«الثورية» قدر السينما الجزائرية

في يوبيلها الذهبي تكريم لها في الشرق والغرب الجزائر: الخير شوار

لقطة من فيلم «وقائع سنين الجمر» الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان «كان» 1975
TT

من أوروبا إلى العالم العربي، مغربا ومشرقا، تتوالى التكريمات المخصصة للسينما الجزائرية، بمناسبتين مزدوجتين يتم الاحتفاء بهما، وهما «خمسينية الاستقلال» و«خمسينية السينما الجزائرية». فقد كرمت السينما الجزائرية عربيا، من «تطوان» و«قرطاج»، وصولا إلى «الدوحة و«أبوظبي». إنها السينما التي ولدت من رحم الثورة التحريرية، وتميزت بكثير من الأفلام التي تدور حول الموضوع نفسه، إلى درجة أنها عرفت بـاسم «السينما الثورية». بعد خمسين سنة، هل يمكن أن تتجاوز السينما الجزائرية الموضوع الثوري ونحن نشهد ميلاد أفلام جيدة ومشاريع جيدة في هذا الإطار؟

مع أن الجزائر تحتفل على مدار هذه السنة بـ«خمسينية السينما»، المصادفة لخمسينية استقلال البلاد، إلا أن السينما الجزائرية ولدت بالفعل قبل هذا التاريخ بسنوات قليلة، وذلك عندما اكتسبت تعاطف فنان كبير هو الفرنسي روني فوتي الذي التحق بصفوف «جبهة التحرير» الجزائرية في الجبال وصور فيلمه الوثائقي التأسيسي «الجزائر تحترق». وشكل هذا الفيلم الوجه السينمائي للثورة التحريرية، إلى جانب وجوهها الفنية والرياضية والعسكرية الأخرى. ولم تمض سنة 1957 حتى تشكلت النواة الأولى لخلية الإنتاج السينمائي للثورة التي ضمت أسماء سيكون لها شأن كبير في المستقبل، وهم: جمال الدين شندرلي، محمد لخضر حامينا وأحمد راشدي. وبقيت السينما الجزائرية الوليدة وثائقية - دعائية بالدرجة الأولى، ولم تتحول إلى روائية إلا مع مطلع الاستقلال، مع أفلام «الليل يخاف من الشمس» للمخرج مصطفى بديع سنة 1965. وفيلم «معركة الجزائر» الذي أخرجه الفنان الإيطالي الشهير جوليو بونتيكورفو والذي اعتبره المفكر الراحل إدوارد سعيد، واحدا من أفضل الأفلام السينمائية السياسية في العالم.

وبسرعة، نالت السينما الجزائرية «الثورية» سمعة دولية كبرى، ففي الوقت الذي أنجز فيه فيلم «معركة الجزائر»، جاء فيلم آخر هو «ريح الأوراس» للمخرج محمد لخضر حامينا، الذي اعتبره بعض النقاد العرب واحدا من أحسن 10 أفلام في تاريخ السينما العربية، وفاز في وقته بجائزة العمل الأول في مهرجان «كان» وبجملة من الجوائز الأخرى. ويعود المخرج نفسه (حامينا) ليحقق نجاحا غير مسبوق (وغير متبوع لحد الآن) عندما فاز فيلمه «وقائع سنين الجمر» بجائزة السعفة الذهبية لمرجان «كان» العالمي سنة 1975. وبقدر ما حققت السينما الجزائرية هذا النجاح بقدر ما بقيت أسيرة للأفلام المرتبطة بمرحلة الثورة التحريرية أو التاريخ الذي سبقها بقليل. وكان هذا الموضوع محور جدل لم ينته، من مدافع قائل إن ثورة بحجم ثورة الجزائر تستحق أكثر من تلك الأفلام ولم يقل بشأنها شيء، ومن رافض يقول بضرورة الاهتمام بالمواضيع الجديدة التي تهم أجيال الاستقلال.

لقد عرفت السينما الجزائرية عصرها الذهبي نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، عندما أنجزت كلاسيكياتها الكبرى، وكان من النادر أن يرى المشاهد فيلما خارج هذا الإطار إلا مع استثناءات قليلة جدا. وبرأي بعض النقاد، فإن فيلم «عمر قتلاتو» الذي أخرجه مرزاق علواش سنة 1977 كان يمكن أن يكون نقطة انعطاف كبرى من أجل الذهاب إلى سينما جديدة، لكن حدث ما لم يتوقعه أحد ودخل الفن السابع الجزائري نفقا طويلا، وتراجع الإنتاج، خاصة مع إغلاق قاعات السينما بداية من ثمانينات القرن الماضي. ورغم المحاولات الكثيرة لإنتاج أفلام خارج الإطار الثوري وبعضها ناجح، فإن هاجس الثورة عاد من جديد مع موجة إنتاج أفلام تتناول شخصيات ثورية على غرار مصطفى بن بولعيد وأحمد زبانا وغيرهما. وجاءت احتفالات خمسينية الاستقلال لتكرس هذا الاتجاه، ثم تأتي التكريمات في مهرجانات دولية في هذا الاتجاه أيضا. فهل «الثورية» هي قدر السينما الجزائرية؟

