«الصدمة الثقافية» هل علاجها الخنوع؟

يبدأ بـ«شهر عسل» بعده إحباط وانقطاع في الشهية

TT

اختلف المنظرون حول ماهية «الصدام الثقافي» وكيفية معالجته. أمر ما يزال يسال له الحبر وتكثر حوله النقاشات. كتب كثيرة تصدر لكن الشهادات الفردية تقدم أبلغ مثل على ما يمكن لـ«صدام ثقافي» أن يفعله بإنسان أو عائلة بأكملها، وهنا تحقيق.

تترجم قواميس عربية عبارة «كلتشرال شوك» الإنجليزية إلى «صدمة حضارية»، لكن، تستعمل قواميس أخرى الترجمة الأدق وهي: «صدمة ثقافية». وتشرح قواميس إنجليزية «كلتشرال شوك» بأنها «تأرجح شخصي لمن (يعيش في) أو يزور، بلدا غريبا عليه».

وقسم أندرو بليك، مؤلف كتاب «طلاب أفارقة يدرسون في أميركا» الصدمة الحضارية إلى خمس مراحل:

الأولى: «شهر العسل» بين الثقافتين، بسبب انبهار الأجنبي (في الولايات المتحدة) بالحرية، وإطاعة القوانين، والنظام، والتأدب، والطعام، والترفيه البريء، وغير البريء. لكن، «لا بد أن ينتهي (شهر العسل) مثلما ينتهي كل شهر عسل».

الثانية: «التوتر» (بعد ما بين نصف سنة وسنة تقريبا) بسبب خرق الأجنبي للقانون (مرور السيارات مثلا)، والنظام (الصفوف المنتظمة مثلا)، والنظافة (في المراحيض مثلا)، والتأدب (الحديث الهادي). وتسبب هذه الأخطاء إحراجات، ومشكلات حقيقية، مع الشرطة، على سبيل المثال.

الثالثة: «الإحباط». بداية بأمراض نفسية (مثل: الغضب، الوهم، الحيرة، السأم، الشكوى من التوتر، الشوق للوطن، عدم النوم، كثرة النوم، التفكير في الانتحار، كراهية أميركا والأميركيين، كراهية النفس). ثم أمراض عضوية (مثل: السمنة، ضغط الدم، السكري).

الرابعة: «التأقلم». لكن، يستغرق هذا سنوات، ويعتمد على خلفية الأجنبي (يوجد فرق كبير بين فترة تأقلم الغربي، وفترة تأقلم الشرقي، على الحياة في أميركا). لكن، للتأقلم ثمن، وهو تدني العلاقة مع الوطن الأم. وعكس التأقلم هو الانطوائية، والتقوقع، والرفض، والعداء (وربما عداء عنيف).

الخامسة: «المساواة». ليست هذه مرحلة تلقائية بعد «التأقلم» لأن التأقلم (أو محاولة التأقلم) ربما لا تنتهي. وليست هي المساواة في الفرص، والعمل، والتصويت، والغني، والفقر، ولا الجنسية الأميركية وجواز السفر الأميركي. لكنها إحساس نفسي بعدم النقص، وعدم الدنيوية. وهي ربما أصعب المراحل، لأن الأميركي ابن البلد يظل ينظر إلى الأجنبي على أنه أجنبي، وأنه هو ابن البلد، في استعلاء واضح («حتى إذا اضطر لقتلك»، كما قال الكتاب).

* الخضوع الثقافي

* لا تذكر «كلشرال شوك» (الصدمة الثقافية) إلا وتذكر «كلشرال كرينغ» (الخنوع الثقافي، التبعية الثقافية، عقدة النقص الثقافية). وحسب كتاب «كلاش أوف سيفيلايزيشن» (تصادم الحضارات) الذي كتبه الأستاذ الجامعي الأميركي صمويل هنتنغتون (سنة 1996)، واحد من أسباب تصادم الحضارات هو تمرد شعوب العالم الثالث على الخنوع والخضوع للحضارة الغربية.

وعلى مستوى الأجنبي في الولايات المتحدة، يمكنه أن يسير في طريق الخنوع، ويمكنه أن يسير في طريق البحث عن هوية مستقلة يفتخر بها. وفي الحالتين، يكون الانبهار هو الأساس: انبهار يقود إلى ثلاثة طرق: تبعية، أو تعايش، أو تمرد.

