«لورانس العرب» يعود إلى أميركا

بعد 50 سنة على الاحتفال به سينمائيا

TT

مع عودة المنطقة العربية، بأسرها، إلى واجهة الأحداث، والتدخلات الأجنبية فيها، احتفت أميركا بمرور 50 سنة على صدور فيلم «لورانس العرب». احتفال مهرجاني فتح الباب واسعا أمام نقاشات جديدة ومتشعبة حول الدور الغامض الذي لعبه هذا البريطاني الأصل في إذكاء روح القومية العربية. كيف ينظر إلى «لورانس العرب» اليوم في أميركا؟ وهل - فعلا - قرب المسافة بين الشرق والغرب أم أجج الفتن، حتى قيل إنه بول وولفويتز ذلك الزمان؟

كان الشهر الماضي هو «مهرجان تي إي لورانس»، المعروف باسم لورانس العرب، بمناسبة مرور خمسين سنة على إنتاج فيلم «لورانس أوف أرابيا» (لورانس العرب). احتفلت به جامعة تكساس في أوستن (حيث مركز لوثائقه) وأقيمت ندوات عنه، وناقش مساره طلاب دراسات الشرق الأوسط في جامعات أميركية، وكتبت عنه كتب، وعلق عليه معلقون.

خلال خمسين سنة، ظل لورانس العرب جزءا من الثقافة الأميركية، يدرس في مقررات تاريخ العالم في المدارس الأميركية، واشتهر فيلم، ومسلسلات تلفزيونية عنه. ويظل كتاب مذكراته «أعمدة الحكمة السبعة» (صدر سنة 1935) من المراجع المهمة للذين يدرسون خلفية العلاقات بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.

وازداد الاهتمام بالرجل خلال العشرين سنة الأخيرة، مع التدخل العسكري الأميركي في الشرق الأوسط بقيادة الرئيس الأسبق بوش الأب (بداية بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي سنة 1992).

ووسط المثقفين الأميركيين، زاد النقاش عنه بعد غزو واحتلال أفغانستان والعراق، ونظريات الرئيس السابق بوش الابن الثلاث عن الشرق الأوسط:

أولا: نشر الديمقراطية.

ثانيا: «بري أمتيف سترايك» (الحرب الاستباقية).

ثالثا: «وور أوف أيدياز» (الحرب الفكرية).

في هذه المناقشات، لم يعد سرا دور بول وولفووتز، نائب وزير الدفاع في إدارة بوش، وهو من الذين خططوا (ونفذوا) غزو العراق. وخلال النقاشات عن فيلم «لورانس العرب»، وانعكاساته الأميركية، سماه مثقفون أميركيون «لورانس العرب الأميركي» و«وولفووتز العرب» و«لورانس العرب اليهودي» (إشارة إلى يهوديته).

حياة لورانس وعلاقاته

ولد توماس إدوارد لورانس في ويلز، عام 1888. ودرس في جامعة أكسفورد، وكان عنوان بحثه الرئيسي: «تأثير الحروب الصليبية على التفكير العسكري الأوروبي». وتجول في فلسطين، وسوريا، ولبنان والأردن (كانت جزءا من الخلافة العثمانية) لدراسة الآثار وتعلم اللغة العربية.

مع بداية الحرب العالمية الأولى (عام 1914)، التحق بقسم الاستخبارات العسكرية، وأرسل إلى مصر، وعمل ضابط اتصال بين البريطانيين وحلفائهم العرب في حربهم المشتركة ضد الأتراك. وتقرب من الشريف حسين بن علي الهاشمي (أمير الحجاز، حتى سنة 1924 عندما هزمه الملك عبد العزيز آل سعود)، وتقرب من أبنائه الثلاثة:

أولا: فيصل: عينه البريطانيون، بعد هزيمة الأتراك، ملكا على العراق. وهو جد الملك فيصل الثاني الذي قتل في الثورة التي أطاحت بالملكية (سنة 1958).

ثانيا: عبد الله: عينه البريطانيون، بعد هزيمة الأتراك، ملكا على الأردن. وهو جد الملك حسين (والد العاهل الأردني الحالي الملك عبد الله). وقتله فلسطيني في المسجد الأقصى (سنة 1951).

