جبرا.. كيف اجتمع روائياً مع منيف في «عالم بلا خرائط» ؟

بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لغيابه التي تصادف اليوم

جبرا إبراهيم جبرا (يمين) وعبد الرحمن منيف و غلاف «عالم بلا خرائط»
TT

في معظم الدراسات التي تناولت الأعمال الروائية لكل من جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف لم يتم التوقف فيها، إلا لماما، عند روايتهما المشتركة «عالم بلا خرائط» (1979- 1980) ما جعلها، على أهمية تجربتها الروائية، وأسلوب بنائها فنيا، من قبيل «الرواية الهامشية» التي، وبحسب هذا الصدود عنها (ولا أقول: الإهمال لها) لا تمثل، في نظر من تعاملوا معها على هذا النحو، شيئا ذا أهمية تذكر بالنسبة لمنجزيهما، وعلى ذلك فهي، وبمثل هذا الاعتبار، لا تشكل إضافة حقيقية لعمل أي منهما، في حين أنها بخلاف ذلك، فهي تجربة حرية بالقراءة، والتأمل في عالمها الروائي، وفي شخصياتها وما حملت من دلالات الحياة والفكر، وما مثلته، حركة، إزاء حركة الوجود الذي تحركت فيه، وماذا مثلت تلك الآفاق التي تطلعت إليها أو أطلّت منها، خصوصا أنها، بالنسبة للروائيين، كتبت في حقبة غير عادية من حياتيهما، الاجتماعية والروائية.

أقول هذا، أنا الحاضر ساعة ولادتها فكرة، والشاهد على كيفية الشروع بها، والطبيعة التي اتخذها منحى الكتابة فيها من قبل الروائيين، وعلى أي نحو تتابعت حتى اكتملت (وإن كان لي رأي شخصي بهذا كله لم أخفه عن جبرا في حينه.. فخالفني في أمر، وأكد لي ما ذهبت إليه في أمور أخرى تخص العالم الروائي، والشخصيات وما حملت من نظرة إلى العالم، وخصوصية كل منهما، جبرا ومنيف، في التعاطي معها، وفي تعيين مسارها الإنساني، متابعة لها، أو معارضة واعتراضا.. فضلا على اللغة الروائية لكل منهما، والكيفية التي جرت بها «تسوية الأسلوب»، إذا ما حددنا طبيعة ذلك لدى كل منهما.. (مما أجده جديرا بقراءة الرواية في ضوئه).

نأخذ هذا كله بالاعتبار النقدي - التحليلي ونحن ننظر إليها كونها:

- أولا، رواية لكاتبين مهمين، ومتميزين روائيا، ولكنهما لا يلتقيان روائيا، لا في اللغة الروائية، ولا في أسلوب البناء الفني للرواية، ولا في الرؤية الروائية.. وإن التقيا فإنهما يلتقيان من حيث الاهتمام بالرواية بذاتها: عملا فنيا رأى فيه كل منهما «فن العصر».

- وثانيا، إن هذه الرواية التي كانت وليدة خاطر، أو رغبة مفاجئة (بالنسبة لجبرا، في الأقل - وهو ما أستطيع تأكيده)، وفي ساعة لم يكن الحديث فيها، وإن كان على الرواية، أن يسفر عن مثل هذه «الفكرة - المقترح». فقد كنا، منيف وأنا، في زيارة جبرا، كما اعتدنا صباح كل جمعة من أيام الأسبوع أن نجتمع في داره، والحديث يتواتر بيننا عن رواية جبرا «البحث عن وليد مسعود» التي كانت صدرت قبل مدة، ورواية منيف «سباق المسافات الطويلة» التي صدرت من بعدها.. فإذا بعبد الرحمن منيف يخرج على سياق الحديث ويقترح: «جبرا، ما رأيك في أن نكتب، أنت وأنا، رواية مشتركة؟». ويتحفّز جبرا، بعفويته المعهودة وحماسه لكل فكرة جديدة، وهو يقول: «والله فكرة حلوة!».. فقلت لهما: ستشكلان عندها ثالث تجربة في الأدب العربي الحديث من بعد تجربة طه حسين وتوفيق الحكيم، وعبد السلام العجيلي وأنور قصيباتي. ولم يتكلما في التفاصيل، وكيف تتم الكتابة، ولا من يبدأ الكتابة أولا، ولا في الموضوع والشخصيات. ويبدو أن جلسة تالية قد حصلت بينهما وضعوا في خلالها بعض الخطوط الرئيسة. ولكن ما عرفته، واطلعت على أطراف منه هو أن واقع الكتابة فيها جرى بالتناوب: يكتب جبرا بضع صفحات، فيأخذها منيف ويواصل الكتابة، ثم يعيدها إلى جبرا ليكمل.. وهكذا، حتى اكتملت الرواية التي أخذ منيف مسوداتها واحتفظ بها لنفسه بعد أن استنسخها كاملة بخط يده، وأعطاني نسخة مصورة عنها كما كتبها بقلمه هو!

