الجانب الآخر لـ«ولي العهد»: ذاكرة «حديدية».. وحزم لردع «المكابرين»!

الثنيان جمع مواقف وطرائف من الحياة الشخصية للأمير سلمان شاهدها أو رويت له

TT

مع أن ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز، ليس جديدا على المشهد السياسي في بلاده، إلا أن تعيينه في يونيو (حزيران) الماضي وليا للعهد، جعل الكثيرين داخل المملكة وخارجها، يحاولون اختزال جوانب من أفكاره وشخصيته، على هيئة مقالات أو تقارير أو مواقف ينشرونها.

وبالنسبة إلى عضو مجلس الشورى، وكيل وزارة التربية والتعليم في السعودية سابقا الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن الثنيان، فإنه هو الآخر اغتنم المناسبة، في جمع مواقف وطرائف ومشاهد، رويت له عن الأمير، أو عايشها بنفسه، إذ جمعت علاقة عمل وصداقة بين الاثنين تجاوزت ربع قرن.

الثنيان الذي خص «الشرق الأوسط» بمسودة عن تلك المواقف قبل أن ينشرها في كتاب، أقر بأنها، وإن كانت تمر عفو الخاطر وتصرفات تلقائية، إلا أنها «ذات مغزى وهدف، وتجلو شخصية ولي العهد».

هنا نقتطع بعض هذه المواقف كما رصدها الثنيان:

بين أكثر تلك المواقف إثارة بالنسبة للراوي، حادثة تأديب أحد أفراد الأسرة المالكة من جانب الأمير سلمان، صادفت وقائعها الثنيان وهو لتوه يلج مكتب حاكم الرياض، قبل بضعة عشر عاما.

يقول: «كنت ذات يوم في مكتب الأمير وأنا مدير تعليم الرياض وكان في المكتب اثنان يعرضان للأمير المعاملات، وفجأة فتح الحارس باب المكتب ودخل أمير طويل القامة، حسن الصورة أحسبه في الأربعين من عمره، وحين رآه الأمير سلمان وقف على الفور ووقفنا وأنبه وقرعه ووبخه، واستمر في تأنيبه وتقريعه، ثم وضع الأمير سلمان يديه خلفه واستدار يمنة ويسرة، وعلا صوته، وقال: يا رجل أوتريد هدم المجد الذي بناه الملك عبد العزيز ورجاله؟! أو تريد تشويه الحكم والإمارة؟!

ووقف الرجل صامتا فاغرا فاه مطأطئا رأسه، والأمير سلمان يقرع ويؤدب، ثم ختم الأمير سلمان حديثه بأن قال له: اخرج وأصلح ما خربت، وإياك أن تتصرف مثل هذا التصرف الأحمق، واعلم أن خصمك ما تركك خوفا منك، أو عجزا عنك، ولكن تركك لأنه يعلم مكانتك ووجاهتك، ولكن اعلم أن مكانتك عندنا لا تسمح لك بالتعدي والتطاول. هيا اخرج وأصلح ما أفسدت وإياك والعودة لمثل هذا التصرف، واعلم أن الشرع لأكبر رجل وأصغر مواطن، لا فرق بين هذا وذاك، ولا بين أمير وآخر، القضاء مطهرة والقضاء للجميع. وخرج الرجل يندب حظه».

وإذا كان تحليل الموقف يختلف من شخص لآخر، فإن الثنيان، طعم المشاهد التي روى، بما يعتبره دروسا جديرة بالتأمل، كما فعل من قبل في مؤلفه عن «إنسانية الملك عبد العزيز». ففي موقف تأديب الأمير علق بأنه «كان مشهدا مثيرا أن أرى بعيني رأسي الأمير سلمان بن عبد العزيز وهو يؤدب أميرا تجاوز حدوده، وكانت لحظة حرجة عشتها؛ وتملكتني الحيرة في تلك اللحظات؛ فهل يا ترى أسرع بالخروج؟! أم أظل باقيا أشهد الدرس التربوي، وأراقب هذا المشهد المؤثر، وكيف يمسك حاكم الرياض بلجام الأحصنة أن تعبث وتسرح».

