لماذا لم ينتشر الفكر الاشتراكي في أميركا؟

الرئيس باراك أوباما يعلن «الحرب على الطبقية»

TT

لم يستسغ الأميركيون الاشتراكية يوما، رغم وجود الحزب الاشتراكي على أرضهم. هذا البلد الذي تأسس على حرية الفرد والاقتصاد، يبدو أن مزاجه يجنح اليوم صوب شيء من التقييد للاستغلال والثراء الفاحش. هل يطالب الأميركيون اليوم باشتراكية تحد من ليبراليتهم، أم أنهم فقط يريدون عدالة اجتماعية تهذب جشع المستثمرين وتعيد التوازن لحياة الأفراد؟ هذه المهمة الأخيرة هي الموكلة لأوباما في السنوات الأربع المقبلة. لذلك، ثمة من يخشى أن يكشف الرئيس الأميركي باراك أوباما عن وجه اشتراكي ومسلم أيضا. والسؤال المطروح، ما الاشتراكية الأميركية؟ وما حدودها؟

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة التي فاز فيها الرئيس باراك أوباما على منافسه الجمهوري ميت رومني، كثرت اتهامات للرئيس أوباما بأنه «اشتراكي». كرر الاتهامات قادة «حزب الشاي» (الجناح المحافظ في الحزب الجمهوري). لم يستعمل رومني كلمة «اشتراكي»، لكنه استعمل كلمات صارت رمزا للكلمة، مثل: «إعادة تقسيم الثروة»، و«استعداء الأثرياء»، و«حرب الطبقات».

* من أسباب هذه الاتهامات:

أولا: وضع أوباما لبرنامج «أوباماكير» (تأمين صحي لكل الأميركيين) وافق عليه الكونغرس، رغم معارضة الجمهوريين له.

ثانيا: يريد أوباما زيادة الضرائب على الأغنياء. (عرف أوباما الغني بالذي يزيد دخله الشهري على عشرين ألف دولار تقريبا).

ثالثا: يريد أوباما زيادة الرقابة الحكومية على البنوك والشركات، وحماية المستهلكين منهم. ويريد منع مغامراتهم الاستثمارية لمضاعفة أرباحهم. (كانت هذه السبب الرئيسي للكارثة الاقتصادية الحالية التي بدأت سنة 2008).

لم يستعمل أوباما كلمة «اشتراكية» أبدا، ولن يجرؤ. وحتى لو تجرأ، لن يكون اشتراكيا بالمعنى العالمي والتاريخي للفكر الاشتراكي.

لكن، يعتبر معارضوه أي سيطرة حكومية على الرأسمالية «اشتراكية». وأوباما نفسه أول من يقول إنه يؤيد النظام الرأسمالي. ويتفق في هذا مع كل الأميركيين تقريبا الذين يرون الرأسمالية حرية فردية اقتصادية. مثلها مثل الحرية الفردية السياسية، والاجتماعية، وحتى الجنسية.

لكن، تريد أغلبية الأميركيين دورا كبيرا للحكومة لتقدم خدمات للمواطنين، خاصة في مجالات التعليم، والصحة، والمواصلات. (وإلى حد ما، مساعدة الفقراء والأطفال، وكبار السن). وحسب استفتاء في الأسبوع الماضي، تؤيد أغلبية كبيرة من الأميركيين (65%) زيادة الضرائب على الأغنياء. وفي هذا تتفق مع أوباما؟ هل كل هؤلاء «اشتراكيون»؟

الفكر الاشتراكي في أميركا

حتى قبل النظرية الماركسية (التي تقول إن مرحلة الاشتراكية تسبق مرحلة الشيوعية)، في بداية القرن التاسع عشر، وصلت إلى الولايات المتحدة النظرية الاشتراكية الأوروبية (التي تقول إن الاشتراكية هي سيطرة الحكومة على وسائل الإنتاج، وذلك لمواجهة الثورة الصناعية، وزيادة أهمية الرأسماليين، وقروض البنوك، وارتفاع أسعار الفائدة).

رغم أن كلمة «سوشياليزم» تترجم إلى «اشتراكية»، يمكن أن تترجم إلى «اجتماعية» (مصلحة المجتمع في مواجهة مصلحة الرأسماليين).

