كيف خرجت أوروبا من العصور الوسطى؟

عصر النهضة أحيا علم الفصاحة والنحو وفنون الرسم والنحت والعمارة والموسيقى

غلاف «النهضة»
TT

يقدم لنا كتاب «النهضة»، وهو من تأليف البروفسور جيرالد شاكس مدير «مركز الدراسات العليا لعصر النهضة» في فرنسا، صورة دقيقة عن ذلك العصر المجيد الذي قطع بالبشرية الأوروبية خطوة كبيرة إلى الأمام باتجاه الحداثة والخروج من غياهب العصور الوسطى. ومنذ البداية يقول لنا ما معناه:

إن مفهوم عصر النهضة في معناه الأولي يدل على تلك الحركة الثقافية التي ظهرت في إيطاليا بداية القرن الرابع عشر قبل أن تنتشر في كل أنحاء أوروبا لاحقا في نهايات هذا القرن بالذات. ويرى البعض أن عصر النهضة يتوسط بين العصور الوسطى المسيحية والعصور الحديثة العلمانية والفلسفية.. وبالتالي فهو يقف بين بين.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن مفكري عصر النهضة كانوا ناقمين على العصور الوسطى المسيحية لأنها قضت على الفلسفة الإغريقية وجماليات الآداب الأسطورية. والواقع أن هؤلاء المفكرين كانوا يشعرون بأنهم يولدون من جديد بعد أن خرجوا من ظلاميات الكهنة واكتشفوا آداب الإغريق والرومان وفلسفتهم. وهي آداب كانت القرون الوسطى قد طمستها كليا تقريبا بحجة أنها وثنية، مادية، إلحادية. وقد رفضنا نحن العرب ترجمتها أيضا للسبب نفسه. ترجمنا الفلسفة ورفضنا الآداب اليونانية المليئة بالأساطير.

وربما كان بترارك أول مفكر وكاتب نهضوي (1304 - 1374). ومعلوم أنه كان منفتحا على آداب الإغريق والرومان كل الانفتاح. ولكنه في الوقت ذاته ظل مشدودا إلى المسيحية، عقيدة آبائه وأجداده. وبالتالي فقلبه كان مع الدين وعقله مع الفلسفة إذا جاز التعبير.

ويرى المؤلف أنه ظهر عندئذ مصطلح «الدراسات الإنسانية» معارضة «بالدراسات اللاهوتية» أو الدينية المسيحية. وكان المقصود بها الدراسات المتركزة على كبار أدباء وشعراء وفلاسفة العصور القديمة السابقة على المسيحية؛ مثل هوميروس، وأفلاطون، وأرسطو، وفرجيل، وشيشرون.. وعشرات غيرهم.

وبقدر ما كانت العصور الوسطى تهملهم لأنهم وثنيون، راح مفكرو عصر النهضة يهتمون بهم ويجعلون من عملية اكتشافهم ودراستهم أكبر رسالة لهم في الحياة. ولذلك شعر فلاسفة عصر النهضة بأنهم يعيشون مرحلة جديدة من التاريخ. لقد شعروا بأنهم يستيقظون على الحياة بعد نومة طويلة تشبه نومة أهل الكهف! من هنا فرحهم بالأشياء والبهجة الصاعدة من كتاباتهم.. فقد أتاحت لهم هذه الآداب الخروج من الاختناق اللاهوتي الكهنوتي.

وقد عبر عن ذلك أحسن تعبير مارسيل فيشان، أحد مفكري عصر النهضة، عندما قال: «أشعر بأني أعيش عصرا ذهبيا أعاد الفنون الليبرالية إلى النور؛ أي أعاد علم الفصاحة والنحو، وفن الرسم والنحت، وفن العمارة، والموسيقى». ومعلوم أن مارسيل فيشان كان من كبار فلاسفة عصر النهضة (1433 - 1499) ومن أكبر المعجبين بأفلاطون. وقد أسس المدرسة الأفلاطونية في إيطاليا أثناء عصر النهضة.

