تحويل التاريخ إلى نص روائي

«يوم الدين» لرشا الأمير طبعت 6 مرات وترجمت للإنجليزية والفرنسية

غلاف الرواية
TT

هل تجوز الكتابة على الكتابة، وهل من حقنا أن نعيد القراءة والكتابة على كتاب طبع بالعربية لمرات ست، وعبر حدوده اللغوية والجغرافية فترجم إلى الفرنسية والإنجليزية. وهل باستطاعتنا بعد أن نعثر على معارج يستنبطها الكتاب وراء المعنى والخط واللون فنحمل الفكرة لتحملنا جسدا وروحا إلى آفاق ما زال دونها الشوك والياسمين وتحول هواجسنا البلهاء وخوفنا الأخرق دون اكتناه عوالم رشا الأمير في رواية «يوم الدين»؟!

في كتابه «قراءة في رواية يوم الدين»، الصادر عن دار الجديد، تجرأ إبراهيم محمود فانكب وهو المنصرف للعمل البحثي، والمواضيع السجالية، على قراءة الرواية. وضعها تحت مجهره العلمي ليعمق أثر المقروء، وليضع القارئ في تحد ذاتي في الارتحال وراء اللامسمى تعبيرا عن رحابة المتردد الصادم والمثار من منظور ديني دون أن يكون المكتوب مقاربة أو سجالا حول العقيدي أو العبادي، دون أن يكون هناك فك ارتباط بين المكتوب في إهاب ديني. فالكاتبة تضفي على الديني كل ما من شأنه صهره في الحياة والحراك الاجتماعي.

تتحرك بحرية فيما يعتبر مرصودا ومغلقا، لتخوض في واقع أكثر تعقيدا وأعمق من الضحالة الرومانسية التي فقدت مصداقيتها وجاذبيتها، وفقدت عذريتها اغتصابا وبسطحية باردة. فالكاتبة كتبت رواية غير قابلة للتصنيف والتنميط، رواية صنعت أزمنتها وأمكنتها وأسلوبها، واستخرجت قاموسها الخاص لتوافق اللغة المتضمن الثقافي التاريخي والأدبي والاجتماعي والسياسي والثقافي، فيتبين للقارئ كيف تمكنت هذه الرواية من أن تستحيل رواية تصنع أزمنتها وأمكنتها، فتحيل الزمن تاريخا باسمها، والمكان جغرافيا مفتوحة الأبعاد رحبة الآفاق ممهورة بحدود التواصل اللامحدود بين المروي والمتلقي الذي يعيش حدثيته بقدر ما يتفاعل مع المثار من الداخل كما لو أن الماضي لا ينفك يتجدد حاضرا ومستقبلا. فيعثر كل منا على زمنه الخاص ومكانه الخاص حين يتعرف من خلال النص المفتوح على نفسه وهو يشارك في كتابة الرواية مجددا حين يقرأها من الزوايا المختلفة.

يقول الكاتب: «إن اهتمامي برواية رشا الأمير توجه إلى سطوح الرواية المتحركة والمتموجة، بحثا عن القاع الذي يراد تلمسه، لتقدير المسافة الإبداعية بين السطح وما هو قار في الأسفل، كما أنه ذهاب بالمقروء إلى ما وراء هذا التشكيل البانورامي، حيث يتلاقى في متن الرواية بالذات ما هو بري حيث حالة التطهير المستمرة من قبل السارد تدفع بالقارئ إلى الخارج، والتحرر ما أمكن من وطأة المدينة وقذاراتها المموهة، بما هو أهلي حيث سعى السارد المتكلم الأوحد في الرواية إلى منح مدينته التي نزل فيها، وهو غريب عنها، ميزة الطهارة. ليكون لدينا ذلك المردود الأدبي التذوقي في هذا التطعيم المركب.

