من خلال كتابه المثير «الرحلة الأخروية العلائية - أطراف رسالة الغفران»، أعاد أكاديمي كويتي اكتشاف النص العلائي عبر الرائعة الخالدة: «رسالة الغفران»، وانطلق به من فرضية محددة تنظر إلى «رسالة الغفران» بوصفها نصا سرديا.
وأوضح الدكتور مرسل فالح العجمي، مساعد العميد لشؤون تدريس اللغات في كلية الآداب بجامعة الكويت، لـ«الشرق الأوسط» أن الفرضية التي ينطلق منها العنوان الرئيس للكتاب، ستحل أشكالا صادفت بعض الباحثين عندما أرادوا تصنيف الرسالة «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، تصنيفا أدبيا، فبعضهم عدها «مسرحية»، وبعضهم «قصة»، وبعضهم اعتبرها مركبا من القصة والرسالة، معتبرا أن النظر إلى «رسالة الغفران»، بوصفها نصا سرديا سيحل هذا الأشكال، لأن السرد، باعتباره جنسا أدبيا يستوعب المسرحية والقصة والرسالة، مؤكدا على أن هذا التصنيف ينطبق على القسم الأول من الرسالة، والمتعلق بالرحلة الأخروية المتخيلة. أما القسم الثاني، الذي جاء في صيغة ردود جوابية، فيعد نصا سجاليا، قدم ضمن إطار سردي شامل، وهكذا جاء العنوان، فهي رحلة، لأن السارد يتابع نزهة ابن القارح الفردوسية، وهي أخروية، لأنها تتمحور حول عالم متخيل، يبدأ حدوثه بعد نشر الموتى في الحياة الآخرة، وهي علائية، لأن الذي صور لنا هذه الرحلة هو أبو العلاء المعري، معتمدا على القرآن الكريم، والحديث الشريف، والثقافة الإسلامية، في تأثيث العالم السردي لتلك الرحلة.
وقدم العجمي في بداية الكتاب التجربة العلائية التي تتمحور حول اعتزال أبي العلاء الناس وتوحده في منزله قرابة نصف قرن، موردا إجابة عن سؤالين يفترض حضورهما بخصوص هذا الاعتزال، وأورد معلومات عن أحداث مهمة في حياة أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري، ولقبه أبو العلاء، والمولود في يوم الجمعة 27 من ربيع الأول سنة 363هـ، في معرة النعمان في الشام، كما أورد وصفا لمظهره الجسدي، وقد أصيب وهو في السنة الرابعة من عمره بالجدري فأتلف عينيه وفقد البصر، وفي سنة 395هـ توفي والده، وفي آخر سنة 398هـ سافر إلى بغداد، وفي 400هـ توفيت والدته، ففي رمضان من سنة 400هـ غادر بغداد متجها إلى معرة النعمان. وعندما وصلها فجع بوفاة والدته، وفي آخر أيام إقامته في بغداد قرر أن يعتزل الناس عزلة مادية، ففي النصف الأخير من سنة 400هـ وصل معرة النعمان، وحبس نفسه في منزله عن الناس، ولم تدم هذه العزلة طويلا، فبعد فترة اقتحم أصدقاؤه عليه عزلته، وبعد أن اشتهر بعلمه وأدبه توافد عليه طلاب العلم من أماكن بعيدة، وتحول منزله إلى ما يشبه المدرسة. وطوال عزلته لم يتزوج ولم يأكل اللحم أو منتجات الحيوان، وتوفي يوم الجمعة 13 ربيع الأول. ووقف على قبره - راثيا - ثمانون شاعرا، وقد ترك أكثر من 55 مصنفا، من أشهرها: «ديوان سقط الزند»، ديوان «لزوم ما لا يلزم»، «معجز أحمد» (شرح لديوان المتنبي)، «الفصول والغايات»، «رسالة الغفران»، «رسالة الصاهل والشاحج»، «رسالة الملائكة»، «زجر النابح».
وفي طرح غير مسبوق أسهب الدكتور مرسل العجمي في الحديث عن اختلاف المترجمين في حديثهم عن موقف أبي العلاء في العالم، الذي وصل إلى ذروته في الحديث عن عقيدة أبي العلاء، وفي الحكم النهائي على شخصيته، موضحا بالقول: «بينما نجد الرجل عند بعضهم مؤمنا زاهدا صالحا، نجده عند آخرين كافرا ملحدا زنديقا، من ناحية أخرى حاول فريق ثالث أن يتوسط ذينك الفريقين المتناقضين، وذلك عندما حاول أن يقدم لوحة محايدة، تنقل من الفريقين (وتعلق الحكم) على الرجل». ووزع المؤلف كتابات القدماء حول ذلك وفق ثلاثة تيارات: تيار ضد أبي العلاء، وتيار مع أبي العلاء، وتيار على الحياد مع أبي العلاء.