غير أن الموضوع أكثر من شخصي. ويشمل خنوع شعوب وثقافات لشعوب وثقافات. مثل كتاب «مكسيكيون أو أميركيون؟»، عن استعلاء الأميركيين على المكسيكيين، وخنوع مكسيكيين، وتمرد غيرهم. وأيضا، يناقش مثقفون أستراليون خنوعهم للثقافة البريطانية. وهذا موضوع آخر.

وكتب البعض عن تجاربهم مصورين الصدمات الثقافية التي تعرضوا لها بعد انتقالهم إلى أميركا.

* مصري وفيتنامي يتعثران في اللغة

* كتب مصري عن تجربته يقول: «كنت أعتقد أن اللغة الإنجليزية ستكون المشكلة الكبرى في الولايات المتحدة. بعد عشر سنوات، تحسنت إنجليزيتي. لكنني اكتشف أن الأميركيين يتخاطبون بطرق غير اللغة الإنجليزية. فهم أولا يتخاطبون باللغة (الأميركية)، بعبارات لم تمر علي. ثانيا: يتخاطبون بإيماءات، وتلميحات، وإشارات. وحيرني هذا كثيرا. قضيت عشر سنوات أتعلم اللغة الإنجليزية أكثر. وأتساءل: كم سنة سأقضي لأتعلم الإيماءات والتلميحات؟».

وكتب فيتنامي عن تجربته فقال: «قبل ثلاثين سنة، وصلت لاجئا من فيتنام إلى مدينة صغيرة في ولاية ويسكونسن، حسب برنامج لكنيسة تعاونت مع وزارة الخارجية الأميركية لإيواء اللاجئين».

لم تكن اللغة الإنجليزية فقط هي المشكلة، ولكن محتوى اللغة. كنت أقول للأميركي: «ماذا تفعل؟» أو «إلى أين أنت ذاهب؟» هذه ترجمات لتحيات فيتنامية. وليس الهدف أن نعرف، حقيقة، إلى أين ذاهب الشخص، أو، حقيقة، ماذا يفعل. بعد إحراجات كثيرة، لجأت إلى «غود مورننغ» (صباح الخير) و«غود إيفننغ» (مساء الخير). وذلك بعد أن ضغط أميركي على يدي ضغطة قوية، ونظر إلي في عيني، وقال محذرا: «فقط، تأكد إذا كان الوقت صباحا أو مساء».

* صيني لا يأكل.. سوري لا يتكلم

* وكتب صيني يقول: «لم يكن في المدينة الجامعية الصغيرة التي جئت إليها طالبا ببعثة من حكومة الصين مطعم صيني. أكلت (بيتزا) مرة واحدة، وأصابني مغص، وتوقفت عن أكلها. وأكلت (همبرغر) مرة واحدة، وحدث نفس الشيء. لأسابيع ما عدت قادرا على الأكل. وانخفض وزني. حتى عرفت كيف أستقل حافلة، وأذهب إلى سوق آسيوية بعيدة، أشتري منها أطعمة وأطبخها في غرفتي. أتذكر الآن تلك الأيام، وأحزن على المهاجرين الذين يجيئون إلى الولايات المتحدة أول مرة». وعن الصدمة التي تلقاها مهاجر سوري كتب يقول: «في سوريا، حذروني من العرب يوم سفري إلى أميركا. وقالوا لي: ابتعد عنهم، مشكلاتهم كثيرة. ونفذت ذلك. تحاشيتهم، حتى عندما أسمعهم يتكلمون في الشارع. وتعمدت الاختلاط مع الأميركيين. كان ذلك قبل ثلاثين سنة. الآن، كبرت، وكبر أولادي. أجدت اللغة الإنجليزية والتعابير الأميركية، وتحليل مباريات كرة القدم وكرة السلة. لكن، مع كل كلمة إنجليزية تعلمتها، نسيت كلمة عربية. أحس أنني ابتعدت عن ثقافتي العربية. أريد أن أعود إليها، أم أن الوقت قد تأخر؟».

