الثورة المصرية تجتاح الفنون

الشعر رفيقها الحميم والباقي تجارب متروكة لحكم التاريخ

TT

رغم الكم الهائل من المؤلفات والأعمال الفنية التي تملأ واجهات المكتبات وصالات العرض من سينمائية وتشكيلية وغيرها غرافيتية، تواكب الثورة المصرية، وتلاقي إقبالا شديدا فإن الثورة ما زالت في مرحلة الغموض. أن تكتب أو أن تصور كثيرا لا يعني أنك ترى جيدا، بل يؤكد أننا نحاول الاستدراك. هل أدرك المصريون حقيقة ثورتهم، أم لا يزالون عنها يبحثون؟ وما فائدة هذا السيل الهادر من الكتب والأفلام واللوحات والرسم على الجدران؟ هل صنع المثقفون الثورة حقا؟ وهل يسهمون في بلورتها؟ وأين هم منها اليوم؟

كيف يمكن النظر نقديا في كم الإبداعات التي طفت على سطح الثورة المصرية من شعر ورواية وقصة قصيرة، أو يوميات ومذاكرات ومعارض للفن التشكيلي، وموسيقى وغناء؟

في مصر وبعد مرور ما يقارب العامين على ثورة 25 يناير، ووسط مشهد سياسي لا يزال شائكا بين تيارات وقوى سياسية شتى، كان لافتا ظهور كثير من الأعمال الإبداعية التي تراوحت بين الكتابة التسجيلية والروائية والقصصية وقصائد الفصحى والعامية ورسوم الغرافيتي والفوتوغرافيا.

«الشرق الأوسط» رصدت عددا من هذه الأعمال التي تم نشرها في أعقاب الثورة المصرية والتي كتبها كتاب كبار وشباب مبدعون، منها على سبيل المثال: ديوان «الميدان» للشاعر عبد الرحمن الأبنودي (ديوان مطبوع ومعه سي دي بصوت الأبنودي) و«يوميات ثورة الفُل» للدكتور نادر الفرجاني، والثلاثية الشعرية «إنجيل الثورة وقرآنها» للشاعر حسن طلب، ومسرحية «ورد الجناين» لمحمد الغيطي، وكتاب وحيد حامد «جمهورية عساكر + ثورة الكبش»، و«ثورة على ضفاف النيل» (تصوير فوتوغرافي) لمحسن جودة، و«أرض أرض - حكاية ثورة الغرافيتي» للتشكيلي والقاص شريف عبد المجيد، ورواية «7 أيام في التحرير» لهشام الخشن، وديوان مرسوم للأطفال لفوزية الأشعل بعنوان «يعني إيه ثورة وطن؟!»، وديوان للشاعر حلمي سالم بعنوان «ارفع رأسك عالية».

كما خصصت هيئة قصور الثقافة المصرية سلسلة جديدة بعنوان «إبداعات الثورة» وأحد أهم ما صدر منها المجموعة القصصية «باب العزيزية» للأديب محمد جبريل ورواية «ما تبقى من بدايات بعيدة» للكاتب محسن يونس.

وجهت «الشرق الأوسط» أسئلتها لعدد من المبدعين حول مصطلح «أدب ما بعد الثورة»، وهل غاب الأدباء عن صنع الثورة ولكنهم حضروا في المشهد برصدها؟

يرى الشاعر شعبان يوسف، رئيس تحرير سلسلة «كتابات جديدة» بـ«الهيئة المصرية العامة للكتاب» أن الكتابة عن ثورة 25 يناير، لا تزال متعجلة وليست فنية تماما. ولكنها كتابة راصدة، معبرة عما يحدث، ولذلك فغالبا ما تكون غير عميقة، لكنها بالطبع مفيدة للباحث الاجتماعي.

