثرا بالبريطاني لوك. وكان جيفرسون سفيرا لأميركا لدى فرنسا عندما وقعت الثورة الفرنسية (سنة 1789). وكان فولتير وروسو توفيا قبل الثورة الفرنسية بإحدى عشرة سنة، وبعد الثورة الأميركية بسنتين (سنة 1776).

وتأثر أيضا بأفكار لوك مثل: «سوشيال كونتراكت» (الميثاق الاجتماعي و«إنديفيديواليزم»/ الفردية) و«تولارانس» (التسامح) و«ديازم» (المسيحية التي تعارض التثليث وعبادة عيسى بن مريم). لكن، مثل لوك، كان متناقضا (وربما «منافقا») لأنه، رغم أفكاره الليبرالية، لم يعارض تجارة الرقيق. لوك جاء إلى أميركا، ونصح الأميركيين بتأسيس دولة أرستقراطية على الطريقة البريطانية تعتبر حتى البيض ممتلكات، ناهيك بالزنوج. وجيفرسون كان يملك مئات الرقيق.

* ألكسندر هاملتون

* جيفرسون أكبر من هاملتون بعشر سنوات تقريبا. ولد جيفرسون في مجتمع أرستقراطي (أو شبه ارستقراطي) في ريف ولاية فرجينيا الزراعية. وعاش كذلك حتى وفاته في المكان نفسه.

وولد هاملتون في منزل بائس بجزيرة «نيفيس» (من جزر البحر الكاريبي) التي كانت تستعمرها بريطانيا. وحتى وفاته، لم يعرف تاريخ ميلاده الحقيقي. ولد نتيجة علاقة جنسية غير شرعية.. خانت والدته زوجها، وعاشرت والده الذي لم يكن متزوجا، وبعد أن حملت، طلقها زوجها، وهجرها عشيقها، وانتقلت حاملا إلى جزيرة أخرى في البحر الكاريبي، حيث وضعت ابنها.. في ما بعد، تزوجها جيمس هاملتون (ومنح الصبي اسم «هاملتون»). لكنه طلقها عندما عرف أنها كانت عشيقة والد الصبي، وأن الصبي ليس شرعيا (لكنه لم ينزع من الصبي اسم «هاملتون»). عندما توفيت الأم، صار الصبي يتيم الوالدين، وعندما بحث عن ثروة والدته، وجد أن زوجها السابق سجلها باسمه، وعندما ذهب إلى مدرسة كنيسة الجزيرة، لم يقبل لأن الكنيسة قالت إنه غير شرعي. واضطر لأن يدرس في مدرسة خاصة.. وكان مدرسه يهوديا، درسه التجارة والاقتصاد، وأثر على أفكاره الاقتصادية.

هناك نقطة يهودية أخرى في حياة هاملتون، وهي أن والدته، عندما كانت عشيقة والده، كانت متزوجة من جوهان لافين، نصف يهودي، لكنه طلقها بعد أن عرف خيانتها له، ولم تكن له أي علاقة مع الصبي هاملتون. لكن، عندما كبر هاملتون، وبدأ البحث عن ثروة والدته، وصل إلى لافين الذي أنكر أي ثروة عنده تابعة لزوجته السابقة.

* الهجرة إلى أميركا

* عندما كان عمر هاملتون 22 سنة، هاجر إلى الولايات المتحدة (كانت مستعمرة بريطانية). ودرس الاقتصاد في كلية كولومبيا (جامعة كولومبيا في وقت لاحق) في نيويورك. ومال نحو نظريات السوق المفتوحة، وانضم إلى «الآباء المؤسسين» في الحرب ضد الاستعمار البريطاني، غير أنه كان «معتدلا»، ورفض حربا بين المعارضين المسلحين وجنود أميركيين حاربوا مع الاستعمار البريطاني (كان المعارضون يتهمون هؤلاء بالخيانة، ويقتلونهم)، ثم تزوج ابنة ثرى إقطاعي في نيويورك.

