حين تسلب التكنولوجيا منا فضيلة الصمت

كتاب أميركي يحذر من «الضجيج الحضاري»

TT

إن أساس السلوك الأميركي هو الصمت.. وسبب هذا هو أن الحرية تقود إلى الفردية.. والفردية تقود إلى الاستقلالية.. والاستقلالية تقود إلى السيطرة على النفس.. والسيطرة على النفس تبدأ بالسيطرة على اللسان.. لهذا تركز الثقافة الأميركية على الهدوء إن لم يكن على الصمت.

«الفردية» و«الحرية»، مدماكان قامت على أساسهما الثقافة الأميركية، وسال حبر الفلاسفة للتنظير حولهما. لكن المعنيين بعلم الاجتماع يتساءلون اليوم عما فعلته التكنولوجيا بهاتين القيمتين الحضاريتين، وكيف أثرتا وتأثرتا بوجود الهواتف الذكية بين أيدي الناس في أميركا وخارجها. تحقيق يلقي الضوء على العلاقة بين الفردية والتكنولوجيا.

مع انتشار الهواتف الذكية بمختلف أنواعها ومنها الـ«بلاك بيري»، والـ«آي فون» والـ«سامسونغ»، صدر في الولايات المتحدة كتاب جديد عن أهمية الهدوء والفردية في المجتمع الأميركي. إنه كتاب «كوايت (الهدوء): قوة الصامتين في عالم لا يتوقف عن الكلام»، للكاتبة سوزان كين، الأميركية التي نالت دكتوراه في القانون من جامعة هارفارد. وزاد الكتاب النقاش عن تأثير التكنولوجيا الجديدة على الثقافة الأميركية.

ربط الكتاب بين التحضر والعلم من جانب، والهدوء والإخلاص في العمل من جانب آخر، وتخوف من أن الأولين ربما يؤثران على الآخرين تأثيرا سلبيا، وركز على نقطتين:

أولا: خوف من «كسل حضاري»، بسبب زيادة التكنولوجيا التي تسهل الحياة اليومية، وخوف من أن ذلك سوف يجعل الأميركي أكثر ميلا نحو الراحة، والمتعة، وأقل رغبة في العمل الجاد.

ثانيا: خوف من «إزعاج حضاري»، بسبب كثرة الأصوات والماكينات في الحياة الحديثة، وخوف من أن ذلك سوف يؤثر على الهدوء الأميركي التقليدي، المرتبط بالعمل الجاد، والتأمل، والتفكير العميق.

وكان كتاب سابق تحدث بالتفصيل عن هذا الهدوء الأميركي التقليدي، وهو كتاب «ستار سبانغلد مانرز» (أخلاق العلم الأميركي: أخلاق الأميركيين) الذي كتبته الصحافية جوديث مارتن التي كانت محررة باب نصائح عن السلوك الاجتماعي المثالي في صحيفة «واشنطن بوست». ومما جاء في كتابها «تعود جذور السلوك الأميركي إلى أكثر من مائتي سنة. بعد أن أسس الآباء المؤسسون الولايات المتحدة وضعوا أسس الأخلاق والتصرفات الاجتماعية الأميركية.. وضعوها على نفس الفكر الحر الذي أسسوا به الوطن».

وقالت إن للشخصية الأميركية أساسين: أولا الحرية.. وثانيا الفردية. وإن كل أميركي يؤمن بأنه «ملك»، وأن منزله «قلعة»، وهذه إشارة إلى التاريخ الأوروبي المليء بالملوك والنبلاء والقلاع، الذي تمرد عليه الأميركيون.

وقالت إن أساس السلوك الأميركي هو الصمت، وإن سبب هذا هو أن الحرية تقود إلى الفردية، والفردية تقود إلى الاستقلالية. والاستقلالية تقود إلى السيطرة على النفس، والسيطرة على النفس تبدأ بالسيطرة على اللسان. لهذا، تركز الثقافة الأميركية على الهدوء، إن لم يكن على الصمت. وتدعو الأميركي، قبل أن يتكلم، إلى أن يفكر، وعندما يتكلم يوجز، وعندما يوجز يركز على معلومة مفيدة.

