«حلم حقيقي».. موسم الهجرة إلى الشرق

تهديم مقومات الهوية في رواية لمحمود الريماوي

TT

عن دار «التنوير» في بيروت، صدرت مؤخرا الطبعة الثانية من رواية محمود الريماوي «حلم حقيقي». وكانت الرواية صدرت العام الماضي (2011) بطبعة أولى عن مجلة «دبي الثقافية».

تعيد هذه الرواية القصيرة إلى الأضواء موضوع «الهجرة» الذي فتح رواد النهضة والتنوير أبوابه منذ نحو قرن مضى على الأقل، من دون أن تكون هناك علاقة فنية أو موضوعية بين هذه الرواية وتلك البدايات، بما فيها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، الصادرة للمرة الأولى قبل زهاء 46 عاما. على أن الفرق مع رواية الريماوي يأتي من زاوية معالجة الأحداث، ومن منطق الرواية ثم من رسالتها. «حلم حقيقي» تخلو تماما من شخصيات عربية، فهي تدور حول حياة الشاب مينو، وهو صحافي من عاصمة بنغلاديش دكا، والصدفة المهنية التي وضعته وجها لوجه أمام مافيا الاتجار بأعضاء بشرية.

من خلال هذا المحور الأساسي يتفرع محوران وهما عن رحيم، فني الأشعة الانتهازي الذي يفشل في اختراق جدار الأخلاق العامة والفوارق بين الطبقات، ثم يفكر في الهجرة بعد انكشاف أمره وفقدانه لوظيفته، وخالد مشتاق المدون الذي يكشف المستور، ويفضح للصحافة لعبة الأطباء والخبرات الأجنبية، وهو الذي يشكو من إعاقة جسدية تمنعه من المشي على قدميه، لكن ملكاته الذهنية تعمل بطاقة كبيرة.

وكم ينطبق ذلك على ما يحصل في منطقتنا.. والإشارة هنا لمسألة تفكيك الوحدة العضوية للذات، وتهديم مقومات الهوية الفعالة. وهو ما يصفه خالد مشتاق بعبارة: «أحوالنا الواقعية، أحوالنا الصعبة البائسة» (ص 192)، هنا التأكيد على الارتباط، أو تلازم الواقع مع المصاعب وكأنها تحصيل حاصل، مع حتمية التلازم بين السقوط والهزيمة.

من المدهش أن محمود الريماوي استثمر شخصياته الأساسية في هذه الرواية وسابقتها «من يؤنس السيدة؟» من انكفاء الأبطال على ذواتهم، بما يهيئ لهم فرصة الاكتفاء الروحي الذاتي، بما في ذلك الشخصية «السلبية» رحيم (الشخصية الثانية في «حلم حقيقي»)، الذي يقول إنه «لا يستورد المبادئ من الخارج، ولكن يقطفها من بستانه أو من حديقة منزله» (ص 78). رحيم أقرب إلى خانة المتعصبين قوميا. وفتح ذلك الباب أمام الامتحان الأخلاقي والفني للشخصيات: طريقة تمفصلها مع الأحداث وأساليب تفكيرها، علما بأن البطل الأول مينو والثاني ينتميان لدينين مختلفين. مع ذلك يلتقي مشتاق المسلم ومينو البوذي في الخلفيات والرؤى ذاتها، مثلما هو شأن أبطال رواية الريماوي السابقة «من يؤنس السيدة؟»، التي رسمت مصير سيدتين الأولى مسلمة والثانية مسيحية، تتحركان على الأرض نفسها.. وتواجهان مصيرا مشتركا.

عدا أن هذا العمل الذي هو رواية شخصيات ومواقف، هو رواية أمكنة أيضا، وبمنطق حضاري غير سياحي. لقد كان الاهتمام بالمكان من الداخل كما فعل غراهام غرين في أعماله المهمة المهاجرة التي تدور أحداثها في أدغال أفريقيا، أو في المناطق الساخنة والملتهبة من أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا، وخير مثال على ذلك رواية «الأميركي الهادئ»، ولكن مع فارق بسيط، أن غرين اقترب من الشرق بصفته انعكاسا لحضارة غريبة، وغريما في الوقت ذاته. بينما تألف المكان في «حلم حقيقي» من عدد محدود من الغرف والقاعات، ومن شوارع متكررة ومشاهد ضيقة في بلد قلما رحل إليه الرحالة والمبدعون. ولم تنل الساحات العامة والبيوت القدر المناسب من التفاصيل. وبصورة عامة ركزت الرواية على خيال البنغالي ومعارفه الاجتماعية المحبطة.

