تفكيك الأصولية والتعصب الديني

كتاب فرنسي عن حياة مونتيني أحد كبار مفكري عصر النهضة

غلاف «مونتيني»
TT

مؤلفة هذا الكتاب هي مادلين لازار أستاذة الآداب وفكر عصر النهضة في السوربون، كما أنها رئيسة الجمعية الدولية لأصدقاء الفيلسوف الكبير مونتيني. ومنذ البداية تقول لنا بأنه كان أحد كبار مفكري عصر النهضة الأوروبية بالإضافة إلى رابليه، وإيراسموس، وتوماس مور، وجيوردانو برينو، وآخرين كثيرين. ولا يمكن فهم فلسفة ديكارت جيدا من دون الاطلاع على فكره لأنه أثر عليه كثيرا. ومعلوم أن ديكارت أتى بعده مباشرة: مونتيني في القرن السادس عشر وديكارت في السابع عشر. ويمكن اعتبار مونتيني أحد حكماء الغرب كله وليس فقط فرنسا. وذلك لأن الدراسات المكرسة له كثيرة في كل اللغات الأوروبية. وقد اتسم فكره بالعمق، والمرونة، والاستخفاف بمظاهر الحياة الدنيا التي لا تستحق أن نهتم بها أكثر مما يجب، أو نتكالب عليها إلى كل هذا الحد.

ثم تقدم المؤلفة لمحة عامة عن حياة هذا المفكر الفذ وتقول: لقد ولد مونتيني في 28 فبراير (شباط) من عام 1533 في مدينة بوردو الواقعة جنوب غربي فرنسا. وفيها مات عام 1592 عن عمر يقارب الستين عاما. وكان مفكرا ورجلا سياسيا في ذات الوقت. وبالتالي ففكره ليس تجريديا أو نظريا وإنما هو مرتبط بالممارسة العملية المحسوسة. وكان ينتمي إلى عائلة نبلاء أرستقراطيين يمتلكون الأراضي والقصور في منطقة بوردو الجميلة المليئة بالبساتين وكروم العنب.

وقد زرناها وفتنا بها عام 1978 عندما كنا طلابا نحظى بمنحة فرنسية. سقيا لتلك الأيام، أيام الدهشة والمفاجأة واكتشاف الحضارة الفاتنة: جنة الله على هذه الأرض. هذا وقد تلقى صاحبنا مونتيني في قصر والده تربية ليبرالية وإنسانية في ذات الوقت. بمعنى أن تربيته لم تكن متزمتة ولا أصولية على عكس ما كان شائعا في عصره.

ومعلوم أن عصره ـ أي القرن السادس عشر ـ كان عصر الحروب الطائفية والمذهبية في كل أنحاء فرنسا. فقد اندلع الصراع الهائج بين المذهبين الأساسيين للمسيحية آنذاك: أي المذهب الكاثوليكي والمذهب البروتستانتي. وحصلت مجازر كبيرة عندئذ بين الطرفين ومن أشهرها مجزرة سانت بارتيليمي التي ذهبت مثلا. كانت الأوضاع الفرنسية آنذاك مثل الأوضاع العربية حاليا. ولذلك أقيس المسافة بيننا وبينهم بأربعة قرون. أعرف أنني سأزعج الكثيرين بهذا الكلام. ولكن هذه هي الحقيقة.

وبالتالي فإن فلسفة مونتيني لا يمكن فصلها عن سياقها التاريخي وأهم الأحداث التي حصلت عندئذ. ثم تردف المؤلفة قائلة: لقد اهتم فيلسوفنا بالدراسات النهضوية والإنسانية أي الدراسات التي تركز على أعلام الفكر والأدب في العصور اليونانية والرومانية القديمة. ومعلوم أنها انتشرت بشكل واسع في القرن السادس عشر كرد فعل على الدراسات اللاهوتية والكنسية الظلامية التي كانت سائدة في القرون الوسطى.

بهذا المعنى فإن مونتيني كان نهضويا بامتياز. وقد شغف بدراسة فيرجيل وشيشرون وغيرهما من كبار شعراء وأدباء اليونان والرومان. ثم ابتدأ مونتيني بتأليف كتابه الكبير «المقالات» وهو كتابه الوحيد تقريبا، أو قل إنه الكتاب الذي اشتهر به. وكان عمره عندما ابتدأ بتأليفه سبعة وثلاثين عاما. وقد ظل يكتب فيه حتى مات. وبالتالي فهو كتاب العمر. ولا يزال هذا الكتاب يدهش الدارسين حتى الآن بسبب عمقه والجواهر الفكرية التي يحتوي عليها.

وكان هدفه في هذا الكتاب أن يدرس الإنسان في كل حالاته لكي يكتشف نقاط قوته ونقاط ضعفه ولكي يعرف نفسيته وردود فعله المختلفة. وقد طبق هذه الدراسة التحليلية على نفسه أولا لأنه إنسان من جملة خلق الله. وبالتالي فما ينطبق عليه ينطبق على غيره من بني البشر رغم خصوصية كل إنسان. ولكن هناك صفات مشتركة تجمع بين البشر وهذه الصفات هي التي يدرسها علم الإنسان أو ما يدعى باللغات الأجنبية: الانثروبولوجيا. وهذا يعني أن مونتيني كان من أوائل الذين أسسوا هذا العلم في الغرب على أثر ابن خلدون. وقد قال في مقدمة كتابه شارحا مشروعه الكبير: لقد أردت في هذا الكتاب أن أعري نفسي على حقيقتها من دون مساحيق تجميلية أو اصطناعية.

وهذا ما فعله جان جاك روسو بعده بقرنين عندما ألف كتاب «الاعترافات» الشهير وتحدث عن حياته الشخصية والحميمية بشكل جريء جدا دون أن يخفي شيئا من نواقصه أو عيوبه.

وقد نجح مونتيني في مشروعه مثلما نجح روسو بعده لأنه كان صادقا ولم يحسن صورته ولم يزيفها أو يمجدها كما يفعل الناس عادة عندما يتحدثون عن أنفسهم أو يكتبون مذكراتهم. لا. لقد وصفها بشكل موضوعي، بارد، وكأنه يتحدث عن شخص آخر. ولم يشأ أن يكذب على الناس في عصره ولا على الأجيال القادمة. ولهذا السبب فإن تأثير مونتيني على الأدب الفرنسي بل والأوروبي بل وحتى العالمي كان حاسما من هذه الناحية. فصدقه الكامل في الكتابة فاجأ الجميع بصراحته وعدم مجاملته لنفسه. من منا نحن الكتاب العرب يتجرأ على تعرية نفسه على هذا النحو؟

وعندما اشتعلت الحرب المذهبية في فرنسا، لم يتصرف مونتيني كشخص متعصب وإنما كوسيط معتدل بين الطرفين. وهكذا رضي عنه حتى أتباع المذهب المضاد لمذهبه. لماذا؟ لأنه بحكمته العميقة عرف كيف يتجاوز الأحقاد الطائفية والمذهبية ويتعالى عليها. وكان ذلك أمرا صعبا جدا في تلك الفترة المليئة بالأحقاد الهائجة.

ولكنه عرف في الوقت ذاته أن عموم البشر لهم عقول ضيقة ومتعصبة بطبيعتها. وبالتالي فلا فائدة ترجى منهم إلا بعد أن يتعلموا ويتطوروا وتتهذب أخلاقهم وتخف حزازاتهم وعصبياتهم إلى حد النصف على الأقل. وهذا يتطلب وقتا كثيرا.

وكان مونتيني ذا كرامة كبيرة ويحترم نفسه إلى أقصى الحدود. والدليل على ذلك أن ملك فرنسا طلب منه أن يشتغل كمستشار كبير عنده في القصر. ولكنه رفض الطلب بأدب وقال له: سأفعل كل ما بإمكاني لإصلاح أمور البلاد والتقريب بين المذاهب والطوائف ولكني لن آخذ فلسا واحدا على ذلك. فاسمح لي، يا جلالة الملك، أن أبقى في بيتي. فقد أنعم الله علي بما فيه الكفاية من المال والرزق، ولست بحاجة إلى المزيد. ولكن الكتاب والشعراء الآخرين كانوا يتزاحمون على بلاط الملك ويتمنون من كل قلبهم أن يستقبلهم في قصره أو أن يستقبلهم حتى حاجبه! أما مونتيني فكان يعرف أن كل ذلك عابر وزائل وأن كل مظاهر هذه الدنيا لا تساوي شيئا يذكر.

ثم تردف المؤلفة قائلة: والواقع أن مونتيني لم يكن فيلسوفا بالمعنى الاختصاصي أو الحصري للكلمة، فهو لم يبلور نظاما فلسفيا كما فعل ديكارت مثلا. وإنما قام بتحليل الذات البشرية في أعماق أعماقها لكي يعرف سر دوافعها والغرائز التي تحركها. يضاف إلى ذلك أن مونتيني كان شكاكا من الطراز الأول، ولم يكن يثق بالعقليات الدوغمائية السائدة في عصره.