* عاشق من الخرج!

* وعلى النقيض من المشهد السابق، يوثق الكاتب قصة أخرى كان الأمير سلمان يعالجها مع شخصية مختلفة وبنفس مغاير أيضا، إذ يروي كيف أدار جنون عاشق من الخرج شغفته إحدى بنات حيه حبا، فلم يجد أفضل من إيقاع الأمير سلمان في حبائل كيده!

وأضاف: بينما كان الأمير في صالة استقبال المراجعين بإمارة الرياض ونحن بالقرب منه إذ برجل يتقدم ويعرض استدعاءه وحين قرأ الأمير الخطاب نظر إلى الرجل، ثم نظر في الخطاب مرة أخرى ثم كرر النظر في الرجل ليتأكد من قواه العقلية ثم دار الحوار التالي:

الأمير: أوتعلم ما في خطابك؟

الرجل: نعم إنه إخبارك عن كنز ثمين جدا، ولا أستطيع تحميله ونقله وهو هدية لك يا سمو الأمير.

الأمير: شكرا والكنز لك.

الرجل: أرجوك أن تقبل الكنز، وإني والله جاد وفي كامل قواي العقلية وأتوسل إليك أن تقبله.

الأمير: وما هو الكنز؟

الرجل: هو كنز في الخرج، ولا أستطيع نقله وأرسل يا سمو الأمير معي من يستقصي لك الأمر.

ونادى الأمير أحد الخويا (الراوي للقصة) وهو من أهالي الخرج، وكلفه بالذهاب مع الرجل لمعرفة التفاصيل.

اتفقت مع الرجل على أن نتقابل في صلاة العصر بأحد مساجد حي السويدي بمدينة الرياض لننطلق من هناك إلى الخرج، ونرى موقع الكنز، وبعد الصلاة استوقفنا إمام المسجد ودخلنا منزله وأخبرته بالقصة، وسألته عن الرجل فأثنى عليه، وذكرت له قصة الرجل والكنز الثمين، وتعجب إمام المسجد والتفت إلى الرجل وتساءل ما هو الكنز؟ وماذا تقصد؟

قال الرجل: إن الكنز امرأة حسناء تسكن في الخرج وأهيم في حبها، ولكن يحول دون زواجها المهر، وتكاليف الزواج، وحين يئست من الحصول على المال، وخشيت أن تطير الحمامة وتقفز الظبية، سهرت طيلة البارحة، وبت أفكر أين أذهب وماذا أعمل؟ وهل سأكون مجنون ليلى؟ أم سأكون كثير عزة؟ أم يا ترى ماذا أفعل؟ لقد خشيت أن أجن وأن أفقد عقلي إن هي خطبت وتزوجت. وبعد طول تفكير قلت: ليس للموقف إلا سلمان بن عبد العزيز، أمد الله في عمره، لكن كيف سأعرض مشكلتي، وكيف أطلب المساعدة، وبرقت لي فكرة الكنز، وومضت لي شخصية الأمير، وصرت أفكر وأفكر كيف أعرض حالتي وبعد صلاة الفجر أمسكت القلم وعرضت الموضوع من خلال الكنز الثمين الذي هو الحسناء التي لا أستطيع حمل تكاليف زواجها، وأعرض أن تكون هدية للأمير. إنها فكرة حمقاء، ولكن اعذروني وهي جهالة وسفاهة ولكن ارحموني.

يقول الراوي: تعاطفت مع المسكين، وفي اليوم التالي أخبرت الأمير بالقصة، وعند ذلك أمر بمساعدته وتحمل تكاليف زواجه!

* عيونه تتزاغل!