يشير يوسف إلى عدة إبداعات متميزة للشعراء: فاروق جويدة وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد عبد المعطى حجازي، وحلمي سالم، وكريم عبد السلام، وحسن طلب، كذلك الكتابات النثرية التي كتبها أحمد زغلول الشيطي (على بعد مائة خطوة).

ويؤكد يوسف أن كثيرا من الأدباء شاركوا في الميدان، وهناك من كانت لهم كتابات محرضة على الثورة. كما شاركت جبهة الإبداع في عدة وقفات احتجاجية.

ومن جهته، يؤكد دكتور عماد عبد اللطيف، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة، أن للأدب دورا كبيرا في صنع ثورة 25 يناير، فهي التي شكلت الأرضية القوية التي حرضت الشعب على الثورة. يقول عبد اللطيف: «إن موجة الروايات التي تناولت حياة المهمشين في العشوائيات، والتي كانت تصف الواقع الذي تعيشه مصر، قامت بالتحريض على التغيير. يضيف عبد اللطيف: «الأدباء بهذا المعنى شاركوا قبل الثورة، وشاركوا أيضا من الميدان، بل كانت أعمالهم تلهب حماس الثوار، مثل قصيدة في الميدان لعبد الرحمن الأبنودي».

يقول عبد اللطيف: «هناك أعمال بدأت مع الثورة مثل قصائد كريم عبد السلام، أو اليوميات التي كتبها الروائي إبراهيم عبد المجيد (لكل أرض ميلاد). وهناك أعمال جيدة أيضا كُتبت بعد الثورة وقرأتها في مسابقات قمت بالتحكيم فيها. كل عمل له جماله وطزاجته. فأنا ضد من ينتقدون هذه الكتابات ويعتبرونها سطحية، وخالية من العمق. فأنا أتعامل معها من الناحية المجتمعية، وأرى أن الكتابة تنضج بالكتابة، ولا أرفض مفهوم أدب ما بعد الثورة فكل ما تتم كتابته جيد، ولنترك التاريخ يحكم عليه».

يختلف الناقد الأدبي دكتور حسام عقل مع ما قاله عبد اللطيف، فيقول: «أتحفظ على إطلاق أدب مع بعد الثورة على ما تمت كتابته عقب ثورة يناير، فهو لا يرقى إلى حركة أدبية متكاملة، حيث يفتقر إلى التيمات الفنية والعمق».

ولا ينفي عقل ظهور إبداعات أدبية متميزة، وإن ظلت أعمالا فردية، منها أعمال شعرية، على سبيل المثال، قصيدة «الطريدة» لعبد الرحمن يوسف، و«الحكم للميدان» لأحمد سراج و«الميدان» لعبد الرحمن الأبنودي، و«ليلة التحرير» لمحمد العون. ومن الأعمال النثرية، «لكل أرض ميلاد» للروائي إبراهيم عبد المجيد، و«أيام الحرية في ميدان التحرير» لمحمد الشماع، وفي شعر العامية «مولد السيدة مصر» لفاطمة المرسي.

ومع ذلك يؤكد عقل أنه لا بد من الانتظار حتى تتبلور حركة فنية تكتب وتؤرخ للثورة، وتُنتج أعمالا ناضجة وعميقة. ويقول: «لم تظهر أعمال فنية جيدة عن حرب أكتوبر إلا بعد مرور 3 عقود عليها. الأمر الذي سمح برؤية الوضع على حقيقته».

وعن دور الأدباء في الثورة، يشير عقل إلى أن هناك كثيرا من الأدباء بعدوا تماما عن الثورة، ولم يشاركوا فيها: «النخبة الثقافية لم تكن قادرة على مواجهة النظام السابق، ولم تقف في عين العاصفة، ولكن بعد الثورة برزت ظاهرة (المتحولين). نحن نحتاج إلى نخبة مثقفة جديدة، فلدينا جيل جيد جدا. وأذكر على سبيل المثال الأديب السكندري محمد الجمل الذي تنبأ في روايته «مزامير إبليس» بحدوث ثورة شعبية في الميدان، بل وذكر أن البرادعي سينزل بنفسه إلى الميدان ويشارك الثوار!!»