ثالثا: علي: عينه والده ملكا على الحجاز. لكن، رفض البريطانيون مساعدته. وسقطت الحجاز، وفر إلى العراق، حيث عاش مع أخيه الملك فيصل.

عمر الشريف في صلب النقاش

ساهم فيلم «لورانس العرب» في ارتفاع نجم الممثل المصري عمر الشريف، حيث مثل فيه دور الأمير علي. وحسب الفيلم (وحسب التاريخ)، كان الأمير فيصل أقرب أولاد الشريف حسين إلى البريطانيين (وإلى لورانس). سماه لورانس «الأمير الأسمر». وفي ملصقات الفيلم، لونه أكثر سوادا منه إلى السمرة (ليوضح الغربيون أنه ليس مثلهم).

وزاد من شهرة عمر الشريف أنه مثل الدور الرئيسي في فيلم «دكتور جيفاجو»، عن الطبيب الروسي جيفاجو الذي وقع (حسب رواية الروسي بوريس باسترناك) في غرام الشقراء الروسية لارا خلال الثورة الشيوعية في روسيا (مع نهاية الحرب العالمية الأولى).

ومثل عمر الشريف في فيلم «فاني غيرل» (البنت الطريفة) مع باربرا سترايساند. وأثار ذلك ضجة كبيرة، وانتقدته حكومة الرئيس المصري جمال عبد الناصر (سنة 1968)، لأنه مثل دور اليهودي نيكي أمشتاين، وأمام ممثلة يهودية.

ودافع عمر الشريف عن نفسه بأن الفن هو من أجل الفن، وأنه يمثل من أجل التمثيل. وأن اليهودي أمشتاين تزوج مسيحية، وكان أولادهما مسيحيين. ودافع عمر الشريف عن نفسه، أيضا، باسم التسامح بين الأديان (وهو المسيحي المصري، من أصل لبناني. اسمه الأصلي: مايكل ديمتري شلهوب).

في ندوة قسم وثائق لورانس العرب بجامعة تكساس في أوستن، دار نقاش حول دور عمر الشريف. واعتبر رمزا للتسامح الديني «في شرق أوسط يغلي بالمشاكل والحروب الدينية».

وأشير إلى أن عمر الشريف، في سنة 2003 (بعد أربعين سنة من الضجة حول تمثيله مع اليهودية باربارا سترايساند) وكان عمره سبعين سنة، مثل في فيلم «مسيو إبراهيم وزهور القرآن» الفرنسي. والفيلم عن صبي يهودي في باريس، أحب التاجر التركي المسلم إبراهيم (عمر الشريف) أكثر من حبه لوالده اليهودي. وعندما انتحر الوالد اليهودي، أخذ إبراهيم الصبي اليهودي (اسمه موريس، وسماه عمر الشريف «مومو») إلى تركيا، حيث أطلعه على القرآن والإسلام والمسلمين.

وهكذا، كان «مهرجان لورانس العرب» في الولايات المتحدة أيضا مهرجانا عن عمر الشريف.

خمس ساعات سينمائية

في العرض المنقح للفيلم، الذي طوله أربع ساعات، كانت هناك ساعة إضافية، في البداية، عن ظروف تمثيل الفيلم، وعن التحديثات التكنولوجية في الفيلم المنقح، وعن الممثلين الذين مثلوا فيه. توفي أنتوني كوين وآخرون. ومن الذين ظهروا في مقدمة الفيلم، عمر الشريف الذي تحدث عن أحداث عمرها نصف قرن. ومرة أخرى، تحدث عن دور الفيلم في تحسين العلاقات بين الشرق والغرب.

وفي مناقشات وسط مثقفين أميركيين عن الفيلم، كانت هناك إشارات كثيرة إلى عمر الشريف. واعتبر رمزا للتقارب بين الشرق والغرب.

وأشار واحد إلى حفيده الممثل الشاب عمر الشريف الصغير. وأنه اشترك في مظاهرات الثورة المصرية سنة 2011. وأعلن أنه مثلي جنسي، ونصف يهودي. (وكان الحفيد يريد انفتاحات عالمية أكثر من جده).