إن ما يجمع بين رواية غرين ورواية «حلم حقيقي» أكثر مما يفرق. فكلاهما اقترب من الشرق بشكل رحلة استطلاعية، أو مشاهدات ذات نزوع معرفي، وكلاهما اعتمد أسلوب التحري وحل ألغاز حضارة تتخبط في أزماتها.

ليست هناك رواية لغراهام غرين تخلو من حبكة بوليسية. ومن خلال البحث عن الحل واقتفاء أثر المجرم، تنكشف بالتدريج خيوط العقدة والجرائم الأخرى التي يطاردها الحق العام. ومنها مشكلة الفساد والتدهور الأخلاقي وانتشار الأمراض والأوبئة كالجذام والكوليرا، إلى آخره، ومعها تنكشف بالتدريج الرموز والمشابهات التي تربط بين فوضى الطبيعة، وعصاب الحياة النفسية، وتخلف الإدارة. ويبدو لي أن هذا ما فعله محمود الريماوي بأسلوب التحري الصحافي عن الأوبئة والمشاكل الصحية. وقد استفاد من هذه الحبكة في ربط الشخصيات بالمجتمع، وربط دراما الصراع النفسي بالأحداث. ونقل المشكلة من المعاناة مع لقمة العيش، إلى معاناة المجتمع بكل شرائحه مع أثقال الماضي.. سواء رواسب التربية الدينية أو تبعات التحديث.

إضافة إلى صدى المشكلة المعقدة التي عانى منها غراهام غرين في رواياته، وهي حالة النفي الإيماني لظواهر اجتماعية ضائعة وجوديا، بسبب الفرق في الخيارات بين المحافظة الدينية والإصلاح، فضلا عن مشكلة التحول بين المذاهب. كل ذلك وجد له صدى في «حلم حقيقي»، وأخص هنا الخاتمة المعلقة، حينما تنفصل المكونات والشخصيات من غير التوصل لقرار. هل يجب تغليب روح المواطنة على الإملاءات التي يفرضها الانتماء لشريحة من المجتمع؟.. وهو ما يعبر عنه مينو البوذي حيث إن الخلاف في الانتماء الديني لا يلغي الحق في المواطنة ولا الرابط الوطني المشترك، كما لا يمنع الشراكة لكن يمنعه من الاندماج والزواج بزميلته شيفالي الصحافية المسلمة (ص 212).

ولئن ذكر غراهام غرين في نهاية روايته الخمسينية الساحرة «نهاية غرام» على لسان الصحافي بطل الرواية: «ما كتبته كان عن الكراهية.. آه يا إلهي. لقد سُلبت مني أشياء عزيزة على قلبي بما فيه الكفاية» (ص 190)، فإن محمود الريماوي يذكر في نهاية روايته على لسان مينو العامل بالصحافة أيضا وهو يطلق تنهيدة حارة: «يا للهول، يا للهول» (ص 213). ثم يضيف على لسان الصحافية شيفالي قولها: «لقد تحدثت بلسان المجتمع ولم أعبر عن مشاعري. يا لخيبتي» (ص 213).

لقد تقاطعت الرواية مع مجمل أعمال غراهام غرين الاستشراقية، مع وضع خط أحمر تحت كلمة استشراق. ففي كل رواياته ابتعد عن الفانتازيا وشطط المخيلة، ولم يوظف ثقافة غيبية رغم نزعته الإيمانية. ولم يكن رومانسيا أو يصل به الغرور ليدعي أنه نبي ورسول مبعوث من الغرب المتقدم إلى الشرق المتخلف، وترك هذه المهمة المذمومة للورنس العرب مؤلف «أعمدة الحكمة السبعة»، فقد عمل من ضمن بنية خطاب واقعي ونفسي للبلدان التي كتب عنها. محمود الريماوي أحسن الالتزام بهذا الشرط الموضوعي، وبلغة الواقع المباشر كما بالمجاز. لقد كانت لروايته من ناحية المضمون بنية تتألف من عدة طبقات. وتحركت الشخصيات في فضاء عام عُني بالمشرق من وجهة نظر أبطال عاديين كانوا فريسة لظروفهم، ربما من جراء انفصال أسلوب تفكيرهم عن نظام الإنتاج ونمط الحياة السائد.