أما الكاتب الفرنسي رابليه (1483 - 1553) فكان من كبار مفكري عصر النهضة في فرنسا. وقد تحدث عن الفرق الكبير بين ظلمات العصور الوسطى والعصر الجديد المليء بالأنوار؛ أي عصر النهضة. ثم سادت هذه الصورة البشعة عن العصور الوسطى في الكتب المدرسية منذ القرن التاسع عشر وحتى أمد قريب في كل أنحاء أوروبا؛ بل وحتى في العالم العربي.

ولكن بعض المؤرخين احتجوا مؤخرا على هذه النظرة التبسيطية للأمور. وقالوا بما معناه: لا يمكن الزعم بأن العصور الوسطى كانت ظلامية كلها. لا يمكن الشطب على ألف سنة من تاريخ البشرية! فالواقع أنه وجد آنذاك بعض المفكرين الكبار المستنيرين بضوء العقل. وأكبر دليل على ذلك فلاسفة العرب من أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وابن رشد، وابن باجة، وابن عربي، والمعري، وأبي بكر الرازي.. الخ، وكلهم عاشوا في العصور الوسطى بحسب التقسيم الأوروبي لتاريخ الفكر. فهل يعني ذلك أنه ينبغي أن نحتقرهم أو نعدمهم؟

ومعلوم أن هذا التقسيم الزمني يتحدث عن ثلاثة عصور أساسية: العصور اليونانية - الرومانية القديمة (من القرن الخامس قبل الميلاد وحتى القرن الخامس بعد الميلاد)، ثم العصور الوسطى المسيحية الممتدة من عام 500 ميلادية إلى عام 1500 تقريبا، ثم العصور الحديثة التي دشنت بعصر النهضة نحو عام 1500 وحتى اليوم.

ولكن بما أن فلاسفة العرب المذكورين عاشوا قبل عام 1500 فإن هذا يعني أنهم كلهم ينتمون إلى مرحلة العصور الوسطى. فهل يمكن القول بأنهم كانوا ظلاميين متخلفين أو متعصبين كما توحي به هذه الصورة التبسيطية؟ بالطبع لا.

فهم لم يهملوا دراسة الفلسفة اليونانية؛ على العكس، ولم يهملوا العلم والعقل. وقس على ذلك بعض الفلاسفة المسيحيين الذين ظهروا في أوروبا بعد أن ترجموا أعمال فلاسفتنا وبنوا عليها. وكان من أكبر المعجبين بنا في عصر النهضة المفكر العبقري بيك الميراندولي الذي قال: «قرأت في بعض كتب العرب أن الإنسان هو أجمل وأروع شيء في الوجود..».

وبالتالي، فالعصور الوسطى لم تكن كلها ظلامية، وإنما كانت فيها بعض المنارات، أو بقع الضوء. ولكنها بشكل عام لم تكن مستنيرة، فاستنارة بعض العباقرة لا يعني استنارة عموم الشعب.

ويرى مؤلف الكتاب أن عودة مفكري عصر النهضة إلى الماضي البعيد، إلى فلاسفة اليونان والرومان وأدبائهم، لا تعني عودة رجعية ونسيان الحاضر والمستقبل. فالواقع أنها كانت عودة خلاقة؛ أي تهدف إلى تغيير الحاضر أو تجديد الحياة الحاضرة بكل جوانبها عن طريق استلهام العصر الذهبي للآداب اليونانية - الرومانية.. وبالتالي فقد كانت عودة إلى الوراء من أجل القفز إلى الأمام!

والواقع أن التحولات الفكرية الضخمة التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا مرتبطة بثلاثة أشياء: أولها الإصلاح الديني الذي حصل في النصف الأول من القرن السادس عشر على يد مارتن لوثر. وثانيها الحركة الإنسانية النهضوية التي تمثلت في العودة إلى الآداب القديمة؛ آداب اليونان والرومان وترجمتها. وثالثها الاكتشافات العلمية الكبرى التي حصلت في ذلك العصر على يد كوبر نيكوس وسواه. والواقع أن أولى العلائم والبشارات على ظهور عهد جديد للفكر والسلوك، انبثقت في إيطاليا منذ نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. ويمكن أن نضيف إليها الاكتشافات الجغرافية وتحسن الأوضاع الاقتصادية (انظر كريستوف كولومبوس واكتشاف أميركا).