وقدم المؤلف ما ذكره كل تيار ممن ترجم لأبي العلاء، ولعل أبرزهم من التيار الذي صنف ضد أبي العلاء: ابن الجوزي، ياقوت الحموي، ابن كثير، أما التيار الذي صنفه المؤلف مع أبي العلاء فيعد ابن العديم أبرز المدافعين عن عقيدة أبي العلاء، لافتا المؤلف إلى أن ابن العديم خصص للدفاع عن الرجل كتابا مستقلا هو «الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري»، أما التيار الذي على الحياد مع أبي العلاء فاختار المؤلف العجمي ترجمة القفطي، وابن الوردي من بين التراجم الواردة في تعريف القدماء كمترجمين محايدين تجاه أبي العلاء، مرجعا حيادية الأول إلى سبب نفسي، والثاني لأسباب معرفية. واستنطق المؤلف كلام المعري نفسه عند حديثه عن نقطة «التحول» في حياة أبي العلاء، من خلال قراءة المؤلف نصين (رسالتين)، الأولى أرسلها أبو العلاء إلى أهل معرة النعمان عند منصرفه من بغداد، يخبرهم فيها بأنه قرر أن يعتزل الناس ويخرج من العالم، والثانية تقدم بصورة مكثفة رحلة وعي المعري لذاته، من خلال البحث عن الذات أولا بتعرف هذه الذات الممزقة، ثم مرحلة النظر في هذا الوعي.
ويعود المؤلف العجمي للحديث عن المعري طارحا السؤال: «هل حقا اعتزل المعري الناس؟ أما إن كان الأمر يتعلق باستغناء المعري عن الناس، فالإجابة بالإيجاب، وأما إن كان الأمر يتعلق بعدم اهتمام المعري بأمر الناس: أهل المعرة أولا، والمجتمع العربي الإسلامي ثانيا، فالإجابة بالنفي». وزاد بالقول: «لم يكن المعري سلبيا في عزلته، وإنما كان إيجابيا شديد الحضور في الساحة الاجتماعية والأدبية، وتظهر هذه الإيجابية في عدة أمور:
الكتابة: والكتابة في حد ذاتها ولوج في العالم، لأنها نوع من التواصل مع الآخر (القارئ)، فلولا حضور القارئ لما كتب الكاتب سطرا، فعندما يغيب القارئ تغيب الكتابة، وقد اتخذت كتابة المعري أشكالا متعددة: كتابة الشعر (اللزوميات)، الذي يعد من جوهره تأملات ذهنية في الذات والمجتمع وبعض القضايا الماورائية. ومنها الكتابة النثرية، مثل (رسالة الصاهل والشاحج)، التي كان السبب وراء كتابتها شكوى بعض أقارب المعري من ظلم الضرائب، ومثل (رسالة تاج الحرة) التي تعد رسالة تربوية كتبها المعري لبعض نساء الكبراء، والتي يظن أنها (طرود) زوج صالح بن مرداس، ومثل كتاب (الفصول والغايات) الذي أنشأه لتمجيد الله والثناء عليه، وغيرها كثير. إن كتابة المعري لهذه الكتب وتلك الرسائل تدل على رغبة نفسية في التواصل مع الآخر. والأمر الآخر هو استقباله الطلاب، وقبوله القيام بأعباء التدريس بلا مقابل، فهذا عمل يدل على الإيثار وعدم البخل العلمي من ناحية، وعلى الرغبة في التواصل الإنساني مع طلاب قدموا إليه من أماكن بعيدة يطلبون عنده اللغة والأدب من ناحية أخرى، ومن أشهر طلابه الخطيب التبريزي.
ومن الأمور الإيجابية في هذا الجانب هو سفارته لصالح بن مرداس، في أثناء حصاره للمعرة، ونجاح المعري في هذه السفارة. عن هذه الحادثة يقول ياقوت الحموي: (حكي أن صالح بن مرداس صاحب حلب، نزل على معرة النعمان محاصرا، ونصب عليها المناجيق «المجانيق»، واشتد في الحصار لأهلها، فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء، لعجزهم عن مقاومته «صالح بن مرداس»؛ لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر بالخروج إليه بنفسه، وتدبير الأمر برأيه، إما بأموال يبذلونها، أو طاعة يعطونها، فخرج ويده في يد قائده، وفتح له بابا من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو أبو العلاء، فجيئوني به. فلما مثل بين يديه سلم عليه، ثم قال: الأمير - أطال الله بقاه - كالنهار الماتع قاظ وسطه وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع لان متنه، وخشن حداه، «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين». فقال صالح: «لا تثريب عليكم اليوم»، قد وهبت لك المعرة وأهلها. وأمر بتقويض الخيام، والمناجيق فنقضت ورحل). ويؤكد صدق حديث ياقوت، إشارة المعري إلى هذه الحادثة في (اللزوميات)، فقد كتب عن هذه السفارة مقطوعتين:
الأولى:
تغيبت في منزلي برهة
ستير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعا إلى (صالح)
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق
فكم نفقت محنة ما كسد
الثانية:
آليت، أرغب في قميص مموه
فأكون شارب حنظل من حنظل
نجى المعاشر، من براثن (صالح)
رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألبسهم جناح تفضل».