* الحضارة ضد الهدوء؟

* يكاد كتاب «الهدوء» يقول إن الحضارة ضد الهدوء، وذلك لأن الهدوء يساعد على توفير الطاقة، وراحة البال، والسيطرة على النفس، وقلة المشاكل العائلية والاجتماعية. ولهذا، يقول الكتاب «يعتقد الأميركي اعتقادا قويا أنه الأحسن، والأفضل، والمسيطر على كل ما حوله». وبقدر ما يريد أن يعمل في هدوء، يريد أن يفكر في هدوء. وجزء كبير من تفكيره عن: من أنا؟ من هو مثلي الأعلى؟ كيف أنجح في الحياة؟ كيف أنجح في العمل؟ كيف أحب؟ كيف نؤسس علاقة زوجية؟ كيف نربي أطفالنا؟

على الجانب الآخر، هناك من يفضل الحديث على الصمت، والقيادة والزعامة على التبعية، والعمل الجماعي على العمل الفردي. لكن، يقول كتاب «الهدوء» إن العمل الجماعي يمكن أن يعرقل الإبداع. وينتقد المحلفين في المحاكم الأميركية الذين يجب أن يصدروا أحكامهم بالإجماع (وليس بالأغلبية)، ويقول إن هذا يمكن أن يؤثر على العدالة.

في موقع مؤلفة الكتاب على الإنترنت ركن اسمه «كوايت ريفوليوشن» (الثورة الهادئة)، وفيه تركز على الفرد: حريته، وفرديته، وخصوصيته. وتقول إن هذه الصفات ليست سلبية، لكنها إيجابية، لأنها تضع الفرد «بعيدا عما حوله، حتى يقدر على إصدار أحكام لا يتأثر فيها بمن حوله».

وتقول إن التلميذ المزعج في الفصل يلفت انتباه المدرس أكثر، لكن التلميذ الهادئ يحقق نتائج أفضل في الامتحان.

* الهدوء والتكنولوجيا

* لهذا، مع انتشار الهاتف الذكي، زاد النقاش حول تأثيره على الفردية: يزيدها.. أم يقللها؟

في جانب، هناك رأي يقول إن التليفون الذكي يزيد الفردية لأنه يخلق نوعا من «الانطوائية»، تتمثل في قلة الحديث، وقلة تعامل الفرد مع الذين حوله. وفي جانب آخر، هناك رأي يرى أنه يقلل الفردية لأنه يزيد اتصال الفرد مع القريب والبعيد (حتى في أقصى الأرض)، رغم أن هذا اتصال تكنولوجي، وليس وجها لوجه.

وحتى بالنسبة للقلق من أن «الإزعاج الحضاري» يمكن أن يقلل الإنتاج والإبداع، يقول رأي إن الهاتف الذكي يمكن أن يزيد العمل الجاد، لأنه يوفر معلومات كثيرة، ويساعد على العمل، ويزيد الإنتاج، وينقل العمل من المكتب إلى المنزل، وحتى إلى السيارة، و«المترو» (قطار الأنفاق).

وكتبت نانسي جيبز، كبيرة الصحافيين في مجلة «تايم»: «صعب التفكير في أي جهاز، أو أي شيء، أو أي كائن في التاريخ، أسس علاقات وثيقة بين الناس، وخلال فترة وجيزة، كما يفعل التليفون الذكي اليوم. لم يفعل ذلك السيف، ولا القلم، ولا المطبعة، ولا التلغراف، ولا الإذاعة، ولا التلفزيون». وأضافت «ربما المال يقدر على أن يفعل ذلك، ويفعل المعجزات. لكن، لا يقدر إنسان على أن يستعمل محفظة نقود، أو بطاقة ائتمان، أو شيكا، أو حسابا في البنك ليتصل بمن يريد، في أي وقت، وفي أي مكان في العالم».

وكتب دان غوكين في كتابه «أندرويد للأغبياء»: «توجد تكنولوجيا في كل تليفون ذكي أكثر من التكنولوجيا في سفينة الفضاء (أبولو 11) التي حملت نيل آرمسترونغ إلى سطح القمر سنة 1969».

* استفتاء «تايم»

* الأسبوع الماضي، نشرت مجلة «تايم» الأميركية نتائج استفتاء أجرته حول تأثير التليفون الذكي على الثقافة الأميركية، ومقارنة ذلك بثقافات أخرى. حسب الاستفتاء، في كثير من دول العالم الثالث:

أولا: يملك أناس تليفونات ذكية، ولا يملكون حمامات حديثة.

ثانيا: التليفون الذكي هو أول تليفون يملكونه (لم يملكوا تليفونات أرضية قبله).

ثالثا: يفضلون التليفون الذكي على التلفزيون.