* وإذا ما تعلق الأمر بذاكرة الأمير سلمان «الحديدية»، فإن روايات كثيرة دارت حول هذه الجزئية، إلا أن الثنيان، اقتصر على توثيق موقفين، رأى أنهما يكفيان للدلالة على سمة التذكر عند ولي العهد، مما جعله «يعرف الكثير من أبناء المجتمع وأنسابهم، وتمر به المواقف فتعلق بذاكرته ويوظف الحدث، فمنحه الله بذلك المحبة والمهابة عند الناس».

وروى أحد موظفي الإمارة للثنيان قائلا: جاءت لنا في الإمارة معاملة سجين مطالب بمبلغ مالي كبير ويراجع آخر لإخراجه ويعرض كفالته والتزامه بالتسديد عنه، وبعد استقصاء الأمر رفعنا المعاملة للأمير سلمان، وعادت المعاملة بطلبي للمفاهمة مع الأمير. وحين أحضرت المعاملة سألني الأمير: هل الرجل أسمر اللون؟ وهل عيونه تتزاغل يمنة ويسرة؟ قلت: وأنا المحقق لست متأكدا، قال الأمير: اذهب وتأكد فهذا الرجل أظنه الذي التقيت به ذات مرة عند الأمير فيصل بن سعد بالطائف.

وأضاف: عدت واتصلت بالرجل، وإذا هو كما قال الأمير سلمان، وسألته هل سبق أن قابلت الأمير سلمان؟ قال: نعم منذ عشرين عاما في الطائف عند الأمير فيصل بن سعد.

ورجعت للأمير مؤكدا ما ذكره، وهنا قال الأمير سلمان: هذا الكفيل لا يملك شيئا، ولا يمكن أن نقبل كفالته فهو مفلس.

الموقف الآخر، كان في صالة الاستقبال بالإمارة، إذ سبق أحد المراجعين إلى الصالة وجلس بالقرب من مجلس الأمير، وحين اصطف الحرس وامتلأت الصالة بذوي الحاجات والمطالبات، وجاء الأمير وسلم على الحضور تسمرت عين الأمير في ذلك الرجل الأشيب الجالس بالقرب منه، وأحسب الأمير يستعيد الذاكرة؛ أين ومتى التقى بهذا الرجل؟!

وبدأ المراجعون يعرضون حاجاتهم، وكان الرجل يطلب مساعدة لامرأة جارة له، ولكن الأمير سأله عن علاقته بتلك المرأة؟ فالأمير علامة بالأنساب، خبير بالأسر، ولهذا وجهه أن يبحث موضوع المرأة مع أقاربها أولا، إلا أن الرجل حين أدبر؛ عاد الأمير واستدعاه، ودار معه الحوار الآتي:

الأمير: سبق أن رأيتك منذ أمد بعيد.. هل تتذكر؟!

الرجل: نعم منذ أربعين سنة.

الأمير: وأين؟

الرجل: أي والله؛ كان ذلك حين غرزت سيارتكم في الوحل قرب الأحساء، وكنت قد مررت بكم ذلك اليوم، وسحبت سيارتكم بسيارتي.

الأمير: صدقت. وعند ذلك تبسم الأمير وأجلس الرجل، وطيب خاطره بالقول الجميل، واستجاب لطلبه، ثم أمر له بمساعدة مالية خاصة به.

...وجاء الرد «الحازم» في مجلس الحكم أمام الملأ!

من جوانب الحزم التي لا تكاد تغيب عن ذاكرة قاصدي إمارة الرياض، أيام حكم الأمير سلمان للعاصمة خلال العقود الخمسة الماضية، مباشرته للعقوبة عند اللزوم، من دون أن يفوض ذلك إلى الشرطة، فتارة يوبخ، وأخرى يعنف بحزمه وعزمه.