وقد انعكس كل ذلك على الفكر. فنقد الفلسفة السكولائية الاجترارية التكرارية التي سادت العصور الوسطى كان عاما شاملا. وكان من أكبر نقادها الفيلسوف النهضوي الإيطالي لورينزو فالا (1407 - 1457). ومعلوم أن هذه الفلسفة كانت تسيطر على الفكر الأوروبي منذ أن تبنتها الكنيسة المسيحية وقدمت تركيبة توفيقية تصالح بين فلسفة أرسطو والعقيدة المسيحية.

ولذلك راح فلاسفة عصر النهضة يهتمون بأفلاطون أكثر من أرسطو من أجل تحجيم هذا الأخير. ولهذا السبب، أنشأ الأمراء الإيطاليون الأكاديمية الأفلاطونية للمفكرين النبلاء، وسلموا مقاليدها لمارسيل فيشان المذكور سابقا، وكان أول مترجم لأعمال أفلاطون، وكانت الفلسفة الإيطالية مليئة آنذاك بالشخصيات الإبداعية.

وفي خضم هذا الإبداع والابتكار، ظهر غاليليو (1564 - 1642) الذي شكل الأسس الراسخة للعلم الحديث؛ أي علم الفيزياء والفلك والرياضيات. ولولا ثورته العلمية لما كانت كل هذه الحداثة الرائعة التي نشهدها اليوم. ولهذا السبب نقول بأن عصر النهضة شكل خطوة كبيرة إلى الأمام؛ بل وكان الخطوة الأولى.

ومن أهم فلاسفة عصر النهضة الذين ساهموا في تشكيل الحداثة نذكر نقولا ميكيافليي (1469 - 1527) الذي اشتهر بكتاب «الأمير»، وهو الذي أسس علم السياسة بالمعنى الحديث للكلمة. نقصد بذلك أنه أسس الواقعية السياسية التي خلع اسمه عليها فأصبحت تدعى بالميكيافيلية. ولكن الكلمة اتخذت معنى سلبيا في الاستخدام الشائع، لأنك عندما تقول عن شخص بأنه ميكيافيلي فكأنك تقول بأنه وصولي، انتهازي.

ولكن هذا ليس صحيحا في الواقع، أو قل ليس كاملا لأن نظرية ميكيافيلي عن السياسة أوسع من ذلك وأكثر تعقيدا. ولكن يؤخذ عليه أنه فصل بين السياسة والأخلاق، ومن هنا اتهامه بالانتهازية. وبالتالي فالتهمة ليست باطلة كليا. ومن كبار فلاسفة عصر النهضة الذي مهدوا للحداثة يمكن أن نذكر جيوردانو برينو (1548 - 1600) الذي انتهى نهاية مأساوية. فقد حرقته محاكم التفتيش وقطعت لسانه لأنه شكك يف بعض العقائد المسيحية ولأنه تبنى النظرة العلمية للعالم والكون. وكان أكبر فيلسوف إيطالي في عصره. كان هذا المفكر يقول بأن معرفة الكون هي هدف الحياة الفلسفية، وكان يقول أيضا بأن هذه المعرفة غير ممكنة إلا عن طريق العقل والتجربة العملية المحسوسة. لهذا السبب اعتبره هيغل أحد مؤسسي الفلسفة الحديثة. ثم انتقلت النهضة الفلسفية إلى خارج إيطاليا؛ أي إلى البلدان الأوروبية الأخرى.

ولكن ذلك استغرق وقتا طويلا في الواقع. فانتشار النهضة في فرنسا، وإنجلترا، وهولندا، وألمانيا كان متأخرا بالقياس إلى إيطاليا حيث ظهرت لأول مرة. وذلك لأن التعليم القروسطي السكولائي كان مهيمنا على العقول.. وبالتالي، فالتفكير الليبرالي الحر لم يظهر إلا بصعوبة هناك. وقد ظهر في البداية على أيدي حفنة من الكتاب والعلماء من أمثال: إيراسموس، ورابليه، ومونتيني، وكوبر نيكوس، وكيبلر.