محمود درويش في ذكراه الرابعة.. مقلتاه غائرتان بدمع متحجر

فلسطين افتتحت له متحفا ضم ضريحه والحاجيات

محمود درويش
TT

«تسأل: ما معنى كلمة وطن؟

سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز والسماء الأولى.

وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات، وتضيق بنا؟»

هذه الكلمات انتشرت بشكل واسع على صفحات «فيس بوك»، بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش. القراء وجدوا في هذه العبارات القليلة المختزلة لشاعرهم الأثير، تعبيرا عن وجع هائل في زمن الثورات الدموية الهادرة. هكذا تذكر المواطن العربي العادي درويش، وهو يبحث عن أوطان تذروها الريح فتتفتت كما لو أنها شيدت من ورق متهرئ. لم تقم الاحتفالات الشعرية والندوات أو حلقات القراءات الشعرية، كما جرت العادة لتذكر شاعر استثنائي. فرائحة الموت تكتسح الأرض العربية، وصوت المظاهرات في الميادين تطغى على كل ما عداها. في فلسطين كان الأمر مختلفا، وافتتح متحف لدرويش إحياء لذكراه في رام الله على تلة مشرفة على القدس، فيه قاعة لأغراضه ومكتبة تضم كتبه وكاسيتات الفيديو التي توثق أمسيات له ومقابلات وتسجيلات أخرى، ومسرح، إضافة إلى ضريح الشاعر. لا يبدو أن المتحف استجمع كثيرا من مقتنيات درويش وحاجياته بحسب ما قرأنا، وعلى الأرجح هو بعض ما تمكنت المؤسسة التي حملت اسمه من الحصول عليه. كما كل شيء عربي هذه الأيام، فالإنجازات تبقى صغيرة بحجم الإمكانات المتضائلة للمنطقة وأهلها. لكن الفكرة بحد ذاتها مهمة، كمحطة أولى صوب تجميع ما تركه درويش ولا يزال بعيدا عن متناول المؤسسة، يضاف هذا إلى إرثه الشعري والنثري الكبيرين الذي أصبح قطعة من الوجدان العربي، كما هي أغنيات فيروز وألحان محمد عبد الوهاب.

ليس هناك ما هو أكثر دلالة من تلك الكلمات التي اختارها أهل «فيس بوك» لتذكر درويش. فالرجل ليس شاعرا فلسطينيا فقط، بل هو صوت عربي عبر، دائما، عن أوجاع العرب وقلقهم وقهرهم وهزيمتهم، ومن ثم، حين خفت صوتهم وجنحوا للسلام، عبر عن رغبتهم في جعل فلسطين هامشا رغم أنها بقيت متنا. غاب محمود درويش ولم يكتب له أن يتأكد حيا من أن اليوم الذي تصبح فيه فلسطين نسيا منسيا، هو أقرب مما كان يتوقع أو يتخيل. كانت فلسطين القلب صارت فلسطين ملحقا صغيرا بلائحة طويلة من الكوارث والنكبات المتلاحقة. كانت الثورة فلسطينية، صارت الثورة عربية تعرف عدوها حينا، وتضيّع بوصلتها في أحيان أخرى.

ميزة درويش أنه لم يكتشف بعد ميزة أن شعره، رغم كل ما كتب عنه، لا يزال صالحا لدراسات كثيرة، طويلة ومعمقة. الشق اللغوي وحده يستحق مجموعة من الأطروحات. هذا الرجل الذي غاص في متاهات اللغة حتى جاءنا بلؤلؤها ومرجانها، هو أعظم وأكبر من أن نطوي صفحة اكتشافه بقليل من الكتب. لكن للأسف ليس هذا وقت درويش ولا اجتهاداته الكبيرة وأعماله التي يمكنها أن تمارس على قارئها سحرا نادرا ما قدرت عليه كتب عربية حديثة في عصرنا. ليس هذا وقت العودة إلى صناديق الشعراء الكبار السرية وفتحها والتمتع بمحتوياتها النادرة. درويش اليوم في قاعة الانتظار، في مكان ما يرنو بعينيه إلينا حزينا، تمتلئ مقلتاه بدموع متحجرة وعالقة لا هي تجف ولا هي قادرة على الانهمار.

فلسطين احتفت بشاعرها بتواضع يليق بانخفاض سقف المرحلة. لكن درويش الباقي أبدا، يتأمل الحال، وينتظر، وهو يعرف أن العودة إليه لا بد منها، والعودة إلى فلسطينه الثائرة قدر محتوم، بعد أن ينتهي العرب من ثوراتهم العربية المتوالدة، من بعضها البعض. بانتظار ذلك الزمن الذي قد يكون بعيدا، فإن تكريم درويش لا يكون إلا بقراءة شعره البديع والتشبع بما كتبه للوطن، لعلنا نبني أوطانا من كلماته المشبعة برصانة الحكمة وبلاغة الرؤيا.