لكن الزجر والحزم السلماني كما يوثق كاتب المشاهد والمواقف، دائما ما يأتي في المكان الذي تتمنى أن يحدث. وهذا ما حدث حسب رواية الثنيان مع مواطن سعودي أوقعه حظه العاثر في شكوى حضرمي إلى الأمير سلمان، على نحو مستفز.

وتعود التفاصيل إلى ما رواه أحد رجال التربية والتعليم للكاتب، وفيه يقول: لي جار من أصول حضرمية لديه متجر في وسط مدينة الرياض يبيع فيه المواد الكهربائية وقد حكى لي هذا الجار موقفا حدث له مع الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، ويتلخص الموقف في أن الجار الحضرمي هادئ الطبع، عف اللسان، يقتات وأسرته من ذلك المتجر.

وذات يوم جاء إليه في المتجر شاب سعودي وتجول في المتجر واستوقفته مروحة كهربائية مكتوب عليها السعر وهو مائتا ريال. ورغب في شراء تلك المروحة، وبعد مفاصلة خفض له عشرين ريالا ودفع مائة وثمانين ريالا ولكنه اشترط أن له الخيار في تجربتها لمدة محددة وإلا فله الحق في إعادتها، وقبل البائع ذلك الشرط وذهب المشتري بمروحته. إلا أنه بعد يومين حضر المشتري إليه في متجره ومعه المروحة وذكر له عدم صلاحيتها فأعاد الحضرمي إليه مائة وثمانين ريالا إلا أن المشتري طالبه بعشرين ريالا أخرى. قال له البائع: ولماذا؟

قال المشتري: لأنك سوف تبيعها بمائتي ريال وتسعيرتك لها مائتا ريال والعشرون الريال التي خفضتها هي من حقي ويجب عليك أن تردها وأنت صاغر. قال البائع: أومازح أنت أم جاد؟! قال: بل هي الحقيقة، عجل بصرف العشرين ريالا. وعلا الصوت وتوترت الأعصاب وكلمة من هذا وكلمة من ذاك وكادت تحصل بينهما مشادة لولا تدخل بعض المارة.

يقول الحضرمي: وعاد الرجل مرة أخرى يطالب بصرف العشرين ريالا فأفهمته أنه ليس له الحق في طلبه، وهددني بالشكوى فقلت له الأبواب مفتوحة اذهب واشتك لمن شئت. إلا أنه أراد أن يستفزني ويخوفني بالأمير سلمان بن عبد العزيز وأنه سيذهب إليه وبات الرجل يسخر مني ويستثيرني حتى قلت له اذهب (...) للأمير سلمان إن قبل ما تدعي به، (وقال كلاما قبيحا). وعند ذلك قال الرجل: سترى، وذهب يهرول.

يقول الحضرمي: وبعد مدة فوجئت بدعوتي للإمارة وكنت رجلا أخاف من مقابلة الشرطي فكيف بحاكم الرياض، وأخشى من الوقوف عند مركز الشرطة فكيف بدخول مجلس الأمير. وبت ليلة اللقاء مهموما وتمنيت لو أنني أعطيته مثل قيمة المروحة وما صارت هذه الدعوة وتحيرت وترددت ماذا أعمل؟ ويا ترى ماذا أقول وكيف النجاة؟ وأرقت تلك الليلة وكنت أحدث نفسي أقول الحقيقة أم أنكر ما قلته «من شتيمة للأمير» وصارت النفس اللوامة تقرعني ما لك وللحماقة هلا تحملت الأذى وقبلت الإهانة. هلا تصبرت وقبلت المرارة؟ أنت رجل أجنبي والمشتكي سعودي، أنت غريب والسعودي ابن البلد، أنت لا تعرف مسؤولا في الإمارة والرجل قد يكون له وجاهة وحظوة؛ وكانت ليلة ليلاء.

