تشكيليون يعيدون توجيه دفة «الثورات العربية» في لندن

من البرلمان الأوروبي إلى «غاليري روز عيسى»

TT

تبدو روزنامة العاصمة البريطانية هذه الأيام مزدحمة بعدد يصعب حصره من المعارض والفعاليات الفنية. ولعل أجواء الأولمبياد الرياضية الطلقة، وما أشاعته من بهجة في نفوس أبناء هذه المدينة، كان وراء التخفف من أعباء الأزمة الاقتصادية التي غدت حديث الناس وشاغلهم. فالمعرض السنوي الفني والمهم «فريز» قد أطلق دورته الجديدة هذا الأسبوع في «ريجنت بارك»، وعلى هامشه فتحت غاليريهات وسط أحياء لندن الراقية أبوابها للزوار، ومثله معرض «صنع في مكة» في الطرف الثاني من المدينة الذي ينظمه «آرت سبيس» لندن.

وسط هذه الغمرة الاحتفالية جاء مشروع الفنانة اللبنانية روز عيسى الجديد، ليستكمل معرضها الأول قبل أربع سنوات، حين استضافه البرلمان الأوروبي في بروكسل ضمن أسبوع خصص للصنيع البصري العربي وحمل عنوانه اللافت «التحولات». وكان هذا المعرض بمثابة المحفز والمُحرك لسلسلة من عروض تمحورت حول «المدينة العربية» احتضنها مركز «بلوكوت الفني» في مدينة ليفربول عام 2010، قبل انتقاله إلى «مركز معرض بيروت» الفني حيث التحق به عدد آخر من الفنانين اللبنانيين.

اليوم تستكمل عيسى ما بدأته، خصوصا بعد التغييرات الهائلة التي ضربت منطقتنا العربية بشكل خاص، وعبر تقديم خلاصات لاستجابة الفنان الشرق أوسطي، وذلك القادم من شمال أفريقيا لما اصطلح عليه «ثورة الربيع العربي». ذلك أن الأسئلة المطروحة وقتها، ما زالت هي اليوم تقدم نفسها وبشكل ملح، ولربما تضيف إلى الأسئلة إياها عناصر جديدة. إنها، وبشكل من الأشكال، قصة الصورة وما تحمله من أفكار ومعان وتواريخ. ذلك أن هؤلاء الفنانين، هم في آخر الأمر، عبارة عن شهود أحياء لتقلبات تواريخ واختلاط لغات وفورة أديان وانحسار دور الثقافة وتجلياتها التقليدية. ومثل هذه الخلطة تمنح المتابع، خصوصا الأوروبي، مفاتيح لحظات تاريخية بعينها تدور حول أسباب خسائرنا وآمالنا المجهضة وحروبنا العبثية والتدهور الحاصل في وضع المرأة والعدالة الاجتماعية المنشودة ووضع الأقليات وحقوقها المنتهكة والعمالة الوافدة وتورط الغرب بشكل مباشر وغير مباشر في صعود نعرات الانغلاق.

ما تقوله هذه الاشتغالات هو، في معنى من معانيه، سرد لقصة أخرى، ولمكابدات فنية تصلح أن تكون بيانا فنيا يكسر نمطية التفكير والحكم المسبق. ذلك أن سلسلة «أيقونات النيل» للفنان الأرمني - المصري شانت آفيديسيان، والمنفذة بتقنيات مختلفة على الورق والتي تبدو انطباعية وأقرب إلى الفطرية عند النظر إليها، تجمع، بين ما تجمع، صورا لطيف واسع من ملامح وأشكال نجوم الشاشة الفضية وعالم الغناء والاستعراض والسياسة والأدب. يحضر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وسط مشهدية مزخرفة بألوان زاهية، وتلك الملتقطة سكناته أو توفزه وهو يمسك المذياع في إشارة إلى حضور طاغ للراديو رافق مرحلة صعود نجمه. وتتوزع على أطراف تلك السلسلة صور «سيدة الغناء» أم كلثوم تلك الملهمة والمسكنة في طبعتها الناصرية. ومثلها تخطيطات لأيقونات صور فنية لنجوم وممثلين وممثلات شكلت ذاكرة خصبة لفترة عجز الحاضر عن إفراز ما يضاهيها أو على الأقل ملء فراغ المرجع. وعلى الطرف الآخر من هذه الصالة الفارهة يتوسط عمل الفنانة المصرية الألمانية سوزان هيفونا «أنا والحلم»، وفيها تضع هذه الكلمات خلف مقوسات ثقوب مشربية ضخمة.

لكن فكرة عمل اللبناني أيمن بعلبكي التركيبي «استيقظ»، والمنفذ بمواد مختلفة والذي يتصدر صالة المعرض، تبتعد قليلا عن الزمن الجميل. صحيح أنه ضرب على «تيمة» سبق للفنان أن قاربها في عمله «صباح الخير، وادي أبو جميل»، وعبر ديك يقف على كومة فرش وأغطية ومواد شخصية، بإضافة لوحة نيون كتب في داخلها كلمة استيقظ بالإنجليزية. وما دامت فكرة العمل الفني، حسب وصايا مدرسة الفن المفاهيمي، هي بداية العمل وغايته، فإن بعلبكي أراد القول إن هاجس السفر والترحال والبحث عن مستقر آمن، بسبب ما يجري على أرض بلده، هي بيانه. فيما تتوزع على جدران المعرض لوحات «حواجز» و«نقطة تفتيش»، منفذة بالـ«أكليريك» على القماش، لتدور حول الفكرة ذاتها.

ومثله، يأتي عمل المغربية بتول شيمي «عالم مضغوط»، حيث رسمت خريطة العالم على طنجرة ضغط، في إشارة تحذير إلى أن عالمنا مقبل على انفجار هائل بفعل انعدام البدائل وغياب الحلول. ومثل هذه النبرة المحتجة تأخذ على يد سلسلة الشابة اللبنانية تغريد دارغوث «أكثر بريقا من ألف شمس»، والمنفذة بالـ«أكليريك» على القماش، هجاء لسباق التسلح والتهديد النووي. تتوقف دارغوث عن التناقض الصارخ بين تسميات أسلحة الدمار والموت البراقة وما تنثره على الأرض من خراب.

بينما تحتل اشتغالات الفنان المغربي حسن حجاج، الحيز الأكبر للطابق السفلي، خمسة أعمال من بينها عمل الفيديو المهم «نجوم الروك» (29.52 د)، ويشاركه الفنان المصري فتحي حسن بسبعة أعمال تركيبية منها سلسلة «أين الملايين» و«هلين». هذه الصياغات وأسئلتها، وما يندرج تحت خانة الفن المفاهيمي من عروض وإنشاءات وتركيب وفيديو، هي في حقيقتها عبارة عن تمردات على إرث فني تقليدي لم يعد يستجيب إلى قلق الفنان، كما يراه المتحمسون إلى هذا الفن. فهي لا تعير أهمية كبرى إلى مبدأ التفاعل الحسي مع الأشياء الخارجية وما يتطلبه من مهارة الصنعة وعمق التخيل ونشدان جماليات المعطيات الموضوعية، بل معطى الأفكار والمفاهيم، لزمن له ذائقة فنية مختلفة.

يستمر المعرض حتى الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني).