أدونيس الشاعر بين «الحقيقة والسراب»

كاتب جزائري يجلده مستعينا بآراء الآخرين

غلاف «الحقيقة والسراب»
TT

ربما لم يعمد باحث وناقد إلى ما عمد إليه الجزائري سفيان زدادفه من «نحر نقدي» لشاعر جعله موضوع كتابه «الحقيقة والسراب: قراءة في البعد الصوفي عند أدونيس، مرجعا وممارسة» بما اجتمع له، وجمع من «وقائع» و«إدانات» أخرج بها شاعرا كبيرا من دائرة الإبداع الحقيقي!...

وإذا كان الباحث قد بدأ النصف الأول من بحثه في «مدارات التصوف والشعر في الثقافة العربية الإسلامية» بداية نظرية، فإنه سيؤسس بها ومن خلالها لما سيتناوله في النصف الثاني من الكتاب، الذي تركز البحث فيه على «أدونيس ومرجعية التصوف»، و«التناص الأدونيسي: جدل المقدس والمدنس»، وفيهما سيجرد أدونيس من كل ما هو شائع عنه، أو معروف به من قبل نقاده وقرائه، سواء من مقدرة شعرية، أو فكر نقدي.

إلاّ أن «جلد» أدونيس لم يكن بسوط المؤلف، ولا «ذبحه» جاء بسكينه، وإنما عمد في هذا إلى الاستعانة الكلية بآراء الآخرين، فلم يترك واردة ثلب وردت في كتب الآخرين، ممن كتبوا قبله، إلا وأوردها، ولم يدع شاردة جاءت في مجلة أو صحيفة إلا وبلغها، معيدا تبليغها.. متخذا من هذه وتلك عماده، ومرجعه، فيما قدّم من قراءة للشاعر، سواء في الشعر وتناصاته، أم في الفكر ومرجعه ومرجعياته، وصولا إلى مواقفه التي وجدها «مواقف مقلِّدة» لا تنمّ عن أصالة رؤية وموقف، ولا تتمتع بخصوصية فيما تحمل من نظرة. وكما يبدو من سياق ما أورد (وقد اعتمد المكاثرة لتشديد التأكيد) أنه يتبنى أقوال القائلين فيما قالوا في أساسيات تكوين خطابه بشقيه: الشعري والفكري. حتى إذا بلغ به التتبع من رفعوا أدونيس، وارتفعوا به منزلة شعرية ومقاما فكريا، أورد ما قالوا، مع عدم الاقتناع منه بمقول القول، حتى بلغ الأمر به حدّ الاستخفاف بالبعض منها قائلين ومقولات! فبعد أن عرض في الفصل الثاني ما يتصل بـ«أدونيس ومرجعية التصوف»، متابعا ذلك من خلال كتابات الشاعر، بما فيها تنظيراته ومواقفه النقدية، فضلا عن آراء نقاده، التي اختار منها ما جاء «شارحا» و«كاشفا» عما تُبطن... نجده من بعد هذا يتجه نحو «التناص الأدونيسي»، حيث الفصل الثالث من الكتاب، وهو ما تراوح الموقف فيه من الشاعر بين «الجلد» و«الذبح» بغير سكّين، إذ لم يُبقِ لأدونيس شيئا مما قال أو كتب يخصّه «إبداعا شخصيا»، وإنما أعاده، مستعينا بآراء الآخرين، إلى «أصوله» و«مظانه» التي أخذ عنها من دون إحالة أو إشارة.. وإن كان قد أعاد الصياغة بكلماته هو، والتركيب بأسلوبه، والتشكيل على وفق ما يرى ويريد.. (هذا مع أن أدونيس كان أن دافع عن نفسه بالقول، من طرفه، إن «مسألة التأثر غير مهمة بحد ذاتها، ذلك أن التأثر قائم بوصفه ظاهرة تاريخية ترافق إبداعات الإنسان بشكل وثيق، وبوصفه ظاهرة كونية»، مؤكدا أن لا «شيء في الإبداع من لا شيء، وما في الذات مسكون بحضور الآخر، قليلا أو كثيرا، بشكل أو بآخر» كما جاء في كتابه «الصوفية والسريالية»...) إلا أن المؤلف يُحكم ردّه عليه محيلا، أولا، إلى النصوص القرآنية التي أعاد الشاعر نظمها، ومعيدا «نصوصه» تلك إلى أصولها.

فإذا ما خصّ بتأثير الشاعر الفرنسي «سان جون بيرس»، و«تناص» أدونيس مع نصوصه (وكان أدونيس قد اعترف بذلك في مقال له في مجلته «مواقف»، ودافع عن نفسه فيه من ناحيتي تماثل المعاني، ومفردات اللغة بينه وبين بيرس)، وجد من بين نقاده من يذهب إلى أن بيرس هو «الذي علّم أدونيس كيف يكتب قصيدة النثر، كما نقل إليه شيئا من ملحمتيه، ونظرته الكونية، وجلال أسلوبه، وجرأة صوره» (كما جاء على قلم ماهر شفيق فريد، وأكده نقاد آخرون مثل محمد بنيس وعبد الواحد لؤلؤة، وإحسان عباس)... بل هناك من يشير (كما أشار كاظم جهاد) إلى أن «هذا الإدغام لمقولات وجمل هائمة في التراث العربي والعالمي يخترق في الواقع، وبلا مبالغة، عمل أدونيس كله، ويكفي أمامه - كما يرى جهاد - أن يُعمل القارئ ذهنه ويستنفر ذاكرته الثقافية ليقع على العجيب من الأخذ، الذي يخلو أحيانا من كبير تمعّن بالقول المأخوذ..». (ص484) وتأتي الإشارة لتصيب مقتلا إلى ما أخذه عن «ر.م. البيريس» وكتابه «الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين»، فيثبته بنصه في كتابه «زمن الشعر»، من دون إحالة إلى المصدر أو إشارة!