وحين أصبحت لم أفتح ذلك الصباح متجري، وذهبت للإمارة في الموعد المحدد وسألت أين الطريق؟ ومن جندي لآخر، حتى دخلت لقاعة كبرى يحف بها الجنود والضباط وعلتني الرهبة والخشية وتذكرت الآخرة وهول المحشر وقلت هذا مقر حاكم الرياض فكيف بحاكم الدنيا والآخرة. هذه رهبة الدنيا فكيف برهبة الآخرة. إلا أنني قررت أن أقول كل شيء وأن أقول الصدق فالصدق منجاة.

جلست مع جموع المراجعين ونظرت وإذ بالمشتكي يجلس قبالتي وأنا أحوقل وأتمنى لو أنه تجاوز متجري وتركني وحالي ونظرت وإذ بالحضور يتزايدون من سعوديين، ومن جنسيات مختلفة. وتعجبت كيف سيقابل الأمير هؤلاء وكيف اللقاء، إلا أنني هدأت وشعرت بالطمأنينة حين رأيت الأجناس المختلفة وذوي الهيئات الرثة وأن للحاضرين تقديرا واحتراما ولهم تحية وابتسام.

وبينما كنت في وجومي وسرحاني وإذ بباب من الجهة المقابلة يفتح وإذ بالعساكر تصطف ولحظات ويطل الأمير سلمان بن عبد العزيز ويبدأ بالسلام على الجميع ثم يجلس. وكنت لا أعلم كيف أتحدث ومع من أتحدث ولكن سلوت ونسيت نفسي بسماع النداءات لهذا وذاك ومرة يرتفع صوت الأمير ونسمع القول ونفهم الشكوى ومرة لا نسمع ويقترب المشتكي من الأمير وينخفض الصوت.

وأحسب أن الأمير يقدر كل حالة. فحالة يرفع الصوت ليعلم الحضور الموقف ويشهدوا الدرس السلماني والموقف السلطاني في الحكم ومظهر العدل والإنصاف. وحالة أخرى تتطلب السر والستر فلا يكاد أحد يسمع ما يدور بين الأمير وصاحب الطلب إلا أن دعوة الأمير لأحد رجاله وهمهمته تشعر الحضور أن الموقف خاص وغير معلن. وبت أسائل نفسي يا ترى عندما يأتي علينا الدور هل سيكون معلنا أم سريا؟ وهل يرتفع الصوت أم تخنس الحناجر؟ إلا أن ذلك الوجوم قطعه النداء باسمي أن تقدم ووقفت وكادت رجلاي أن لا تحملني وكدت أن أسقط رهبة من الموقف وخشية من العتاب واقتربت ودار الحوار التالي:

المشتكي: هذا هو خصمي الذي تطاول عليكم، وجحد حقي وأنكر طلبي ورفع صوته في متجره يتحداني ويقول (كذا) فيك وفي الأمير سلمان بن عبد العزيز.

الأمير: ما اسمك؟ وما القصة؟

الحضرمي: اسمي فلان بن فلان وهذا الرجل جاء إلى متجري واشترى مروحة.. وحكى للأمير التفاصيل بكل صراحة ووضوح. ونهض الأمير ورفع صوته ليشهد الحضور الدرس السلماني والعدل السلطاني.

الأمير: أوقلت (كذا) فيك وفي الأمير سلمان بن عبد العزيز؟

الحضرمي: نعم، ولا.

الأمير: كيف؟

الحضرمي: قلت إن سمع الأمير وقبل دعواك الباطلة فلك وللأمير تلك القباحة.

الأمير: صدقت، صدقت. والتفت للمشتكي ودعاه أن يقترب وزجره ونهره وشهد الحضور درسا عظيما في العدل، وموقفا نادرا في الحكم.

قال الراوي وقلت: أي والله إن زجر الأمير لذلك الشخص يجب أن يعلم، وإن موقفه يجب أن يشهر، فكم المجتمع بحاجة لهذا الزجر والقوة؟ وكم من قضية تحتاج لهذا الحزم؟ وبهذه الإدارة يزدجر المشاغبون ويرتدع الأفاقون ويتأدب الكذابون.