إنه تعقب لمسيرة الجسد الذي يتكفل نص مهجن بتشكيله، ومن ثم بإنشائه في مشاهد متداخلة ومتشابكة، ليكون في مقدور القارئ أن يعايش تجلياته الجمالية ومآلاته القيمية. فالمتلقي يستحضر تداعيات الأثر من خلال نوعية القراءة، فالقراءة المتعددة الزوايا والأعماق والمستويات تجعل من المقروء مجال إبداع للقارئ، وميدان كتابة موازية، ومثاقفة تقرن الذاتي بالموضوعي.

إن علاقة أي قارئ بما يقرأ تتوقف على نوعية الاستجابة، إن راعينا المفهوم النفسي، وإمكانية العثور على تلك اللقى الأثرية المهمة له في عمله السبري، كون القراءة عمل تنقيبي، دون أن يتخلى عن المرفق الأفقي. إن الهدف يتحدد بنوعية الرغبة، وأن الذي يشجع على القراءة، ولاحقا، الكتابة عن المقروء، هو تجلي الحوار الذي يمنح الأثر اعتبارا ثقافيا وملمحا جماليا فاعلا.

يرى المؤلف أن الأهمية التاريخية والفنية لرواية «يوم الدين»، تتأتى في البعد التركيبي الذي لم تدخر الروائية جهدا في إبرازه، من خلال الدأب المحسوس في الكتابة، منذ الاستهلالات المتعددة، وانتهاء بالكلمة الأخيرة. ولعل رشا الأمير أرادت لعملها أن يكون أكثر من كتاب - رواية، أكثر من الجنس الأدبي المحدد أثرا، رغبة في التنويع، إضافة إلى إرادة التغيير في مفهوم الكتابة النوعية. وهي، فيما اختارته من سياسة كتابة، راعت كما يبدو ما هو عليه مجتمعها اللبناني افتراضا، وما يتخلله من تنويع عقائدي وثقافي وسياسي، وتضارب وجهات نظر وتصادم مصالح، كما لو أن فكرة العمل تأتت من هذه المعايشة اليومية للحراك اليومي.

لكن ذلك لا يعني أن عملها كان وثائقيا أو أرشفة لجانب أو جوانب من حياة البلد المسمّى واللامسمى معا، إنما هو انفساح رؤية أدبية، وإدراك اجتهادي للرواية ومدى قدرتها على احتواء عالم كامل، وجعل العالم الذي يصير قيد الحيازة روائيا بامتياز، وأن فذاذة الرؤية الفنية والمخزون الثقافي الموظف في العمل مواربة دون موعظة وتلقين، ضمنا السيرورة الإبداعية، وأن هذا الفعل الصيروري الذي يستشرف عالما يسمي بشرا أولا وأخيرا، كما يسم العالم لما هو أخلاقي واجتماعي ونفسي وتربوي ومعتقدي.

تدخل الرواية تاريخا يعنينا، فدين اليوم هو ما تقودنا إليه الرواية، وتبقينا في رحابة المتداول فيه. فـ«يوم الدين» أثر جسدي يقارب جماليا، لأن ما نكاشفه يخصنا، بقدر ما يمدنا جسديا صوب الأبعد والأسمى، إذ يكون جسدا من نوع آخر، جسدا تحوليا يشارك التاريخ والمجتمع في توليفه.

إخالني متأكدا أن رشا الأمير لم تتساءل يوما: ماذا أكتب؟، وكيف أكتب؟. فالتلقائية سبرت عمق الجمالية، والمخزون الثقافي جعل همها الأساسي الإلمام بالواقع، ومحاولة فهمه لا مجرد رصده. فهذه رشا نتاج هذا الجنس، وهذه البلاد، وهذه الحياة، وهي تعبر عن نفسها كما هي. فالتسلسل الزمني في الرواية التقليدية لم يعد يفيد في فهم الواقع، واعتماد المغامرات والتغريب والغموض يخاصم الحدث والفعل والانفعال والأحاسيس.