أول من استعمل الكلمة هو الفيلسوف الفرنسي هنري سيمون (توفي سنة 1825) من فلاسفة الثورة الفرنسية. ويقال إنه أستاذ توماس بين (أبو الاشتراكيين الأميركيين) رغم أنه أصغر منه سنا. وكان بين، وهو بريطاني، جاء إلى أميركا للاشتراك في الثورة الأميركية (سنة 1776). ثم سافر إلى فرنسا للاشتراك في الثورة الفرنسية (سنة 1789).

خلال القرن التاسع عشر، انتشرت الاشتراكية في أوروبا. لكن في أميركا:

أولا: عارضها الأميركيون الذين كانوا يمارسون تجارة الرقيق والتفرقة العنصرية ضد الزنوج.

ثانيا: عارضها «بارونات» الثورة الصناعية (عمالقة الرأسمالية الأميركية، مثل: فورد، روكفلر، كارنيغي، ميلون).

لكن، مع بداية القرن العشرين، زادت الاشتراكية في أميركا. وفي انتخابات سنة 1912، رشح الحزب الاشتراكي الأميركي، تحت شعار «يا عمال العالم اتحدوا»، إيوجين دبس لرئاسة الجمهورية، ونال مليون صوت تقريبا (وكأنه نال ربع الأصوات بمقاييس الوقت الحاضر). وكان هناك اشتراكيان في الكونغرس، ومئات العمد وحكام مقاطعات.

لكن، ومن تناقضات التاريخ، كانت الثورة الشيوعية في روسيا (سنة 1917) بداية نهاية الاشتراكيين في أميركا. لم يؤيدوها، لكنهم لم يعارضوها. وعارضوا تدخل أميركا في الحرب العالمية الأولى (لمواجهة الإمبراطوريات الديكتاتورية في أوروبا). وعارضوا نقاط الرئيس وودرو ويلسون الاثنتي عشرة (حق تقرير المصير للشعوب). اعتبروها كلها «مؤامرات رأسمالية»، وبالغوا في الخوف من «بارونات» الرأسمالية الأميركية.

ثم جاء الرئيس فرانكلين روزفلت (سنة 1932)، وأضاف إصلاحات اجتماعية (اشتراكية) إلى النظام الرأسمالي الأميركي. وسيطر روزفلت على البنوك والشركات العملاقة. وتحالفت مع روزفلت نقابات العمال، التي كان يمكن أن تكون حليفة للاشتراكيين.

على أي حال، لا يزال الحزب الاشتراكي الأميركي موجودا حتى اليوم. لكن، يعتقد أن عدد أعضائه الرسميين لا يزيد على 10 آلاف شخص (مثله مثل الحزب الشيوعي الأميركي).

أبو الاشتراكيين

ربما لهذا السبب، ليس غريبا أن أبا الاشتراكيين الأميركيين كان أوروبيا: البريطاني توماس بين، ولد في ريف نورفولك ببريطانيا سنة 1737، وهاجر إلى الولايات المتحدة عندما كان عمره 37 سنة.

ولد في ظروف بائسة، ومات في ظروف بائسة. لم يدرس في ثانوية إيتون، ولا في جامعة أكسفورد. وترك الدراسة عندما كان عمره 10 سنوات ليساعد والده الذي كان يحيك الملابس. ثم، عندما كبر، فتح محلا خاصا به لحياكة الملابس، ثم تزوج، لكن، ماتت زوجته وهي تضع ولدا، ففقد الزوجة والولد، ثم أفلس دكان الحياكة، واضطر لإغلاقه.

ثم عمل في قسم الجمارك، وكان في بداية الثلاثينات من عمره، وهناك ظهرت ميوله «الاشتراكية». صار نشطا في مجال اتحادات ونقابات العمال. واشترك في كتابة وتوزيع خطاب من 21 صفحة إلى أعضاء البرلمان لزيادة أجور عمال الجمارك. ثم طبع 4 آلاف نسخة من الخطاب، ووزعها على سياسيين، وصحافيين، ورجال أعمال.

وبسبب نشاطاته النقابية، طرد من إدارة الجمارك، بتهمة «الغياب عن العمل من دون إذن». (كان ذهب لحضور اجتماع نقابي).

في سنة 1776، نفس سنة استقلال الولايات المتحدة، أصدر بين كتاب «كومون سينس» (الإحساس البديهي). ولأنه كان أجنبيا يعيش في الولايات المتحدة، وخشي من النقد، والإبعاد، لم يكتب اسمه على غلاف الكتاب، وكتب «بريطاني».