امرأة وحيدة في الصحراء

تجمع شرائح واسعة من السعوديين على أن إعلان البلاد تحكيم الشريعة الإسلامية في نظامها للحكم، منح الدولة السعودية هامشا واسعا من الرضا الشعبي، والمشروعية السياسية، التي أصبحت من الأهمية بمكان في عالم عربي وإسلامي، يموج بالثورات والفتن، إلا أن ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز بين قلة ممن يصرحون بذلك علانية في المجالس العامة، واللقاءات الفكرية، والمنتديات الخاصة.

من ذلك ما يرويه الكاتب الدكتور عبد العزيز الثنيان أن الأمير سلمان كان ضيفا في إحدى المناسبات الخاصة (في بيت الراوي نفسه) وكان الحضور جمعا من العلماء والأكاديميين والإعلاميين ورجال الأعمال وتحدث في موضوعات شتى، وشد انتباه الحضور بسرده التاريخي عن المملكة ونشأة الدولة السعودية الأولى ثم الثانية ثم الثالثة. واستعرض الحالة الأمنية وكيف ساد الأمن في المملكة، وروى حادثة عن الملك عبد العزيز رحمه الله عندما كان في الصحراء، فوجد امرأة في البادية مع ناقتها وحدها، فسألها مستغربا عن مخاطرتها وتساهلها حيث تسير وحيدة في الفلاة، وردت عليه، وهي لا تعرف من الرجل الذي يخاطبها فقالت: «معي الله سبحانه وتعالى ثم الملك عبد العزيز» وهنا – كما يروي – بكى الملك عبد العزيز وسجد شكرا لله سبحانه وتعالى.

وقال الأمير: وعلى مقربة من هذا المكان الذي نسعد بالجلسة فيه هذه الليلة كانت هناك شجرة تعرف بشجرة درمان يستظل بفيئها أعرابي يعرفه أبناء المنطقة، يتعدى ويتطاول على سكان الوادي كله وهم يخافونه ويدارونه، وحين أعاد الملك عبد العزيز الأمن والأمان، اختفى درمان وذهب معه الخوف والقلق، وعم الرخاء والاستقرار للوطن كله، فالدولة بنيت على الوحدة في العقيدة الإسلامية، وعلى خدمة الشريعة وهي الإطار الذي يجمع الناس وهي ميزان العدل وهي السقف، الذي لا أحد يتجاوزه وهي الغاية التي كلنا نخدمها.

وقال: «هذه قاعدة مشتركة قامت عليها وحدة الناس من كل القرى والهجر والقبائل والمدن»، ثم قال الأمير إن الذي ينظر إلى تجانس الناس وتقاربهم في مدينة الرياض كما المدن الأخرى يدرك مدى تقارب القلوب وتآلفها.. وقال الأمير موضحا وممازحا الحضور ومقلبا النظر في الوجوه الحاضرة: «أنتم الليلة كلكم تجتمعون من كل أنحاء المملكة، أنتم تمثلون الوطن كله»، يريد أن يؤكد للحضور أن إدارته ومنهجه هو ما أقره الشرع وما أمر به، ثم تساءل وقال: دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي عندما تركت منهجها وفكرها القائم على الاشتراكية تمزقت وانتهت، والغرب لو ترك أساسه ومنهجه الرأسمالي ربما أصابه ما أصاب المعسكر الشرقي. أما نحن في هذه البلاد فمنهجنا ووحدتنا وإدارتنا قائمة على الشرع، وما أمر به ولو حدنا عن ذلك - لا سمح الله - فسوف يصيبنا الضياع والبلاء. إنه يجسد منهج الدولة الفكري، ومسارها الحضاري، فلا خيار دون الإسلام، ولا حيدة دون شرع الله.