غير أن أكثر الإشادة كانت بعمر الشريف، وأنه تحدث مع الرئيس الأميركي السابق بوش الابن قبل غزو العراق وقال له إنه يعارض الغزو.

ورغم أن فيلم «لورانس العرب» عبارة عن وجهة نظر غربية لأحداث شرق أوسطية، أوضحت المناقشات وسط المثقفين الأميركيين أن الفيلم، على أي حال، قوى العلاقات بين الشرق والغرب (سلبا وإيجابا).

لورانس الأميركي

في الفيلم، مثل بيتر أوتول دور لورانس، وأنتوني كوين دور الشيخ عودة أبو تاي (شيخ قبيلة الحويتات)، وجاك هوكنز دور الجنرال البريطاني اللورد اللنبي (قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط الذي قاد الحرب ضد الأتراك حتى انتصر عليهم). وجاك بنتلي دور الصحافي الأميركي جاكسون بنتلي (الذي نقل قصة لورانس إلى الأميركيين).

وفي المناقشات حول الفيلم الشهر الماضي، كان الصحافي الأميركي هو النجم المفضل، ليس فقط لأنه نقل القصة إلى الأميركيين، ولكن، أيضا، لأنه صار رمز التدخل الأميركي في الشرق الأوسط بعد ثمانين سنة من أحداث فيلم «لورانس العرب».

أشار إلى ذلك كتاب «كينغ ميكرز» (صانعو الملوك) الذي كتبه كارل مايار وشيرين بريساك. اسم الكتاب كاملا: «إنيفينشن أوف مودرن ميدل إيست» (اختراع الشرق الأوسط الحديث)، والقصد هو أن شخصيات غربية صنعت ملوكا في الشرق الأوسط.

ليس الكتاب عن لورانس العرب فقط، ولكن أيضا عن آخرين، ومنهم:

أولا: الجاسوس البريطاني كيم فيلبي. بعد دوره في العلاقات البريطانية - الروسية، انتقل إلى بيروت (صحافيا وجاسوسا). وخلال الخمسينات والستينات، لعب أدوارا مهمة في دعم النظام الملكي في العراق، والنظام الملكي في الأردن، أمام ثورات القومية العربية، بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

ثانيا: الجاسوس الأميركي مايلز كوبلاند، مؤلف كتاب «جيم أوف نيشنز» (لعبة الأمم) الذي صدر سنة 1970، وفيه تفاصيل دوره في العلاقات الأميركية - العربية، وخاصة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

ثالثا: بول وولفووتز، نائب وزير الدفاع في إدارة الرئيس السابق بوش الابن الذي وصف بأنه «عراب غزو العراق»، وبأنه «ذكي، ومطيع، ونشيط، ومريب».

مايكل كوردا في تحية للبطل

ومن الذين اشتركوا في النقاش عن فيلم «لورانس العرب»، مايكل كوردا، الذي كان مديرا لشركة «سايمون آند شوستر» للنشر في نيويورك، وكتب كتبا كثيرة، منها: «هيرو» (بطل: حياة وإنجازات لورانس العرب). الكتاب عملاق، من أكثر من سبعمائة صفحة. لا يخفي فيه الكاتب (البريطاني الأصل) إعجابه بابن وطنه، منذ أن كان صغيرا.

في الكتاب، وجهان للورانس: «الإيجابي» الذي أعجب المؤلف، و«السلبي» الذي لم يعجبه، لكنه وصفه على أي حال بأنه «شجاع، وذكي، ومحارب قدير، وغير خريطة الشرق الأوسط». وفي جانب آخر، وصفه بأنه «كذاب، بالغ في دوره في الثورة العربية ضد الأتراك، وخدع العرب الذين وثقوا به».

وهذه ملامح من شخصية لورانس:

أولا: ولد طفلا غير شرعي، وتوفي في حادث دراجة نارية (قال بعض الناس أنه انتحر).

