محمود الذوادي: حضور الإسلام السياسي اليوم مشروع

قال لـ «الشرق الأوسط» إن الإسلاميين هم أكثر النخب قربا من قطبي الهوية العربية الإسلامية.. اللغة والدين

محمود الذوادي
TT

يعد عالم الاجتماع محمود الذوادي من الباحثين القلائل الذين تنضوي أفكارهم وأطروحاتهم في إطار مشروع واضح المعالم والاتجاه والرؤية؛ حيث تدور أغلب أبحاثه حول مسألة الهوية والحداثة وما يتفرع عنهما من إشكاليات وتساؤلات ذات بعد سوسيولوجي بالأساس.

في هذا الحوار، سنتحدث مع مبتكر نظرية الرموز البشرية عن آخر إصداراته وتحديدا كتابه «المقدمة في علم الاجتماع الثقافي برؤية عربية إسلامية» الذي سيصدر خلال أيام منقولا إلى اللغة الإنجليزية، وكذلك مواقفه من حالة الانشطار الآيديولوجي والاجتماعي التي تشهدها تونس ما بعد الثورة:

في كتابكم الجديد الذي يحمل عنوان «المقدمة في علم الاجتماع الثقافي برؤية عربية إسلامية» هناك تركيز على دراسة ما يسمى الرموز البشرية.. كيف ترون مكانة الدين اليوم في تركيبة الرموز الثقافية للفرد العربي المسلم خصوصا بعد تولي النخب الإسلامية الحكم في بلدان الثورات؟

* في البدء لا بد من التعرف إلى مفهوم الرموز البشرية؛ إذ هي كل تلك المعالم التي تميز الإنسان عن غيره من الأجناس الأخرى؛ وهي بالتحديد: اللغة المكتوبة والمنطوقة، والفكر، والدين، والمعرفة، والعلم، والقيم، والأعراف الثقافية.

لكن منظومة الرموز الثقافية هي في واقع الأمر حصيلة اللغة عند الإنسان؛ إذ لو لم توجد اللغة بشكليها المنطوق والمكتوب عند الإنسان لما وجدت بقية عناصر الرموز البشرية، لذا، سميت اللغة أم الرموز الثقافية جميعا.

أما بالنسبة إلى أهمية الدين في منظومة الرموز البشرية، فهو يحتل المرتبة الثانية من حيث أهميته بالنسبة للفرد والمجتمع؛ إذ توصل علماء الاجتماع إلى أن الهوية الجماعية للشعوب والمجتمعات يؤثر فيها عاملان ثقافيان رئيسيان؛ وهما اللغة والدين، وينطبق هذا الأمر على وضع العالم العربي الإسلامي؛ إذ إن ما يوحد ما بين الخليج والمحيط منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا هو في المقام الأول انتشار الدين الإسلامي في هذه البقاع وتبني اللغة العربية لغة أغلبية سكان هذه المنطقة، ووفقا لما سبق ذكره، يمكن القول إن حضور الإسلام السياسي اليوم في المجتمعات العربية بطريقة بارزة في الحكم وفي المشاركة الفعلية في حركية المجتمعات العربية هو حضور مشروع بوصف الإسلاميين هم أكثر النخب السياسية في العالم العربي قربا من قطبي الهوية العربية الإسلامية: اللغة والدين.. ومن ثمة، فتأهل المدافعين عن اللغة العربية وعن الإسلام للحكم هو نوع من تطبيع مسيرة الحكم في هذه المجتمعات، أي أن يقع إنهاء الكذب وخداع النفس الذي مارسه بعض حكام المجتمعات العربية الذين يدّعون احترام اللغة العربية والدين الإسلامي في دساتير بلدانهم، ولكنهم لا يمارسون ذلك فعليا لعقود عديدة في مجتمعاتهم.

هناك من يعيب عليكم الإلحاح على مسألة المنظور العربي الإسلامي وسيطرتها بوصفها معيارا يتحكم في كيفية تعاطيكم مع الفكر السوسيولوجي الغربي عموما؟

- الملاحظة الأولى بهذا الصدد أن كل بحوثي ومفاهيمي وإطاري الفكري قد انطلقت دائما من الملاحظة والتحليل العقلي للظواهر. وبعبارة أخرى، فإني لا أبدأ في تناول الظواهر التي أدرسها برؤية إسلامية، وإنما تأتي الرؤية الإسلامية أحيانا بعد أن يقع البحث والتحليل موضوعيا وميدانيا في الظواهر المدروسة. وهذا يشبه إلى حد كبير ما قام به ابن خلدون، فعلى سبيل المثال، درس ابن خلدون سلبيات المجتمعات العربية في عهده التي ساد فيها الترف، وأظهر بالتفصيل كيف أن الترف يؤدي إلى انهيار المجتمعات والعصبيات وفساد الأخلاق، ثم يقوم بعد ذلك بتأكيد ملاحظاته وتدعيمها بالنص القرآني. ومن هنا، فأنا لا أرى مانعا من استعمال منهجية العقل والنقل في العلوم الاجتماعية العربية. وأعتبر أن النقل يمثل سندا مهما في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية؛ فقد شد انتباهي ظاهرة خلود الفكر البشري: لماذا يكتب للفكر البشري الخلود أحيانا بعد وفاة صاحبه؟