وبعد الجلسة يضيف الثنيان: «قال لي أحد الحضور: إن كبار السن كانوا يروون أن درمان المذكور يخيفهم، والويل لمن تعذر استضافته وإكرامه والويل لمن لم يقدم له لذيذ الطعام وحين صار الأمن أصبحوا يزجرونه ولا يكرمونه إكرامهم الأول. وكان درمان يتأوه ويتحسر على زمان مضى... ويقول بأسلوبه البدوي الساذج: (الله يعيدها خبة). أي: الله يعيد أيام الفوضى واختلال الأمن».

لكن انحياز سلمان إلى الدين والشريعة في لقاءاته وأفكاره لا يجعله منغلقا في الرؤية السياسية والأفكار الدينية ذات العلاقة، مثل عدد من المنظرين لتحكيم الشريعة في وطنه وبلاد إسلامية عدة، بل هو مثلما برهنت مواقف عدة وثقها الثنيان، له من الدراية ما يجعله يتوصل إلى حل في المسألة المعقدة، من غير تدخل في حكم الشريعة، أو إضرار بالطرف المستهدف، أو المتضرر.

أحد النماذج التي لا تخلو من طرفة، هو إنقاذه أحد المقيمين من الجنسية الغربية من ملاحقة قضائية، بحيلة لطيفة أوجدت المخرج للشاكي والمشتكى منه، يقول الراوي، الذي تحدث إلى الكاتب «وردتنا في إمارة الرياض قضية من الشرطة تتلخص في أن غربيا يسكن وسط أحد أحياء الرياض ومعه كلبه واشتكى بعض الجيران وطلبوا أن يصرف الرجل كلبه وامتنع الأجنبي، وأصر أولئك ووصلت المعاملة للإمارة ورسوا المعاملة في الحقوق الخاصة وتوقفوا فهي شكوى وادعاء بالضرر، ومن سيقرر أن الضرر قائم وتحيروا وبعد دراسة وتأمل رأوا إحالة المعاملة للمحكمة ليقرر الشرع حجم الضرر وكيف إزالته».

رفعوا المعاملة للأمير سلمان لاعتماد إحالتها للمحكمة وكان المتوقع حسب الراوي «أن يوجه بدفعهم للمحكمة، لكن الأمير اتصل بالموظف المسؤول وقال: إن أحلناهم إلى الشرع فسيحكم القضاء بإزالة الضرر ولا بد للعدل من التنفيذ وقد تتطور القضية وتتعقد وتطول؛ أليس من الأولى معالجة الأمر بأسلوب أسرع ويرضي جميع الأطراف؟! إن هذا الأجنبي يعمل في شركة فاتصلوا بمدير الشركة وتحدثوا معه برفق واطلبوا منه معالجة الأمر بشيء من الحكمة. قال الراوي: واتصلنا بمدير الشركة وانحلت المشكلة بأيسر طريق وأسهل أسلوب فقد نقلوا الأجنبي مع كلبه لمكان آخر وانتهت المشكلة»!

* رشوة في الحلال!

* الأبواب التي يطرقها حاكم الرياض السابق في إنهاء أطنان المشكلات التي ترده، لا تنتهي عند هذه الجزئية وحدها، ولكنها تتجاوز أحيانا إلى المزج بين «الترغيب والترهيب»، كما فعل في حق امرأة أجنبية وزوجها السعودي، ففي حين أنهى معاناتها المريرة، لم يشأ معاقبة زوجها القاسي رأفة بها، وإنما سلك اتجاها آخر هو «تأليف قلبه بعطية مالية لعله يحسن إلى زوجته»!