ثانيا: عاش سنوات تناقض بين طاعة أوامر الجنرالات البريطانيين (الذين كانت مصلحة بريطانيا هي همهم الأول)، وكسب ثقة الملوك والأمراء العرب (الذين كانوا يريدون الحرية من الأتراك، ومن البريطانيين).

ثالثا: كانت حياته الخاصة متوترة مثل حياته العامة، واتهم بالمثلية الجنسية، وأنه كان صديق خادمه السوري سليم أحمد «الداهوم»، ومعنى الاسم «القصير الأسود». لكن، في كتاب مذكراته قال: «لورانس.. إنه لم يحب الجنس أبدا».

صموئيل رافاليدس: لورانس والقومية

بعد أن شاهد الفيلم المنقح، سأل صموئيل رافالديس، وهو أستاذ في جامعة ديكنسون (ولاية نيوجيرسي): ماذا كان سيحدث لو حقق لورانس حلمه؟ وأجاب بالقول، كان قد حقق التالي:

أولا: حق تقرير المصير للدول العربية (خاصة: مصر، سوريا، الأردن، العراق، فلسطين ولبنان) وإنهاء الاحتلال الفرنسي والبريطاني لهذه الدول.

ثانيا: قيام دولة كردية تجمع أكراد العراق وسوريا وتركيا.

ثالثا: معارضة تأسيس إسرائيل.

وقال رافالديس: «هو ليس عربيا، لكن لا يمكن إنكار دوره في ظهور القومية العربية. من جانب آخر، ساعد الخلافة التركية على الاستقرار في الشرق الأوسط لأكثر من ستمائة سنة. وها هو الشرق الأوسط يغلي، بعد أن ساعد لورانس العرب على هزيمة الأتراك». لم يدافع رافالديس عن احتلال الأتراك للعرب، لكنه تحدث من زاوية الحتمية التاريخية.

واشترك في النقاش شين تيليز، مساعد رئيس تحرير صحيفة «فالي نيوز» (ولاية كاليفورنيا). شاهد، في الشهر الماضي، فيلم «لورانس العرب» المنقح (عن دور البريطانيين في الشرق الأوسط)، ثم شاهد، في الأسبوع الماضي، فيلم «أرقو» (عن دور الأميركيين في الشرق الأوسط، بعد ذلك بسبعين سنة. خاصة الثورة الإيرانية سنة 1979 بقيادة آية الله الخميني. وأسر دبلوماسيين أميركيين. وتهريب بعضهم في مغامرة مثيرة).

وكتب تيليز: «الفيلم القديم والفيلم الجديد يصوران التدخل الغربي في الشرق الأوسط. ويساعدان على فهم اشتراكنا، نحن الأميركيين، في حربي العراق وأفغانستان». وأضاف: «مثل هذين الفيلمين يقدمان أكثر من نتيجة. كل فيلم يقدم أولا: قصة مثيرة ربما فيها مبالغات. ثانيا: قصة أساسها تاريخي يساعدنا على فهم التاريخ. ثالثا: فرص للتأمل والتفكر في علاقتنا مع تلك الشعوب».

غير أن الصحافي الأميركي دانيال غرينفيلد شذ عن غيره، ودافع عن لورانس، ليس بالضرورة لتحالفه مع العرب، ولكن لأنه استغل العرب، وساعد على دخول بريطانيا وفرنسا الشرق الأوسط (بعد نهاية الخلافة التركية). كتب: «الذين يعتقدون أن فيلم (لورانس العرب)، وغيره من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، والزيارات الصحافية، والعلاقات الثقافية، تساهم في تحسين العلاقات بين الشرق المسلم والغرب المسيحي - هم واهمون». وأضاف: «لو بقي البريطانيون في الدول العربية بعد هزيمة الأتراك، كانت الدول العربية اليوم أكثر استقرارا، لأن الإمبراطورية البريطانية تعرف ما تعمل». وأضاف: «عكس ذلك، (باكس أميركانا) (السيطرة الأميركية) ليست إمبراطورية، وليست سيطرة، وليست أي شيء».

وهكذا، يظل وسط الأميركيين من يؤيد، ليس فقط سطوة الإمبراطورية البريطانية، ولكن، أيضا، «الإمبراطورية الأميركية».