نقاد وأدباء سعوديون: الظواهر الثقافية تستلزم نقدا ثقافيا لإنقاذها من الشلل

المستجدات المتلاحقة تتحكم في صناعة واقع يتغير باستمرار

د. عبد الله الغذامي
TT

هل هناك نقد ثقافي فعلا؟ ما هي سماته وخصائصه؟ وما الفرق بينه وبين النقد الأدبي؟ وكيف يتجسد في الممارسة؟

عدد من النقاد والأدباء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، عن واقع هذا النقد، مشخصين الظواهر الثقافية في عالم متغير وحركة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، متأثرة بما يجري حولها من أحداث، في إشارة إلى أثر الثقافة في تغيير طريقة التفكير والتفاعل مع مستجدات ومتغيرات الحياة على كل الصعد.

وفي حديث سابق لـ«الشرق الأوسط»، كان الناقد السعودي المعروف الدكتور عبد الله الغذامي، قد اعتبر النقد الثقافي نظرية جديدة في مجال النقد تهتم بالجانب المعرفي من حيث أنها تقرأ الثقافة بأنساقها الثقافية المختلفة، وقال: «أي يعني أننا، بلغة أخرى نحاول كشف عيوب الثقافة أيا كانت، ولكنني معني بالثقافة العربية. ومنذ أن تشكل ما يسمى (الثقافة العربية) وإلى اليوم هناك أنساق مغمورة تتحكم في الخطاب، وبالتالي تتحكم في الأشخاص، إذ إن كثيرا منا تنتج تركيبته الذهنية للثقافة، حيث نولد ونجد الثقافة قائمة، ذلك أننا نأتي لعالم الثقافة موجودة فيه ثم نستقبلها منذ طفولتنا، وهي تبرمج تفكيرنا ورؤيتنا حول أنفسنا وحول العالم، فنتخلص من أجزاء منها ونطور أجزاء أخرى ونلغي ما عدا ذلك».

ولكن مع ذلك فإنه، وفق الغذامي، هناك أجزاء لا تلغى لأنها في رأيه قوية ومؤثرة جدا. إنها تختفي أحيانا، غير أنها تعود أحيانا أخرى، «فمثلا، تجد مثل هذه الأمور في بلد ما هادئة جدا ولكن فجأة تدور حرب بين قبيلتين أو بين مدينتين أو بين عرقين أو طائفتين أو مذهبين، فيتبادر لك سؤال: كيف لهؤلاء تدور بينهم حرب مع أنهم كانوا يعيشون معا لقرون طويلة.. فهنا يأتي النقد الثقافي».

والسؤال الذي يطرحه الغذامي هنا هو: «ما النسق الذي كان مختبئا ثم ظهر؟ وما الذي أيقظه من وهدته وحفزه على فعل ذلك؟ هذه أسئلة النقد الثقافي التي تبحث عن الأنساق المختبئة والمغمورة، وفي لحظة من اللحظات تتكشف وتدير عقول الناس.. بل إنها تلغي عقولهم في كثير من الأحيان. وكثير من الناس الذين شاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية قرابة 20 سنة بدأوا بعد أن وضعت الحرب أوزارها بالحديث عن حالة اللاعقل وكانوا يقولون بصراحة: نحن كنا نتصرف من دون عقل، يعني لم يكن هناك مجال للعقل لكي يسأل ويحاور».

وقال: «نحن في وضع ثقافي متغير جدا. فإذا لم يؤخذ بأبعاد المتغيرات ونسبق بها خطوات الزمن فسوف نظل ندور في حديث متكرر عما كانت عليه الـ20 سنة الماضية، إذ إن ما يقام حاليا من ندوات ومحاضرات لا تختلف عما كانت عليه قبل 20 سنة. فالجانب التجريدي والتجريبي والمغامرة المعرفية أصبحت معدومة، وبالتالي نتج عن ذلك نتاج عادي روتيني أفرز عللا صعبة جدا على التفكير فيها بشكل إبداعي أو ثقافي».

وأوضح الغذامي، أنه عند الربط بين النقد والنظرية وما يمارس في الساحة الثقافية الآن إن كان هو نقد ثقافي أم أدبي، لا بد من معرفة أن النظرية هي التصور المعرفي، «أما النقد فهو إجراء، وهنا لا بد من التفريق بين التصور المعرفي والإجراء. بطبيعة الحال لن يكون النقد دقيقا ومنضبطا إلا إذا اتكأ على التصور المعرفي الذي هو النظرية».

النظرية تنتمي، بالنسبة للغذامي، إلى عالم الفلسفة وعالم المعرفة، أما النقد فهو الممارسة التطبيقية الفعلية لهذه التصورات ومنظومة المصطلحات. وغالبا ما تغلب على النقد منظومة المصطلحات، بينما يغلب على النظرية مفاهيمية التصور الكلي. فالنظرية كلية والنقد يتعاطى مع ما يمكن أن نعتبره جزيئات غير أنها تنتمي في نهاية الأمر إلى هذه الكلية المطلقة.

ويرى أن «الذين يتقنون النقد الثقافي، بأصوله المعرفية، قلة قليلة جدا، وأحيانا يظن البعض أن مجرد أن يتحدث أحدهم عن مسألة ثقافية فإنه يصبح ناقدا ثقافيا، كأن يتحدث عن الملابس والموضات».

وفي حديثها لـ«الشرق الأوسط»، لم تذهب الناقدة والشاعرة الدكتورة أشجان هندي، أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، بعيدا عما ذهب إليه الدكتور الغذامي، مبينة أن العالم أجمع الآن في وضع متغير بشكل متسارع، مما أفرز وضعا ثقافيا متغيرا بشكل متسارع أيضا، وهو ما يسميه البعض «الظاهرة الثقافية»، مشيرة إلى أن منطقة الخليج ومجتمعاتها، بما فيها السعودية، هي جزء من هذا العالم المتحول نحو آفاق أوسع في مجالي الاتصال والتكنولوجيا.