رابعا: يستعملون كاميرا ومسجل التليفون الذكي أكثر من الاتصال.

خامسا: يتصلون بالأصدقاء بنفس نسبة الأقارب.

أما عن تأثير التليفون الذكي على الأميركيين، فأوضح الاستفتاء الآتي:

أولا: 90 في المائة من البالغين يملكونه.

ثانيا: 25 في المائة يستعملونه كل نصف ساعة على الأقل.

ثالثا: 20 في المائة يستعملونه كل 10 دقائق على الأقل.

رابعا: 30 في المائة يقلقون عندما لا يكون معهم.

خامسا: إذا خيروا بين أن يختاروه والأكل، فإن الضعف يفضلونه.

* البرازيليون والهنود

* عند مقارنة استعمال الأميركيين للتليفون الذكي مع استعمال شعوب أخرى، أوضح الاستفتاء ما تخوف منه البعض خلال النقاش عن تأثير التكنولوجيا على الفردية الأميركية: نعم، يزيد التليفون الذكي هذه الفردية.

وأوضح الاستفتاء شيئا آخر: في دول العالم الثالث، حيث يميل الناس نحو العلاقات العائلية والاجتماعية أكثر من ميلهم نحو الانعزالية، يساعدهم التليفون الذكي. أجرت المجلة استفتاءات مماثلة في دول في العالم الثالث، ومنها: الهند، البرازيل، كوريا الجنوبية، الصين. وكما قالت المجلة «يساعد التليفون الذكي الذي يريد أن يكون انعزاليا، ويساعد الذي يريد أن يكون اجتماعيا».

وحسب الاستفتاء:

أولا: 20 في المائة فقط في أميركا يستعملونه لتحديد مواعيد عاطفية، بالمقارنة مع 60 في المائة في البرازيل.

ثانيا: 10 في المائة فقط في أميركا يستعملونه لخيانات زوجية، مقابل 30 في المائة في الهند، و60 في المائة في الصين.

ثالثا: 20 في المائة فقط في أميركا يرسلون صورا فاضحة به، مقابل 40 في المائة في جنوب أفريقيا، و50 في المائة في الهند، و60 في المائة في البرازيل.

يعني هذا أنه بسبب الفردية، يستعمل الأميركي التليفون الذكي لأغراض فردية أكثر من أغراض عائلية أو اجتماعية. يستعمله لترتيب شؤونه المالية، والصحية، وفي العمل، والترفيه، والرياضة.

لهذا، بصورة عامة، يستعمل الأميركي التليفون الذكي أقل من شعوب العالم الثالث. في جانب، هذا مفهوم بسبب تطلع هذه الشعوب لتكون متحضرة مثل الشعب الأميركي (وبقية الشعوب الغربية).. تتطلع إلى مزيد من العلوم، والآداب، والحرية، وتتطلع لمجاراة الشعوب الغربية في مجال المتعة والترفيه (مأكولات، مشروبات، رحلات، ألعاب، رياضيات، أفلام، مسلسلات تلفزيونية، إلخ..).

في الجانب الآخر، يقل استعمال الأميركيين للتليفون الذكي عن شعوب العالم الثالث التي تميل أكثر نحو التواصل العائلي والاجتماعي. وربما هذه نتيجة غير متوقعة من الشعب الذي اخترع التليفون الذكي. لكن، يبدو أن «آي فون» (التليفون الذكي) لم يقدر على هزيمة «I am» (أساس الفردية الأميركية).

في الحقيقة حسب استفتاء مجلة «تايم»، تستعمل شعوب التليفون الذكي كالآتي:

أولا: 30 في المائة فقط من الأميركيين يرونه «مهما في الحياة اليومية»، بالمقارنة مع 60 في المائة في البرازيل (حيث العلاقات العائلية والاجتماعية أقوى).

ثانيا: 80 في المائة من الصينيين يستعملونه لجمع معلومات، بالمقارنة مع 50 في المائة وسط الأميركيين (بسبب الحظر على الحريات في الصين).

ثالثا: 70 في المائة من الهنود يستعملونه للاتصالات العائلية، بالمقارنة مع 50 في المائة وسط الأميركيين.

رابعا: 20 في المائة من الأميركيين فقط يتعاركون مع زوجاتهم أو أزواجهم بسبب التليفون الذكي، بالمقارنة مع 50 في المائة في الهند، و60 في المائة في الصين.

ربما هذه من سلبيات العلاقات العائلية القوية. فهل الفردية الأميركية على حق؟