- وثالثا، تثير مسألة التفاوت، أسلوبا ورؤية للواقع، بين الكاتبين تساؤلات كثيرة، سواء ما كان من ذلك يخص التفاوت في النظر إلى الشخصية الروائية أو التعامل معها، كما في أسلوب السرد الروائي، وأخص هذه التساؤلات يتعيّن فيما يمكن أن نطلق عليه «التسوية أسلوبا»، بما يشهد «النص» من تعديلات تجعل له «سياقه العام» الذي يجتمع على «الوحدة» لا على «التفاوت» و«الاختلاف». وأستطيع التأكيد هنا أنني اطلعت على شيء من ذلك في «المسودات الأولى» للعمل. وعلى هذا أجد أن هذا الجانب في الرواية حري بالنظر من خلال السؤال عن الكيفية التي تمّ فيها «إحكام التواصل» بين الكاتبين على هذا المستوى.. وهل من «تأثيرات» لأحدهما على الآخر، في اللغة، والأسلوب، وطبيعة البناء الفني للرواية؟

- ورابعا، وعطفا على ما سبق، فإنه يمكن قراءة هذه الرواية، نقديا، في ضوء الأعمال الروائية لكلا الكاتبين، وهل من انعكاسات واضحة، أو خفية، لهذا العمل على الأعمال الروائية التالية عليها لكلا الكاتبين؟. وقبل هذا، على أي عمل روائي سابق لكل منهما تنفتح؟ أم سيجد القارئ/ الناقد فيها «نمطا آخر» خارج أي «مرجعية روائية» لكل منهما؟ وفي ضوء ذلك، هل من إضافة حقيقية شكلتها هذه الروائية لأعمال كل من الكاتبين، أم أنها جاءت «طارئة»، كما جاءت مقترحا، فإذا هي عمل يكتمل بذاته، أقرب إلى عفو الخاطر في «مشروع» كتابتها؟

وخامسا، إذا كانت الحقيقة توجد في «الإدراكات الذاتية» وحدها - كما يؤكد «برغسون» - فإن السؤال الذي قد يثيره قارئ هذه الرواية، وينبغي على القراءة النقدية أن تثيره، هو: هل من إدراكات ذاتية، واحدة أو على درجة من التوافق، بين الكاتبين؟ وعلى أي نحو تجلى ذلك في تفكيرات شخصياتها وسلوكاتهم؟ وهل الحقيقة التي يبحث عنها كل منهما واحدة؟

- وسادسا، وبما أن «الذات المعيارية» لكل منهما مختلفة عنها عند الآخر - كما نتبيّن ذلك من خلال قراءتنا أعمالهما السابقة على هذا العمل، فمنيف محكوم، عملا روائيا واهتمامات فكرية، ببعدين أساسين: سياسي وفكري - اجتماعي (بحكم الانتماء، والعمل السياسي الذي أخذ شطرا من حياته)، واقتصادي (بحكم الدراسة والتخصص والعمل)، بينما جبرا محتكم، ذاتا معيارية، إلى ثقافته التي حددت علاقته بالأشياء، ونظرته إلى الإنسان، ورؤيته التي انبنت على مقاربات حداثية - مدينية، تتوجه إلى الإنسان (قوّة لها فكرها المغاير للسائد التقليدي، وتحمل مقومات التغيير وفاقا لرؤية تجديدية)، وإلى المدينة (التي لم ينظر إليها من منظور يوتوبي، وإنما بوصفها مدينة الإنسان، والثقافة، والحرية).

- سابعا، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرة كل منهما إلى دور العقل في كيانية هذا الإنسان، وحضوره في وجوده اليومي، والذي هو، بالنسبة لمنيف، «عقل وظيفي» الوجود والدور، ومن هذه «الوظيفية» ينطلق في مساراته الأخرى، بما يتخذ من أدوار أو يجعل لنفسه من مهمات.. بينما هو، بالنسبة لجبرا، بؤرة تأمل (قد يبلغ بصاحبه حالة التخييل)، ومصدر معرفة (يعين صاحبه على معرفة العالم وتحديد موقعه فيه).

- وثامنا، هناك الاختلاف بين الاثنين في طريقة تمثّل الشخصية الروائية، ومعنى/ أبعاد تمثيلها فيما يجعل لها كل منهما من «وجود مفترض» هو، في حقيقة الأمر، نابع من/ ومتصل بالطبيعة التكوينية لكل منهما: ثقافيا فيما لهذه الثقافة من مرجعيات، واجتماعيا من حيث النظرة إلى الواقع وطبيعة العلاقة به - فهي مختلفة، إلى حد التقاطع في مواقف وحالات، مهما حاولنا التقريب بينها.

والسؤال هنا (وهو سؤال برسم الدراسة والبحث): أليست هذه «التفاصيل» جديرة بالقراءة والتحليل؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا نأت عنها كثير الدراسات والقراءات النقدية لأعمال الكاتبين؟