وهي تعتقد أن هذا التحول المستمر في وضعية ومفاهيم التعاطي مع الثقافة بشكل عام، أثر وتأثر بالمنتج الثقافي الخليجي، الذي يعبر بالضرورة عن التحول في ذهنية الشباب الثقافية، وبالتالي يؤثر في منتجاتهم الثقافية وطريقة تفكيرهم، بشكل انعكس بوضوح على مجمل المنتج الثقافي الذي يعتقد البعض أنه يلبس ثوب الظاهرة الثقافية.

ومن هنا، ترى هندي أن هذه الظاهرة الثقافية التي اجتاحت المنطقة، تستلزم مواكبة ومسايرة من قبل حركة النقد الثقافي تحديدا، «لأن هذا الواقع الذي أفرز حالة من النقد الثقافي لمجمل الظاهرة الثقافية، خلق نوعا من جدلية التفاعل الثقافي الساخن، الأمر الذي جعل من النقد الثقافي ضرورة ثقافية عصرية». ووفق هندي، تبقى ثمة أسئلة عالقة تنتظر إجابات شافية، تتصل بكيفية تصحيح الوعي بالمتغيرات الكبرى على مستوى الثقافة العالمية، وكيفية التفاعل مع شروط المرحلة، «وإلا سيكون العالم مضى وتركنا في المحطة كما يفعل القطار»، محملة رواد النقد الثقافي مسؤولية جسيمة في ترسيخ بنى تحتية ثقافية تؤثر في تشكيل الفهم الثقافي وظواهرها بشكل أو بآخر.

وتتفق هندي مع الغذامي في أنه على صعيد الممارسة الثقافية ونقدها، فإن النقد الثقافي، سواء ذلك الذي يتخذ من الصحافة المكتوبة والمسموعة والمقروءة منابر له، ما زال مبكرا، لكنها تؤكد حتمية ارتباط النقد الثقافي بأصوله المعرفية للإسهام في صناعة ثقافة رفيعة المستوى وتلامس حياة الناس بشكل إيجابي.

وذلك يتطلب ممن يتصدى للنقد الثقافي أن يتشرب بالواقع جيدا، ويتسلح بكم كبير من المعلومات لمحاولة اكتساب تجربة وخبرة في ريادة هذا المجال، «حتى لا يكون النقد الثقافي وبالا وشرا مستطيرا».

وأخيرا، أكدت هندي ضرورة دراسة الظاهرة الثقافية بشكل جيد من حيث أسباب تناميها وتشكلها بالشكل الذي تظهر عليه حاليا، مبينة أن الأمر على أهميته يبقى مسؤولية صعبة المراس، نسبة إلى التغير الذي ينتظم سائر حقول المعرفة والمفاهيم التقليدية، مشيرة إلى أن هذه الصعوبة تعود إلى ارتباطها بشكل مباشر بعالم متغير وحركة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية متأثرة به، وبما يجري حولها من أحداث.

من ناحيته قال الشاعر السعودي إبراهيم الوافي لـ«الشرق الأوسط»: «الحضور الثقافي الحالي لدينا، في ظل الأوضاع السياسية المضطربة في بلدان الجوار، هو محاولة جادة للخروج من أزمة المحاكاة والتبعية التي لازمت مجتمعنا الثقافي طوال العقود الماضية بصورة أو بأخرى، وهي نتاج طبيعي تبعا لحداثة التشكيل المدني لمجتمعنا، مقارنة بدول الجوار العربية. وهناك عوامل عدة أدت لذلك؛ أهمها تعدد قنوات التعبير الحر عبر وسائل الاتصال التقنية، ومنها الشبكة الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، مع وجود مساحة كبيرة من الحرية التعبيرية مقارنة بما مضى»، مبينا أنه «لا يمكن إغفال بعض البرامج الخاصة برواج الثقافة مثل معارض الكتاب في دول الخليج واتساع حضورها على مستوى التسويق والترويج للثقافة محليا وخارجيا».

ويعتقد الوافي أن مسؤولية النقد الثقافي تجاه الظواهر الثقافية التي أخذت تجتاح المجتمعات تتعاظم في ظل تحديات ذات صلة تتعلق بالمفاصلة وإيجاد وجه الشبه بين المنتج الثقافي مع منتج سابق، «فكثيرا ما نجد المقلد العظيم كأنه مبدع عظيم.. فالتقليد المتقن جدا يتبدى لنا أمام أعيننا على أنه إبداع، ولكن إذا دققنا النظر فيه، فسنجد فيه الجانب التقليدي والجانب الإبداعي معا، بينما الاختلاف يكمن في كيفية الخروج عن الأنماط الثقافية للبحث عن أنماط جديدة منها».

ويرى أن مسؤولية النقد الثقافي تتجاوز مسألة كشف الأنساق الثقافية، إلى حد التفاعل معه ليس بالضرورة أن يكون إيجابيا أو سلبيا، بقدر ما هو تأثير متحرك وفق المستجدات والمتغيرات، من شأنه أن يلعب دورا كبيرا في تحول الذهنية لدى المتلقي والمتفاعل وفق الخطاب الثقافي الذي ينعكس على الواقع السياسي وعلى العائلة وعلى الإنسان في المجتمع وعلى نظرة الثقافة إلى نفسها، بجانب لعبها دور المصحح للعقائد الثقافية الرجعية القائمة على عناصر العنصرية و«الشوفينية».