وحتى محمد بنّيس، الذي يجد فيه المؤلف «محامي دفاع» عن أدونيس، لم يستطع تجاوز الإشارة إلى هذا، وإن حاول أن يجد له مخارج، سيجدها المؤلف ضعيفة وغير مقنعة.

وفي السياق ذاته، يأتي الحديث عن «رولان بارت» و«اقتحامه» كتاب أدونيس «كلام البدايات» في كثير مما جاء فيه، فيما أخذ عنه من أفكار وآراء (ص:494ـ495). ومع هؤلاء ترد أسماء أخرى إذا ما أعدنا إليها ما أخذه أدونيس عنها فلن نبقي له شيئا - وهذا ما فعله مؤلف الكتاب!.

وكذلك هو الأمر مع التراث الصوفي، والصورة الأوضح فيه صورة «النفري» الذي أخذ عنه ما يكاد يكون أخذا مباشرا (انظر ص:508ـ510)، وإن وجد المؤلف من يدفع ذلك باتجاه «التناص» لا «السرقة»، بينما يجد المؤلف، من خلال ما يعرض له عرضا وافيا، أن أدونيس قام بعملية «استرفاد شامل... من نص النفري». (ص518)

ومن النصوص وتطابقاتها إلى «المنهج» المتبع من قبل أدونيس في القراءة، إذ يجده «يستنسخ» المذهب الذي نزع «منزعا صوفيا إشراقيا» في الشعر الغربي، وما أُسس من منهج في النظر، لـ«يطبّقه على الصوفية العربية حرفيا»، مشيرا إلى أن أدونيس نفسه كان قد أقرّ بذلك في كتابه «الشعرية العربية». وفي هذا السياق يورد قول القائل (عدنان حسين قاسم) واصفا عناصر «ثقافته المستجلبة»، والتي وظفها «على نحو سديد ومحكم في اتجاه إلغاء ذاكرة الإنسان العربي، وتهديم واقعه الراهن، وفتح الطريق إلى مستقبل تتحقق فيه طموحاته الفنية من حيث كونها قيما تجريدية منفصلة عن الواقع المعيش». (ص546) ولا يختلف مع هذا، إن لم يكن متوافقا معه، ما يورده، في السياق ذاته، لكل من كاظم جهاد، وصلاح فضل - والأخير يشير في كتابه «أساليب الشعرية المعاصرة» إلى أن قصائد أدونيس تبدو «مؤلفة على هامش بُنى فكرية وأشكال فنية موروثة، سواء كانت من التراث العربي أو تراث منطقة البحر الأبيض المتوسط أو التراث العالمي»، مؤكدا أن هذا «الالتقاء مع هذه البنى الفكرية والشكلية يتراوح بين الإشارات البسيطة إلى صور حضارية وفكرية وتاريخية، وبين الاعتماد الكلي على هذه البنى بحيث لا يمكن فهم النص دون الرجوع إليها». (ص546ـ547)

إلى جانب هذا لا يهمل المؤلف «الرأي الآخر» الذي يمثله «تحالف» النقاد المغاربة (محمد بنّيس، وعبد العزيز بومسهولي، وسواهما)، والمشرقي كمال أبو ديب، مستعينين في دفوعهم بمصطلحات النقد الغربي الحديث التي تحمل ما اتهمَ به أدونيس على محمل آخر، وإن جاءت دفوعهم ضعيفة، وأسيرة الأطروحات الأدونيسية ذاتها، بحسب رأي المؤلف الذي يخلص إلى نفي «صوفية» أدونيس، بمعنى الانتساب إلى فكر وعقيدة.. بل يجده «يُقارب الموضوع المطلق مقاربة مناقضة في جوهرها الصوفية علما ورسما، وإن استعان بمعجمها التقني، صوتا ولفظا»، ما يجعله يرى فيها «صوفية حداثية، تقنية شكلية، أساسها السعي نحو المطلق والتجاوز والكشف الذي يحصل بقوة الفكر والنظر العقلي..». (ص575) ويذهب إلى ما هو أبعد حين يستخلص أن أدونيس أخذ «من الصوفية قشورها ومظاهرها وكلماتها، ووظف بعض شخصياتها، واقتبس بعض شطحاتها، واستعار معجمها وإيقاع لغتها»، نافيا عنه الوصول إلى جوهرها. وعلى هذا فهو يحشره في عداد «الفقهاء» في هذه المسألة.. مجرّدا آراءه من كونها تشكل «نظرية متكاملة، أو مشروعا فلسفيا»، وإن وصمه بالتطرف. والجميل، والموضوعي في الكتاب أنه لم يُطلق القول في الشاعر، شعرا وفكرا وتوجهات عقلية، على عواهنه، بل عزّز القول بالنص الذي يؤكده.

* ناقد عراقي