وعن دور الأدباء في صنع الثورة يقول الناقد الأدبي دكتور حسين حمودة الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة: «رأيت مبدعين في ميدان التحرير، واستطيع أن أؤكد أنهم قاموا بدور هام خلال أحداث الثورة ولكن دورهم لم يكن الأكبر. فالثورة المصرية قام بها أناس عاديون، وربما لم يكونوا يمتلكون الوعي الكافي كي يقوموا بثورة. الثورة كانت نتيجة عفوية وطبيعية لما كان يحدث في مصر».

يضيف حمودة أن «ما كُتب عن الثورة ليس كافيا. وهو أمر طبيعي، لأن هذه التجربة تحتاج لوقت كبير حتى تنضج، ما يسمح بالنظر للتجربة بشكل حقيقي وموضوعي. ربما كان الشعر أكثر استجابة وسرعة في التعبير، ولكن علينا الانتظار كي نتلقى عملا إبداعيا يليق بهذه الأحداث».

ويقول الروائي والقاص صلاح معاطي: «لا نستطيع أن نقول إن الأدباء غابوا عن صنع الثورة. فالكاتب ليس راصدا للأحداث فقط ولكنه متفاعل معها أيضا وصانع لها أحيانا. فكثير من الأدباء شاركوا في صنع الثورة بأفكارهم وأعمالهم الإبداعية قبل اندلاعها بسنوات طويلة وتنبأوا بها، بل نادوا بحدوثها بعدما استفحل الأمر في مصر».

وعن وجوده في قلب أحداث الثورة، يقول معاطي: «لا يمكن أن يكون للأدباء دور مختلف عن دور المواطن وقد شاركت في الميدان بحكم وظيفتي الإعلامية كراصد للأحداث، لكن الأديب الذي بداخلي لم يكن مختفيا أو متخلفا بل كان يرصد ويتابع ويختزن. وأعتقد أن النتاج سيكون ثريا في المرحلة القادمة وسنرى أعمالا أدبية وسينمائية في غاية الأهمية ولكن على المبدعين أن لا يتعجلوا الكتابة عن الثورة وإلا ستخرج أعمالا مسلوقة ضعيفة المستوى»..

ويلفت معاطي قائلا: «يجب أن نفرق بين الأعمال التي كتبت قبل ثورة 25 يناير والأعمال التي كتبت بعدها. فهناك العديد من الأعمال المهمة التي تتحدث عن أهمية وجود ثورة في مصر وضرورة الثورة على أجهزة الأمن العاتية. أما الأعمال التي كتبت بعد الثورة فمع الأسف معظمها أعمال مباشرة مستوحاة من نشرات الأخبار وما جرى في ميدان التحرير. ربما استطاع الشعر أن يعبر عن الثورة بصدق، أما القصة والرواية فما زالتا بعيدتين وربما ستمر سنوات قبل أن تخرج رواية تتناول هذه الأحداث بعبقرية. وأعتقد أنه لو كان نجيب محفوظ ما زال على قيد الحياة وشاهد ثورة 25 يناير فلن يكتب عنها إلا بعد مرور خمس سنوات على الأقل».

ويشير الشاعر المنجي سرحان المشرف على النشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب إلى أنه يمكن النظر إلى مجموعة الأعمال التي تتحدث عن الثورة كظاهرة ولكنها لم تتبلور كأدب. يقول سرحان: «تحتاج الأحداث الكبرى إلى تأمل عميق وروية في الكتابة. ما تمت كتابته كان طازجا لحظيا ولكنه لم يكن عميقا بدرجة كافية. فالكتابة الهاضمة للحدث تأخذ وقتها حتى يستوعبها المبدع ويستطيع أن يحللها».