ويشير العجمي بالقول: «تنضح المقطوعة الأولى بكراهية أبي العلاء للساسة والسياسيين في هذه الكلمة الصريحة التي جعلها محور البيت الأخير، أن هذا (النفاق) المتبادل بين أبي العلاء وصالح، أمر يكرهه أبو العلاء كل الكره، ولكنه مدفوع إليه من أجل أهل المعرة، أن (النفاق) هنا مزدج: نفاق أبي العلاء، بتذلله لصالح، ألم يكن كلامه (سجع الحمام) ونفاق صالح بتجبره وتكبره (وزئيره) أمام أبي العلاء متشبها بالأسد في المهابة والفتك؟ أن هذا هو النفاق كله، لأن أبا العلاء يظهر غير ما يبطن، ولأن صالحا كان موجة ضائعة في بحر السياسة المتلاطم آنذاك.
أما المقطوعة الثانية فتقدم الصورة الحقيقية لموقف أبي العلاء من أمر تلك السفارة؛ لقد نجح أبو العلاء في وساطته، وزال الخطر الذي يهدد المعرة. ولا شك أن أهل المعرة قد فرحوا بهذه النتيجة فرحا شديدا، ولا شك أنهم أثنوا على المعري ثناء حارا، ولكن الأمر بالنسبة إلى أبي العلاء لا يعدو كونه تفضلا من الله عليه. أما هو فليس له في الأمر (جناح بعوضة). أليس هذا غاية التواضع أمام الله وأمام الناس؟
إن (الكتابة) و(التدريس) و(المشاركة العلمية) كلما حزب الأمر، كل هذه الأمور تجعل من المعري إنسانا فاعلا حاضرا في مجتمعه ومنتميا إليه رغم عزلته. إن هذا ما أقصده بالانتماء في العزلة». ولفت الباحث العجمي إلى أنه بعد أن توغل المعري في توحده، وبعد أن أمضى قرابة ربع قرن من الزمان متوحدا في عزلته، اقتحم عليه معتزله أحد متأدبي ذلك العصر، متبجحا ومتحديا ولامزا، فجاء رد أبي العلاء في «رسالة الغفران»، من ذلك الرجل؟ ولم تجشم أبو العلاء عناء الرد عليه؟ وما الحوار الذي دار بين الرجلين؟
وأعطى المؤلف الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال البطل: الحضور القارحي، موضحا بالقول: «كانت رسالة ابن القارح الفعل الذي أنتج ردة فعل تمثلت في (رسالة الغفران). لهذا السبب تعد (الرسالة القارحية) (سيكون هذا لقبها من الآن فصاعدا) المفتاح الرئيس الذي به يمكن أن نفك مغاليق (رسالة الغفران)، فالثانية كتبت استجابة وإجابة عن الأولى. نتيجة لهذه العلاقة السببية بين الرسالتين، لا يمكن أن تقرأ (رسالة الغفران) في حالة غياب (الرسالة القارحية)، وعندما حدثت مثل هذه القراءة، كانت النتيجة قراءة ناقصة وقعت في أخطاء جوهرية، مثلما نرى في قراءة المستشرق الإنجليزي (نيكلسون) التي نشرت في مطلع القرن العشرين، وكما حدث في قراءة شوقي ضيف التي كتبت بعد ذلك بنحو نصف قرن.
لقد شهر ابن القارح في المشهد الأدبي، القديم والحديث، لأنه كان الحافز لكتابة (رسالة الغفران)، وسواء أكان ابن القارح مرسلا أم مستقبلا، فاعلا أم منفعلا، فإن حضوره بالغ الأهمية لعدة اعتبارات:
من حيث الفعل كان ابن القارح هو البادئ بالكتابة إلى أبي العلاء، وهذا يعني أنه لولا (الرسالة القارحية) لما كتبت رسالة الغفران، ومن حيث حضوره في ذهن أبي العلاء في زمن كتابة (رسالة الغفران)، ومن حيث حضوره في ذهن القارئ في زمن قراءة (رسالة الغفران) في فترة لاحقة.
إن هذا الحضور يجعل ابن القارح يؤدي دور البطولة في (رسالة الغفران) على مستويين، هما: بطولة خارج النص، وبطولة داخل النص. والبطولة خارج النص تعني التعامل مع عناصر خارجية تقع على تخوم النص في أثناء القراءة، ولكن معرفة هذه العناصر تعد ضرورية للقارئ حتى يستطيع الولوج إلى عالم النص الداخلي».