يفرد المؤلف إبراهيم محمود فصلا يبحث فيه عن جماليات «يوم الدين» فيسأل: ما الذي يجعل الجمالية قيمة قائمة بذاتها؟ ويجيب: بيننا وبين الجمالية علاقة ارتباط ترتقي إلى مستوى المدرك العقلي وما يرفق به من قيم واعتبارات. فالعلاقة القائمة بيننا وبين ما نتفاعل معه ونتحسسه من الداخل، هو المسمى بالروحي، أي ما يمضي بنا بعيدا إلى ما وراء المنظور. فالروحي مقر كل فكرة عن الجمالية، أي حين يكون الروحي مأخوذا بعلامة العقل الفارقة. فالجمال يعزز فينا القوى التي تحررنا من أنفسنا المثقلة بما هو دنيوي، دون حذف الدنيوي، كشرط لتدفق روح الجمال فينا، وممارسة تربيتنا وتطهرنا.

هذا التبادل في المقامات والعلاقات ذات المأثور الجمالي، يحال إلى ما هو جسدي. إننا موجودون بجسدنا الجمعي والفردي، فالجسد ملتقانا ومفترقنا. ونحن محكومون بجسدنا، وحاكمون من خلاله، إنه موضوع المواضيع كون كل المواضيع تحال إليه، ولا مفر من التعبير عنه أو باسمه، أو تقديره باعتباره الضمير الحاضر، وإن كان غائبا.

إن رواية «يوم الدين» معلومة بعلامتها الجمالية، وبما أن المقروء فيها ينبني على تقدير تذوقي، كما أنها تحمل بصمة عريضة ولماحة هي الجسد، نستطيع الدخول إلى الرواية، والتوقف عند تموضعها الجسدي دون أن نغفل الجمالي في هذا التوليف الأدبي - الفني.

الرواية التي تشغل تاريخا بقدر ما تصنع تاريخا عائدا إليها، من خلال شخصيات متصورة أو مركبة من الروائي لا بد أنها رواية مجتمع حي، رواية رهانات القوة التي تشد الآخرين إليها تبعا لمهارة الكتابة، وتستوقف القارئ ليتحسس لذة مستولدة من عملية القراءة، وما هو متحرر داخله على صعيد المعايشة الجسدية.

يرى المؤلف أن عنوان الكتاب بقدر ما هو ديني، هو مجتمعي، يقوي صلته مع المضمون، ويشي بتلك الحمولة المعرفية، والمنحى الجمالي، كما لو أنه على دراية مباشرة بفاعليته في التعبير والتدبير. فالعنوان يترجم واقعه، فهو في حالته الدال الدقيق على برهانية الشاغل الثقافي. فالكاتبة في تركيزها على العنوان وإهمالها المقصود لنوعية النص، تثير الفضول لإمعان النظر في المتن، وتشرع الفاعلية الفكرية والفنية معا، انطلاقا مما هو جار العمل بموجبه في سياق كتاب كامل، وكأن الكاتبة أرادت لكتابها أن يكون الجمع المركب.

ما وراء المقروء مكاشفة على المتلقي فك غموضها وقراءتها لفظيا وبصريا، فالعتبات الممهدة للدخول إلى النص، والاستهلالات، والتشكيل الجمالي للغلاف، نص من صميم المتن، وطريقة تفضي إلى يقين ذوقي وذاتي، فما يحمله الكتاب ضمنا يتجاوز صاحبه، فما تقوله رشا الأمير في العمق الحواري سمته بوضوح، وعلى القارئ أن تتجلى لديه متعة القراءة البصرية أيضا كي تكتمل عنده المكاشفة بكل أبعادها.

«يوم الدين» كتاب مخلص لفكرة الكاتبة، يترك الباب مفتوحا للتأويل ليضيف القارئ نصا موازيا للنص، فنحن إزاء رواية عصية على الوصف، كونها تتنقل دون ثبات بين الفكري المجرد والحسي الحدثي، وتتنوع في مساراتها وكيفية تحركها. هو الكتاب الكامل الذي لا يكتمل في النهاية، بقدر ما يواصل تشكيله الجمالي، وما يترتب عليه من قيم إلى إشعار آخر.