ويؤكد سرحان أن الثورة نمت في أحضان الكتابات الإبداعية، فيقول: «كتب كثير من الأدباء عن الظلم والقهر والأحلام التي يتمناها الأديب لمجتمعه ووطنه. وقد وجد كثير من الأدباء في ميدان التحرير منذ الشرارة الأولى للثورة، جاءوا من المحافظات البعيدة عن العاصمة، من الإسكندرية وحتى أسوان، وظلوا حتى تنحى الرئيس السابق». ويضيف: «أنا أتصور أن الثورة المصرية تشبه نظيرتها الفرنسية التي نمت في كتابات المفكرين في ذلك الوقت. وهناك كثير من المبدعين الذين تحدثوا عن المقاومة، وهناك من كانوا يتخفون وراء الرمز لمجابهة القهر، ويحضرني هنا الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر وكتاباته.

ويرى الروائي عبد الوهاب الأسواني أن ما صدر بعد الثورة من أعمال، هي كتابات نتجت عن التجربة والخبرة التي خاضها الثوار. يقول الأسواني: «هي ليست أدبا بالمعنى العلمي، هي أقرب للصحافة الناتجة عن حدث كبير، ولكنها كتابات صادقة سيكون لها دورها في التاريخ لأنها ستكشف أي تزوير وتزييف للتاريخ، لأن من كتبوا هم ثوار حقيقيون». ويستشهد الأسواني بمقولة للمبدع يحيى حقي تقول: «الإنتاج الأدبي هو المدفعية بعيدة المدى». لذلك أرى أن الثمار الحقيقية لأدب الثورة لن تظهر قبل مرور 3 سنوات على الأقل. خاصة أن الثورة بكل منعطفاتها السياسية والاجتماعية والثقافية تحتاج إلى إعادة مراجعة وتأمل.

يتفق الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة مع الأسواني في أن الأدب يحتاج إلى زمن ممتد كي يستجمع الأدباء طاقتهم الإبداعية وتأملاتهم. يقول أبو سنة: «كلمة أدب ما بعد الثورة هي كلمة متعجلة قليلا، فهي أقرب للمتابعات الإعلامية، ومن منطلق تشجيع الشباب على الإبداع. ولكن الأدب الحقيقي يحتاج لتأمل طويل، ورؤية لعناصر الواقع المتعددة للرصد الكافي للتجربة».

يؤكد أبو سنة أن الأدباء في الستين سنة الماضية كانوا روادا في التركيز على القيم الكبرى، التي رفعتها الثورة، كل أعمالهم كانت تستبطن الواقع، وتناشد الأمة لكي تتمرد وتثور وتخرج من حال الجمود. كثير من الذين قاموا بالثورة كانوا من المثقفين، والمثقف هو من لديه الوعي للتحرك.

ويقول الكاتب المسرحي أبو العلا السلاموني: «ما تم إنتاجه من كتابات مواكبة للثورة وبعدها هي إبداعات مناسبات، قائمة على التحريض والتوثيق، والمقاومة والتحميس والإشادة بالإنجازات. ولكي نطلق عليها لفظ (أدب ثورة أو أدب ما بعد الثورة) فهذا يحتاج إلى وقت يستطيع خلاله المبدع أن يستدعي الثورة ويفكر فيها بعمق أكثر، وهنا أتذكر ما كُتب عن الثورة الفرنسية وثورة 52 المصرية وحرب أكتوبر 73».

يضيف السلاموني: «الأدباء شاركوا في صنع الثورة بأعمالهم الدرامية والإبداعية التي خلقت التربة ومهدت الطريق للشباب المثقف الذي قام بالثورة. المثقفون كانوا طليعة ثورة 25 يناير، وهو ما يختلف عن ثورة الدول الاشتراكية التي قام بها العمال، وثورة الفلاحين في الصين، وثورة البرجوازية في فرنسا.