وحول تفاصيل تلك القصة، يمضي الثنيان يحكي نقلا عن رواته، الذين ليسوا إلا نفسه أو موظفين في الإمارة، وقال: «امرأة غير سعودية مقطوعة الشجرة لا أهل ولا أصحاب لها، تزوجت برجل سعودي سيئ الأخلاق يضربها من دون سبب ويشتمها صباحا ومساء، ولا كأنها رفيقة عمره، ولا شريكة حياته، ولا أم أولاده مع أنها أنجبت له ولدين وأحبته مرتين: مرة لغربتها، وأخرى لأولادها، وخدمته ليلا ونهارا في عسره ويسره، ولكنه أحمق أرعن يتلذذ بضربها، ويطرب لصياحها، وعرف الجيران وضع زوجته المسكينة فنصحوه، فشتمهم، وحاوروه فوبخهم، وتلطفوا معه فقسى عليهم، وازدادت رعونته..

وذات يوم علا صوت المسكينة بكاء وتوسلا ورجاء وتوددا فما رق قلبه ولا دمعت عينه ولكنه آلمها ضربا وجرحها ركلا فارتفع أنينها واشتكى الأفق من صياحها، وتدخل الجيران فطرقوا بابه فزجرهم، وهددوه فنهرهم، وعند ذلك تدخلت الشرطة واقتحموا الدار، ووجدوا المرأة معلقة كالذبيحة، وهي تئن وتتألم وتصيح وتتوسل. وعلى الفور طلقها طلاقا بائنا وقال للشرطة: خذوها لا أريدها، واحملوها لا أرغبها.

وبقيت عند الشرطة فلا ولي لها ثم نقلت إلى دار الرعاية الاجتماعية، وتركها الزوج وسافر بولديه إلى شمال المملكة، ونسيها، وظلت المسكينة منسية، ودارت المعاملة من قسم لآخر، ومن قطاع لقطاع فلا هوية لديها، ولا قريب يتابع وضعها حتى وصلت المعاملة للإمارة، وفيها إشارة بأن المرأة دائمة البكاء على أولادها وتهذي بهم صباح مساء.

يقول الراوي: وعرضت للأمير سلمان المعاملة وقرأها بتمعن وتأثر لهذه الحالة وتبنى معالجة الموقف، وكلفني على الفور بالنيابة عنه في اتخاذ كل الإجراءات اللازمة للعناية بها وأطفالها، وأمر أن يستخرج لها جواز سفر سعودي، وأن يصرف لها مبلغ مالي من حسابه الخاص، وأن نبحث عن مكان زوجها وأطفالها، وأن نوفر مرافقين، وتذاكر سفر للسفر بها إلى المدينة التي يوجد بها أطفالها لتراهم، وأن نتصل بإمارة المنطقة الأخرى لتسهيل الإجراءات ونفذنا أمره فخلال أسبوع وإذا بالمرأة تجلس مع طفليها في أحسن فنادق تلك المدينة. وتبكي المرأة فرحا وتخر ساجدة لله، وداعية للأمير ثم تخر ثانية وثالثة ويحسبها الحضور أن بها مس جنون، ولكنه الفرح ثم تقول ودموعها تتقاطر وهي تلثم صغيرها الأول ثم حبيبها الثاني. تقول: أرجوكم بلغوا الأمير سجدتي ودعائي وأخبروه بتوسلي وأعلموه أن قلبي يدعو له فهذا الذي أملكه. أنا امرأة ضعيفة ولكن ارتباطي بالله أقوى. إن معي سهام الليل وإن عندي صحية السحر، إنني أناجي أكرم الأكرمين بأن يجبر الله الأمير سلمان وأن يديم له عزه ومجده، وأن يحفظ له أمنه وأمانه، وأن يقيه روعة القبر وهول الحشر ورهبة الصراط واستمرت الضعيفة في القول والثناء.

وتسلمت المرأة وأبناؤها ثلاثة جوالات ليستمر التواصل ويدوم التناجي ويوفر الأمير للمرأة سكنا خاصا بها، ويأمر بصرف مبلغ مالي لزوجها الأرعن ويقول الأمير: إنني أستطيع القسوة معه، ولكن ماذا بعد ذلك؟ شرهوه لكي يرق لها وأعطوه لكي يعلم بإشرافي عليها.