إن العلوم الاجتماعية الغربية لا تثير مثل هذه الظاهرة مثلا، وليست لها الأدوات المنهجية في البحث فيها. ومن هنا، تترك الظاهرة على أنها مسألة فلسفية لا أكثر ولا أقل، بينما الأمر ليس كذلك؛ إذ تحتاج هذه الظاهرة إلى تفسير، فقمت باستعمال مفهوم الرموز البشرية للوصول إلى تفسير مقنع للظاهرة، وعند ذلك رجعت إلى أن الرموز البشرية التي يختص بها الإنسان هي في تأويلي نفخة روحية ربانية، وهذا يبرر ترشح الفكر البشري للخلود بسبب أن الرموز البشرية أصولها خالدة.

في كتابكم «التخلف الآخر» تفطنتم إلى ظاهرة عولمة أزمات الهوية الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث وذلك بالإشارة إلى مسألة التغريب ومظاهر الذوبان في ثقافة الآخر. ألا تعتقد أننا اليوم إزاء نوع آخر من التخلف الآخر يتصل بالذوبان في الماضي والأفق الفلسفي؟

- عندما نتحدث عن التخلف الآخر بوصفه مفهوما توصلت إليه، فإنه من المهم إبراز كونه يشمل الكهولة والشباب، وبالتالي هنا تتحدث عن التخلف الآخر بوصفه ظاهرة جماعية تمس مختلف الفئات العمرية، بينما التخلف الآخر الذي تشيرين إليه في السؤال، هو على الأقل في المجتمع التونسي تخلف محدود من حيث الانتشار. فمعظم شباب تونس اليوم لا يزالون ضحايا التخلف الآخر؛ بمعنى تغليب ثقافة الآخر على الذات، وفي طليعة ذلك الانحياز الواضح إلى اللغات الأجنبية.

بصفتك عالم اجتماع.. كيف تقاربون الصراع الآيديولوجي بين النخب التونسية اليوم؟

- الشيء الواضح أن مقولة الرموز البشرية تعلن وتؤكد أن الإنسان هو كائن ثقافي بالطبع؛ فعند الحديث عن صراع النخب اليوم في تونس، فإنه يفسر بسهولة كبيرة على أنه نتيجة لثقافتين على الأقل مختلفتين عند هذه النخب.

فالنخب الحداثية المغتربة كانت لها السيطرة الكاملة والنفوذ منذ الاستقلال على مسيرة المجتمع دون أن يسمح رسميا بانتقادها وإظهار اغترابها عن هوية هذا الشعب وهي الهوية العربية الإسلامية. وبعد الثورة أصبحت تلك النخب في موقع مختلف؛ ليست بيدها السلطة والنفوذ للاستمرار في إدارة المجتمع نحو الحداثة المشوهة التي يمكن أن نضرب لها مثلا من المجتمع التونسي: يفتخر الحداثيون بكل ما يأتي من تكنولوجيا الغرب ويودون تبنيها بالكامل، لكنهم مع الأسف هم لا يتقنون استعمال التكنولوجيا الحديثة كما يفعل أصحابها الصانعون. إن أغلبية التونسيين الحداثيين وغيرهم لم يتعلموا الطباعة على الحاسوب بأصابعهم العشرة في الوقت نفسه؛ بل هم يطبعون بالأصبع الواحد، وهذا في نظري تشويه للحداثة. هذا المثال يؤكد أن الحداثة الحقيقية تشترط الاستعمال المتقن لتكنولوجيا الحداثة..

وبالعودة إلى الحديث عن النخب الموصوفة بالحداثة المشوهة، فإنه قد حان الوقت كي تبقى تلك النخب حداثية؛ ولكن بشروط جديدة تؤصل به انتماءها الحقيقي للهوية العربية والإسلامية، وهي هوية التونسي، وذلك بإنهاء مزالق التخلف الآخر وجعل اللغة العربية ليست لغة ينص عليها الدستور فقط وإنما تتبناها تلك النخب بطريقة كاملة ممارسة وسياسة كما تفعل النخب ذات التوجه الحداثي في المجتمعات المتقدمة مثلما هو الأمر في مقاطعة كيبيك بكندا؛ حيث نادت الفائزة برئاسة الحزب الانفصالي في الانتخابات الأخيرة في كيبيك بأن لا يقع انتداب المترشحين الذين لا يحسنون اللغة الفرنسية في الوظيفة العمومية.