لكن، اشتهر الكتاب، وصار أكثر الكتب توزيعا في تاريخ أميركا حتى ذلك الوقت. (خلال سنة واحدة، وزع نصف مليون نسخة، ما يعادل عشرة ملايين نسخة اليوم).

وصار أول كتاب عن الفكر السياسي الأميركي الجديد. وبذلك، سبق بعشر سنوات تقريبا «فيدراليست بيبرز» (الأوراق الفيدرالية)، إشارة إلى سلسلة مناقشات وسط الآباء المؤسسين، سبقت كتابة الدستور الأميركي. (أخيرا، كتب الدستور سنة 1788، بعد 12 سنة من الاستقلال).

وكتبت صوفيا روزنفيلت، مؤلفة كتاب «بديهية توماس بين وبديهياتنا»، أن بعض الناس يسمونه: «فازر أوف ذا فازرز» (أبو الآباء المؤسسين).

واليوم، يعتبر كتاب «كومون سينس» (الإحساس البديهي) من أهم مائة كتاب في التاريخ. يأتي ترتيبه، طبعا، بعد الكتب المقدسة لمختلف الأديان، وبعد كتب أفلاطون، وأرسطو. لكن، قبل كتاب آدام سميث «ثروة الشعوب»، و«اعترافات» جان جاك روسو، وكارل ماركس «المانفستو الشيوعي»، وجون ستيوارت ميل «في الحرية»، وألبرت اينشتاين «النسبية»، وجان بول سارتر «الوجود واللاشيء»، وسيمون دو بوفوار «الجنس الثاني».

طبعا، نظريات العدالة والحرية التي ركز عليها كتاب بين ليست جديدة. لكن، وضعها بين في قالب شعبي، وأسلوب سهل، وتفاؤل كثير. ركز على حلول المستقبل، وتحاشى مشاكل الماضي.

لم يركز على الاستقلال والحرية بقدر ما ركز على ما بعدهما. وكتب: «ليس الاستقلال غاية، إنه وسيلة نحو الرخاء والنمو. وليست الحرية غاية، إنها وسيلة نحو الكرامة والعزة والفخر».

وربط بين الحرية والعدل كالآتي:

أولا: «الحرية التي ليس فيها العدل ليست حرية كاملة» (مثل دولة حرة تمارس التفرقة بين مواطنيها).

ثانيا: «العدل الذي ليست فيه الحرية ليس عدلا (مثل دولة تقول إنها عادلة من دون أن تعطي الحرية لمواطنيها).

وحتى بعد تحقيق الحرية والديمقراطية، عارض التفرقة بين الأغنياء والفقراء، وبين الصفوة الحاكمة وعامة المواطنين. وكتب:

أولا: «يجب ألا يقتصر التصويت في الانتخابات وحكم البلاد على الذين يملكون أملاكا، ويدفعون ضرائب عليها». (عدم التفرقة بين الأغنياء والفقراء).

ثانيا: «يقدر المواطن العادي على إصدار أحكام عقلانية في مواضيع السياسة والحكم. نعم، يوجد شيء اسمه الحكمة الشعبية» (عدم التفرقة بين الصفوة وعامة المواطنين).

ومن هنا، جاء اسم الكتاب «كومون سينس» (الإحساس البديهي).

* اشتراكية توماس بين

* مثل اسم الكتاب، تعتمد اشتراكية توماس بين على بديهيات، لا على نظريات. على «فلسفة شعبية» تبسط موضوع العدل (عدل؟ أو لا عدل؟)، لا على جدليات معقدة (ما العدل؟). واعتمد على نظرية «ناتشورال جستيس» (العدل الطبيعي)، التي تعتمد على نظرية «ناتشورال لو» (القانون الطبيعي) بأن الأخلاق السامية طبيعة بشرية. وبالتالي، على نظرية «ناتشورال رايتز» (الحقوق الطبيعية) بأن هذه الحقوق عالمية أبدية، ولا تعتمد على زمان معين، أو مكان معين، أو شخص معين.

ولهذا، كما قال، يجب أن يكتب العدل الموضوع (الدساتير والقوانين) على هدى العدل الطبيعي.

وكتب جون نيكولاس، صحافي في مجلة «نيشن» (الأمة) الليبرالية: «يمكن القول إن توماس بين كان الأب الفكري والأب النزيه للآباء المؤسسين. على الأقل، لم يكن يملك رقيقا، وعلى الأقل، لم يحصل على وظيفة بعد الاستقلال».