بعد استقلال الولايات المتحدة (سنة 1776)، وتشكيل حكومة الرئيس الأول جورج واشنطن، صار أول وزير للخزانة. قبل ذلك، كانت الثورة ضد بريطانيا تعتمد على تبرعات قادتها (أغلبيتهم أثرياء)، وعلى تبرعات من فرنسا (التي أيدت الثورة الأميركية نكاية في بريطانيا).

وبصفته وزيرا للخزانة:

أولا: وضع أول ميزانية أميركية.

ثانيا: أقر أول ضريبة، على الواردات والمنتجات المحلية، وعلى إنتاج الخمور.

ثالثا: عندما تمرد جنود كانوا اشتركوا في حرب الاستقلال احتجاجا على عدم صرف مرتباتهم لشهور، وضع هاملتون أول قانون لتنظيم الرواتب والمعاشات.

رابعا: أسس أول بنك مركزي، سماه «فيرست بنك» (البنك الأول)، واسمه الآن «فيدرال ريسيرف بورد» (مجلس الاحتياط الاتحادي). وقرر هاملتون أن تساهم البنوك الخاصة والمستثمرون في البنك المركزي، وأن يكون البنك المركزي حلقة الاتصال بين المستثمرين والحكومة.

* ديون الحكومة على البنوك

* عندما كان هاملتون وزيرا للخزانة، كانت ديون الحكومة الاتحادية 50 مليون دولار. (اليوم 16 تريليون دولار). وكان خصمه جيفرسون وزيرا للخارجية. لكن، تدخل جيفرسون كثيرا في محاولات هاملتون تطبيق فلسفته المحافظة على الاقتصاد الأميركي. وعارض جيفرسون تأسيس البنك المركزي. وقال إنه سيساعد على:

أولا: تراكم ديون الحكومة على البنوك.

ثانيا: تساهل الحكومة مع مغامرات البنوك.

ثالثا: لهذا، تصير الحكومة رهينة البنوك.

وفي حملته الانتخابية سنة 1800، انتقد جيفرسون خصمه هاملتون، وحمله مسؤولية الكارثة الاقتصادية في ذلك الوقت (كان سببها الرئيسي هو السبب نفسه للأزمة الاقتصادية الحالية: مغامرات خطيرة من جانب البنوك في تقديم قروض سكنية وعقارية. ومثل اليوم، حوكم مسؤولون في البنوك وعوقبوا بالسجن).

خلال مناقشات كتابة الدستور (أعلن بعد عشر سنوات تقريبا من الاستقلال)، ظهرت واضحة نظريات هاملتون المحافظة. وكتبت في حلقات، تعرف الآن باسم «فيدرالست بيبرز» (الأوراق الفيدرالية) عن العلاقة بين حكومات الولايات والحكومة الاتحادية. وخلال مناقشات لجنة الدستور، قدم هاملتون اقتراحات كثيرة، منها:

أولا: أن يكون الرئيس الأميركي وأعضاء الكونغرس مدى الحياة، بعد انتخابهم أول مرة. ورفض اقتراحه.

ثانيا: أن يكون لحكومات الولايات دور في وضع الميزانية الاتحادية والسياسات الداخلية والخارجية. ورفض اقتراحه.

ثالثا: لكن، أجيز اقتراحه الذي يقول: «يضاف إلى عدد كل الأحرار ثلاثة أخماس عدد غيرهم» (إشارة مؤدبة إلى أن الزنجي يساوى ثلاثة أخماس الأبيض. فقط عند إحصاء عدد السكان ودفع الضرائب، وليس للتصويت، لأن الزنوج كانوا ممنوعين من التصويت أساسا). هذه المادة موجودة في الدستور حتى اليوم، مع التعديل الذي ألغاها فيما بعد).