فقد لاحظ مثلا أن الكاثوليكي واثق من صحة عقيدته كل الوثوق، وأن البروتستانتي، عدوه اللدود، يعتقد الشيء نفسه فيما يخص عقيدته. ولهذا السبب فإنهما يتحاربان حتى الموت. ثم لاحظ أن لا أحد منهما يطرح على نفسه هذا السؤال البسيط: وماذا يحصل لو كان مذهب الآخر يحتوي أيضا على الحقيقة؟ لماذا أعتقد أن مذهبي هو وحده الذي يمثل الحقيقة المطلقة وأن مذهب خصومي هو الخطأ المطلق؟ ألا يعتقدون هم الشيء نفسه فيما يخصهم؟ ألا يعتبرونني على خطأ وضلال مثلما أعتبرهم أنا؟ ألا يكفرونني مثلما أكفرهم؟

كل يؤيد دينه

يا ليت شعري ما الصحيح

ذكرت ابن خلدون وكان الأفضل أن أقول بأن المعري هو أستاذ مونتيني الأول.

ثم يردف هذا المفكر العبقري قائلا: وبالتالي فلماذا لا أحاورهم بدلا من أن أقتلهم أو يقتلونني؟ هذه هي بعض الأسئلة التي كان مونتيني يطرحها. وعندما درس كل المذاهب الدينية السائدة في عصره اكتشف أنها كلها تقوم على الدوغمائية والتعصب والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة أو احتكارها لوحدها. وعن هذا الاعتقاد الأعمى ينتج التعصب الطائفي أو المذهبي. عنه ينتج القتل والذبح على الهوية. ولذلك نفر مونتيني من كل هذه الانغلاقات المذهبية والطائفية. ثم رفضها رفضا قاطعا وأصبح يخاف منها ويحذرها أشد الحذر. بل وأصبح يرى فيها أكبر خطر على حرية الفكر ومستقبل البلاد.

ولكن المشكلة هي أن كرهه للدوغمائية العقائدية دفعه إلى الارتماء في أحضان الشك. وربما بالغ في الشك والارتياب أكثر من اللزوم. ويعترف مؤرخو الفكر بأنه كان الأستاذ المباشر لديكارت من هذه الناحية. بل إن ديكارت نفسه يعترف بذلك. وبالتالي فلولا مونتيني لما كان ديكارت. ومعلوم أن هذا الأخير اتخذ الشك كوسيلة للوصول إلى اليقين. وسار على نهج أستاذه مونتيني الذي كان يدعو تلامذته إلى الشك بكل الأفكار والعقائد الموروثة السائدة وليس القبول بها بشكل تسليمي أعمى.

كما دعاهم إلى تمحيصها وغربلتها بشكل دقيق وصارم من أجل تفريق الصالح عن الطالح فيها. وهذه هي المنهجية العلمية التي سيطرت بعدئذ على أوروبا وجعلتها تتقدم وتتفوق على جميع شعوب العالم التي كانت مستسلمة ليقينياتها القديمة ونائمة عليها نوم الدهور. انظر الوضع المزري والمؤلم للعالم الإسلامي حاليا.. بهذا المعنى فإن مونتيني هو أستاذ الغرب كله قبل ديكارت بل إنه أستاذ ديكارت والغرب في آن معا كما ذكرنا. فمذهب الشك الذي يؤدي إلى اليقين هو من أفضل المذاهب إن لم يكن أفضلها.

وهو الذي يعطي نتائج إيجابية في مجال الفكر والممارسة العملية. وأما أولئك الجامدون المتحنطون فكريا فلا خير يرجى منهم لأن عقليتهم لا تعرف الشك المنهجي. ولهذا السبب فهم عادة متعصبون جدا لأنهم يصدقون كل ما يقوله لهم آباؤهم وأجدادهم وكهنتهم وشيوخهم دون أي تشغيل لعقولهم، ودون أي تمحيص. وعن هذا اليقين القاطع بامتلاك الحقيقة المطلقة ينتج التعصب القاتل. ولذلك قال نيتشه عبارته الشهيرة: ليس الشك، وإنما اليقين، هو الذي يقتل!

ثم تختتم المؤلفة كلامها قائلة: لا ريب في أن مونتيني بالغ في الشك والتشاؤم بالطبيعة البشرية. ولكن لحسن الحظ فإن القدر أرسل لفرنسا بعده ديكارت مباشرة لكي يخفف من شكه ولكي يعيده إلى الصراط المستقيم. فالشك إذا ما زاد عن حده أوقعنا في متاهات الحيرة والبلبلة والإحباط الشديد بل وحتى الشلل. وبالتالي فبعد أن نقرأ مونتيني ينبغي أن نقرأ ديكارت، وإلا فإن قراءتنا ستكون ناقصة.