لكن إذا كان عذاب أبطال غرين مؤكدا وضروريا لأنه يدفع كفارة عن خطأ أصلي، فقد نظر مينو للانحرافات العامة في مجتمعه باعتبارها مصدرا للقلق والشك فقط (يقول: «كم أنت سوداوي يا مينو.. يا لك من افترائي».. ص 49). ويضيف أيضا: «القلق لا يُستأصل بعملية جراحية» (ص 154). ويقول مشتاق البطل رقم 3 في الرواية عن أجواء البلد: «يا لها من ظروف مريبة» (ص 139). وشتان ما بين الخطيئة ومجرد الشك.

لقد صمم غرين واقعه النفسي على ضوء مشاعر الخصام مع الذات العامة. وتعامل الريماوي مع ظرف غريب مفروض على أبطاله، وهو نفسه ظرف الإملاءات والقيود الاجتماعية.

وقدم غرين ضمانات للتأكيد على الجوهر الواحد لموسري الطبقة المتوسطة وأنانياتهم الخاصة، كما بين ذلك محمود منقذ الهاشمي من وجهة نظر مدينية خلال دراسته عن بطل «حضرة المحترم» لنجيب محفوظ. إنه سلوك قريب من التقتير في الإفصاح وفي الإنفاق، وهو ما يطيب لمحمود الريماوي الإسهاب فيه. ويدعم ذلك إعراب قل نظيره عن تشابه بقايا مجتمع العائلة التي دخلت في طور متحول انتقلت بموجبه لنمط إنتاج ادخاري صغير، تفرضه أخلاق النخبة بما تنطوي عليه من استغلال للطبيعة والاتجار بها، مع التمسك بالأرض والبيت. وهذا ضمن علاقات ليس مصدرها الكبرياء والزهو الاجتماعي، ولا الخلاف بين ضرورة الحرية وضغط المؤسسة، كما في أعمال غراهام غرين لا سيما «نهاية غرام» والتي أرى أنها رواية فاتنة عن التشرد والضياع في عالم حدوده الخطوط التي تفصل بين نظام الأفكار. ولكن كانت المشكلة في «حلم حقيقي» ناجمة عن التشوهات النفسية، وسوء أخلاق أغنياء الحرب كما هو حال شايلوك في رائعة شكسبير. وأضرب مثالا على ذلك بصورة التاجر الحاج قدير في الرواية (ص 118).

***

لم تنطو الرواية على قصة حب بين مهاجر من الشرق تحدوه الرغبة في الانتقام لحضارته، ولو في غرف النوم مع سيدة بيضاء ضعيفة مغرر بها. ولم تحاول أن تخلق توترا دراميا بين حضارة شرقية جريحة، وحضارة غربية تحمي نفسها بالقوة الناعمة، كما فعلت البواكير: «عصفور من الشرق» (1938) و«الحي اللاتيني» (1954) و«البيضاء» (1960).

لقد تحول الصدام هنا لصراع طبقي بين أغنياء حرب، وتجار بلا أخلاق، وفقراء يكافحون وسلاحهم ثروة قوامها الضمير والإحساس بالواجب الوطني. أو «خلاصة الروح الوطنية الصافية» كما يقول رحيم (ص 78). ونهض من وراء ذلك تناقض أساسي رسم خطا بين مكونات المجتمع من مسلمين وبوذيين.

ومن هذه النقطة بدأ محمود الريماوي ضمنيا في طرح الأسئلة على قارئه:

كيف نتغلب على موضوع التجزئة المستمرة أو تجزيء المجزأ (ص 48) والذي يخلق فرصة ذهبية ثمينة للمستعمر الذي إن لم يسرق الأرض، فإنه مستعد لسرقة أعضاء البشر الأصحاء؟.. وكيف نستطيع المضاهاة بين شراء الحياة بالدواء وبيع أعضاء ثمينة وضرورية من أجسادنا لضمان استمرار حياة أثرياء؟.. وبعبارة أخرى: كيف نبرر هذه التجارة، التي تحول الأطباء إلى تجار يبيعون الحياة لكل من يدفع الثمن؟

«حلم حقيقي» هي رواية الهجرة إلى الشرق، وعن بلد يتشابه مع الموطن الأصلي للمؤلف محمود الريماوي.. فهو من فلسطين، ومن مهاجري 1948، ولا يعرف عن موطنه شيئا إلا من خلال الوثائق وما تنبئ به عاطفته الوطنية. وفي الوقت نفسه يعاني مشكلة الضياع الوجودي، وألم الابتعاد عن المكان.

* ناقد ومترجم سوري