* مناقشات لجنة الدستور

* خلال مناقشات كتابة الدستور، قاد هاملتون جناحا، وقاد توماس جيفرسون جناحا آخر. ورغم اتفاقهما على تجارة الرقيق، كانت الاختلافات واضحة جدا بين أبي الفكر المحافظ وأبي الفكر الليبرالي. بل هدد هاملتون مرات كثيرة بالانسحاب من لجنة كتابة الدستور. وعندما وقع على النسخة النهائية، قال إنه فعل ذلك مضطرا. (انسحب بعض أعضاء اللجنة المحافظين، حتى قبل كتابة النسخة النهائية، وقالوا إن الدستور «اجتماعي» أكثر منه «إنمائي»).

ربما يكون أهم أكاديمي معاصر كتب عن هاملتون هو جون غوردون، ومن مؤلفاته: «تراث هاملتون: ديون الحكومة الأميركية» و«إمبراطورية الثروة: تاريخ القوة الاقتصادية الأميركية» و«وول ستريت بوصفها قوة عالمية».. ومما كتبه:

أولا: هذا انقسام تاريخي بين فكرتين مختلفتين (لم يقل متناقضتين): الجيفرسونية الليبرالية والهاملتونية المحافظة.

ثانيا: نجح جيفرسون في كتابة دستور «ليبرالي أكثر من محافظ».

ثالثا: من إنجازات الفكر الليبرالي: عتق الرقيق، مساندة الديمقراطيات الأوروبية، قوانين روزفلت الاجتماعية، الحقوق المدنية، تقليل التدخلات العسكرية الأميركية في الخارج.

رابعا: لن ينسى المحافظون، ربما إلى الأبد، هزيمتهم في لجنة كتابة الدستور (قبل مائتين وثلاثين سنة).

خامسا: لا الرئيس ريغان (الجمهوري المحافظ)، ولا حزب الشاي (الجناح اليميني في الحزب الجمهوري) هما نجما الحملة ضد الليبراليين. هاملتون بدأ ذلك عندما تأسست الولايات المتحدة.

مثل اليوم، في ذلك الوقت كان هناك حزبان رئيسيان: الأول: «الفيدرالي» (حاليا الجمهوري، إشارة إلى تركيزه على حكومات الولايات أكثر من الحكومة الفيدرالية) بقيادة جون آدامز (الرئيس الثاني بعد جورج واشنطن) وهاملتون.

الثاني: «الديمقراطي الجمهوري» (حاليا الحزب الديمقراطي) بقيادة جيفرسون (في سنة 1800، فاز على آدامز الذي أعاد ترشيح نفسه، وصار الرئيس الثالث).

ومثل الأميركيين المحافظين والجمهوريين اليوم، مال هاملتون ميلا كبيرا نحو استغلال الدين في السياسة. وفي سنة 1802، انشق عن الحزب الفيدرالي (الجمهوري)، وأسس «الحزب المسيحي» (ربما مثل «حزب الشاي» حاليا)، وشعاره: «قبل تقديس الدستور، تقديس المسيحية».

* جيفرسون الليبرالي

* حسب كتاب «إعادة النظر في جيفرسون: وقته ووقتنا»، ركز جيفرسون على حق الحياة، والحرية، وتحقيق السعادة. لكنه شك شكوكا كثيرة في رجال الأعمال، وكتب بأنهم، عكس الحكام الذين يجب أن ينفذوا رغبات المحكومين، يريدون تنفيذ رغباتهم الخاصة التي تتركز على الربح.

في الوقت الحاضر يعاني العالم من مشكلة اقتصادية كبيرة؛ أهم أسبابها فساد وطمع البنوك والشركات الاستثمارية العالمية. قبل مائتي سنة، كتب جيفرسون الآتي: «أفضل لو أن الإنسان عمل عملا شاقا، وجمع المال بعرق جبينه وصرفه على نفسه، من أن يذهب إلى بنك ويوقع أوراقا ويتعهد تعهدات ليصرف على نفسه من مال البنك. ثم لا يقدر على أن يفي بالتعهدات، ولا يقدر على أن يحقق كل أهدافه».