يقول الناقد الجزائري جمال الدين حازرلي لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أنه لا يمكن للسينما الجزائرية أن تتجاوز موضوع حرب التحرير إن كان معنى التجاوز هو توقف الحكي عن الثورة سينمائيا. ثم كيف يمكن لها ذلك وهي التي جاءت من رحم الثورة؛ فيصبح الأمر كأن يتنكر الابن لأمه؟»، وتابع حازرلي بالقول: «ثم إن الأفلام حول حرب التحرير ليست هي الطاغية على الإنتاج السينمائي، فلو قمنا بإحصائها، فسنجد أن الأفلام الأخرى، مثل تلك الاجتماعية، التي تناقش قضايا الشباب، والمرأة، والتراث، هي أكثر عددا. كما أن التوجه الحالي لدى الشباب الذي بات يصنع السينما الجديدة قد ابتعد عن موضوع الثورة بتسليطه الكاميرا على مشاكل عصره. هذا أمر طيب ومحبب، ولكن يجب، وليس من المطلوب أصلا، ألا يلغي التطرق لمواضيع ثورة التحرير، التي يمكن الآن التفكير في معالجتها بحرية أكبر وإبداع أفضل، وباستخدام المقاربات والأساليب الجديدة».

ويسأل حازرلي: «هل تجاوزت فرنسا، مثلا، الحرب العالمية الثانية في أفلامها وهي التي صنعت المئات والمئات من الأفلام حول المقاومة في مدينة باريس وحدها؟ رغم كونها لم تقاوم وحدها النازية. لماذا عندما يخص الأمر ثورة التحرير الجزائرية وجب علينا التفكير في تجاوزها؟».

لكن الناقد والإعلامي نبيل حاجي يرى الموضوع من زاوية مختلفة، فهو يقول لـ«الشرق الأوسط»: «جميل أن تحتفي أكثر من تظاهرة سينمائية في الوطن العربي وأوروبا بالسينما الجزائرية في هذه المناسبة، وأن تقدم إلى جمهورها مجموعة من الأفلام الكلاسيكية والمعاصرة التي تطرقت إلى موضوعات لها صلة بالثورة وكفاح التحرير الجزائري وقضايا الإرهاب وغيرها. لكن ما يحدث، زاد في نظري، من ترسيخ علاقة هذه السينما بالثورة التحريرية، بدل أن يحررها منها. ونحن نعلم أن هناك أفلاما كثيرة تطرقت إلى موضوعات جزائرية ذات طابع اجتماعي وإنساني»... وفي اعتقاد حاجي أن «المؤسسة الرسمية، وبسبب تمويلها مشاريع لها صلة بالتاريخ الثوري والتحرري في مناسبات بعينها، هو ما قيد المبدعين، من كتاب سيناريو ومخرجين بهذه الزاوية المحددة، أي: السينما الثورية. وليس أدل على ذلك، من أن أغلب ما أنتج تحت هذا العنوان (خلال 50 سنة) كان بمناسبة تاريخية محددة هو (الذكرى العشرين للثورة) أو مرور (ربع قرن على الاستقلال) وغيرها. واليوم بمناسبة خمسينية الاستقلال، تمول المؤسسة الرسمية (وزارتا الثقافة والمجاهدين) 10 أفلام روائية طويلة، و21 فيلما وثائقيا، ذات طابع تاريخي (ثوري) للاحتفاء بهذه المناسبة. وعليه، فإن تجاوز (السينما الجزائرية) حديثها عن الثورة غير وارد حاليا، ومرهون برغبات المؤسسات الحكومية في توظيف السينما (كما في الأمس) لتعزيز كيان النظام.

ناهيك بتطلعات جيل من المخرجين إلى تصفية حساباتهم الذاتية والعاطفية مع ما عاشوه خلال فترة الاحتلال الفرنسي تلك». ويضيف حاجي بالقول: «أخيرا، وحتى لا نستبق الأمور، فإن أغلب ما أنجز لغاية اليوم من أعمال، يفترض أنها تتحدث عن الثورة، ولكنها في العمق لا تحمل الشحنة الدرامية ولا الفنية المقنعة والمرغوبة في التعاطي مع هذا الماضي المؤجج بالأسئلة؟»

هل يمكن فصل السينما الجزائرية عن موضوع الثورة التحررية؟ إنه السؤال الذي تكرر مع مرور السنين، لكن الإجابة عنه اختلفت في كل مرة. وأصبح السؤال أكثر إلحاحا في احتفالات خمسينية الاستقلال التي هي أيضا احتفالية السينما الجزائرية، وكأن الطرفين وجهان لعملة واحدة.