لازم سوء الطالع توماس بين خلال سنواته الأولى في بريطانيا، كما لازمه خلال سنواته الأخيرة في الولايات المتحدة. وبدأت مشاكله عندما اختلف مع الآباء المؤسسين، وخاصة مع جورج واشنطن (الرئيس الأول) الذي كان يملك جيشا من الرقيق، وأيضا، توماس جفرسون (أبو الليبراليين). وقال أعداء بين إنه ليس من «الآباء المؤسسين»، لأنه أولا: أجنبي. ثانيا: لم يحارب في حرب الاستقلال. ثالثا: لم يوقع على إعلان الاستقلال. رابعا: لم يشترك في كتابة الدستور. خامسا: متطرف («اشتراكي»؟). سادسا: سجن في بريطانيا وفرنسا.

في الحقيقة، سجن في فرنسا، لأنه، بعد أن اشترك في الثورة الأميركية (سنة 1776)، سافر إلى هناك للاشتراك في الثورة الفرنسية (سنة 1789). وكتب هو أن بعض «الآباء المؤسسين» (قصد واشنطن وجفرسون وآخرين) أوعزوا إلى الفرنسيين بسجنه.

وعندما عاد إلى الولايات المتحدة سنة 1802، كان جفرسون رئيسا. ومرة أخرى، اختلف معه بسبب جيش الرقيق الذي كان يملكه، وعاداه جفرسون، وعاداه، أيضا، رجال الدين بسبب هجومه على الإنجيل في كتابه «عصر المنطق».

وقضى بقية حياته شبه منبوذ، ولا يملك غير مزرعة بالقرب من نيويورك. وعندما توفي سنة 1809، رفضت الكنيسة التي ينتمي إليها دفنه في مقابرها (لأنه كان انتقدها) ودفن في مزرعته.

وكتبت عنه صحيفة «نيويورك سيتيزن» نعيا قصيرا جدا، فيه: «فعل بعض الخير وكثيرا من الشر».

وحضر تشييع جثمانه 6 رجال فقط، منهم اثنان من الزنوج.

وبعد عشر سنوات من وفاته، جاء إلى أميركا مثقفون بريطانيون يؤيدون فكر بين الاشتراكي. وانتقدوا الأميركيين لأنهم عارضوه، وعادوه، ونبذوه. وقرر المثقفون نقل رفاته إلى بريطانيا «ليدفن بطلا». قادهم ويليام كوبيت، صحافي بريطاني اشتراكي. وفعلا، نقل رفاته إلى بريطانيا. لكن، قبل دفنها، وفي ظروف غامضة، اختفت.

وبعد وفاة الصحافي، قال بريطانيون إنهم يملكون الرفات. وقال واحد إنه يملك الجمجمة فقط وحتى اليوم، ليست هناك مقبرة لأبي الاشتراكيين الأميركيين.

ربما هذا رمز آخر لمصير الاشتراكية في الولايات المتحدة.

«مسلم اشتراكي»؟

بعد أن فشل الحزب الجمهوري في هزيمة أوباما في الانتخابات الأخيرة، يظل، وخاصة «حزب الشاي» (الجناح المحافظ في الحزب)، يتهم أوباما بأنه «اشتراكي». ولهذا، يحذرون من أن أوباما - لأنه لن يقدر على أن يترشح مرة أخرى للرئاسة - سيفعل ما يشاء خلال السنوات الأربع المقبلة. وهي السنوات التي ستكون «أول عصر اشتراكي في تاريخ الولايات المتحدة».

وهناك من يقول أكثر من ذلك، مثل رش ليمبو، جمهوري متطرف، ومقدم برنامج إذاعي يومي يستمع إليه كل يوم عشرون مليون شخص تقريبا.

حتى من قبل أن يترشح أوباما للرئاسة أول مرة سنة 2008، بدأ ليمبو حملة شخصية ضده، وغمز، وهمز، ولمز، من لون أوباما الأسود. ونشر أغنية تقول: «أوباما، الزنجي الساحر».

ثم أضاف أن أوباما «مسلم سري»، ثم أضاف أنه «اشتراكي».

الآن، بعد أن فاز أوباما بالرئاسة مرة ثانية، لا يحذر ليمبو فقط من «أول عصر اشتراكي في تاريخ الولايات المتحدة»، ولكن، أيضا، من أن أوباما، بعد أن يترك البيت الأبيض، سيعلن أنه مسلم، وسيعلن أنه اشتراكي.