وعن ديون البنوك على الحكومة، كتب: «كل عشرين سنة يأتي جيل جديد. لهذا، كل عشرين سنة يجب أن تتخلص الحكومة من ديونها على البنوك حتى لا يرثها جيل ليس مسؤولا عنها».

وفي خطاب الوداع في البيت الأبيض، قال: «تظل البنوك الحالية نقطة سوداء في حياتنا. إذا لم نحل مشكلتها، ستدمرنا. هي تعتمد على المغامرة، والفساد. وكلما كبر حجمها، تراجعت قيمنا الأخلاقية».

في الجانب الآخر، تأثر هاملتون بالفلسفة البريطانية التجارية «ميركانتاليزم»: تقود الحكومات التجارة الخارجية لخدمة مصالحها. وطبعا، كانت هذه الفلسفة (التي بدأت بعد الثورة الصناعية) من أهم أسباب الصراعات والحروب بين الدول الأوروبية، وزيادة المستعمرات الأوروبية في آسيا وأفريقيا.

غير أن فلسفة «ميركانتاليزم» كانت من أسباب فلسفة «فري تريد» (التجارة الحرة) التي قادها آدامز سميت (أبو الرأسمالية) في كتابه «ويلث أوف نيشنز (ثروة الشعوب)».

لم يختلف كثيرا جيفرسون (أبو الفكر الليبرالي) وهاملتون (أبو الفكر المحافظ) عن سميث (أبو الفكر الرأسمالي). لكن، بينما ركز جيفرسون على دور الحكومة في مراقبة نشاط البنوك والأغنياء، ركز هاملتون على مزيد من الحرية لهؤلاء.

وكتب جيفرسون أنه، بالإضافة إلى أن سميث كتب كتاب «ثروة الشعوب»، كتب أيضا كتاب «نظرية العواطف الأخلاقية». وركز فيه على الجانب الإنساني للرأسمالية. وكتب فيه: «نعم، تميل النفس البشرية نحو مصلحتها (الطمع، والحسد). لكنها تميل أيضا نحو القيم الأخلاقية التي تقوم على أساس العلاقات الاجتماعية (وليست الفردية)، وهي التي تحدد ضمير الشخص».

ذهب سميت إلى أبعد من ذلك، ودعا إلى «ثقافة العطف»، أي إن الإنسان، عندما يركز على الذين حوله، «ينقى نفسه أخلاقيا»، وعندما يركز على نفسه، «ينغلق على نفسه».

اليوم، لا يختلف الوضع كثيرا عما كان عليه قبل مائتي سنة تقريبا:

أولا: تشبه الأزمة الاقتصادية أزمة شبيهة لها في ذلك الوقت.

ثانيا: بينما يريد الديمقراطيون (بقيادة الرئيس أوباما) مزيدا من رقابة الحكومة على البنوك والشركات، يريد الجمهوريون (بقيادة حزب الشاي) مزيدا من الحرية لهذه.

ووسط كل هذا، يشاهد الذي يمر أمام مبنى وزارة الخزانة (بجوار البيت الأبيض) على شارع بنسلفانيا، تمثالا عملاقا، كتب عليه الآتي: «ألكسندر هاملتون، 1757 - 1804، أول وزير خزانة، جندي، خطيب، رجل دولة، بطل الدولة الدستورية، والحكومة الديمقراطية وأمن الوطن. لمس صخرة الموارد البشرية، ففاضت سيول الثروات، ولمس جثة قروض الحكومة، فعادت إليها الحياة».

لكن، ليست هناك إشارة إلى ثلاث نقاط:

أولا: ترك هاملتون وزارة الخزانة بعد فضيحة علاقات جنسية مع زوجة وزير.

ثانيا: مات مقتولا، بعد مبارزة مع آرون بور، نائب الرئيس جيفرسون، بعد نقاش ساخن جدا حول الفكر الليبرالي والفكر المحافظ.

ثالثا: دفن في كنيسة بالقرب من «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك) الذي كان صاحب فكرته.