فلبينية تخلع نعليها وهندي يصدمه أولاده

فتاة فلبينية كتبت عن تجربتها على النحو التالي: «سكنت لسنة مع عائلة أميركية في مدينة صغيرة. أول صدمة كانت يوم دخلت منزلهم، وخلعت حذائي عند الباب. استغربوا، وقالوا: (لماذا تفعلين ذلك؟) قلت: (هذا ما نفعل في الفلبين)».

فيما بعد، عرفت أننا نفعل ذلك في الفلبين لأن الشوارع قذرة. حتى صارت عادة المشي بأحذية داخل المنازل عادة مسيئة. لكن، كانت شوارع تلك المدينة الأميركية الصغيرة نظيفة.

في المساء، اقترحت علي البنت الأميركية أن نمشي في شوارع الحي، على الأرصفة. واستغربت أنا لأنها مشت حافية. سألتها: «لماذا تمشين حافية في الشارع؟» قالت: «الجو جميل، وأريد أن أمتع قدمي به». وضحكت قائلة: «أريد أن أمتع قدمي بالحرية. هكذا كانت أول صدمة حضارية بالنسبة لي، في أول يوم: أنا أمشي حافية داخل منزلها، وهي تمشي حافية في الشارع». وشرح هندي عن اللحظة الصادمة ثقافيا بالنسبة له فقال: «لم تكن اللغة الإنجليزية مشكلة بالنسبة لي. وبعد أن حصلت على دكتوراه في الكومبيوتر، وأسست شركة صغيرة، وكبرت الشركة، وتزوجت هندية، وأنجبنا أولادا وبنات، وعشنا في منزل كبير في حي راق، جاءت الصدمة الحضارية في يوم من الأيام: «كنا نأكل العشاء في المنزل، مع الأولاد، فقالت ابنتي الصغيرة: (عندما نأكل الغداء في كافتيريا المدرسة، تقول لنا المدرّسة: لا تمضغوا الطعام وأفواهكم مفتوحة، ولا تمضغوا الطعام بأصوات عالية». استغربت لهذه الملاحظة. وساد صمت مفاجئ حول مائدة العشاء. وحاول الولد الكبير أن يلطف الجو، لكنه عقده، وقال: «قبل أيام، اقترح صديقي جيمي، أن نذهب إلى مطعم هندي، ونرى الهنود يأكلون بأصوات عالية». وفهمت: أنا أمضغ الأكل بفم مفتوح، وبصوت عال.

* الكلام النيجيري والأكل الإماراتي

* نيجيري: طالب نيجيري حط في أميركا، كتب عن تجربته على النحو التالي: «في أول يوم في هذه الجامعة، واجهتنا الصدمة الحضارية. تجمّعنا نحن أربعة نيجريين نسكن في داخلية واحدة، لنذهب إلى قاعة الطعام، في أول وجبة لنا في الداخلية. عندما تقابلنا في لوبي الداخلية، وكعادتنا، بدأنا نتحدث بلغة اليوربا، وبأصوات عالية، ونضحك ضحكات عالية. ونحن نقف في صف الكافتيريا لنختار الأطعمة، تندرنا على الأكل الأميركي، وضحكنا بأصوات عالية. وعندما جلسنا لنأكل، تندرنا على الأميركيين والأميركيات حولنا، وضحكنا ضحكات عالية.

في الحقيقة، لم نكن نعرف أننا فعلنا ذلك حتى قال لنا نيجري قضي ثلاث سنوات في الجامعة: (يعتبر الأميركيون الكلام بصوت عال شيئا غير مهذب. افعلوا في غرفكم ما تريدون، وتكلموا بأعلى الأصوات، واضحكوا أعلى الضحكات. لكن، ليس هنا».

طالب إماراتي كتب عن تجربته قائلا: «عندما قبلت في هذه الجامعة الأميركية، وبدأت الاستعدادات للسفر إلى أميركا لأول مرة، قالوا لي في الإمارات أنني لن أحس بصدمة حضارية، لأن الأكل الأميركي متوفر في الخليج: دجاج (كنتاكي) وبيتزا (بيتزا هات) وساندوتشات (ماكدونالدز)». صحيح، وجدت «ماكدونالدز» و«كنتاكي» و«بيتزا هات» في كل شارع. لكن، هناك فرق بين الأكل الأميركي عندما أريده، وبينه عندما لا يكون هناك غيره. اشتقت للأكل الخليجي. ليس فقط الأكل، ولكن لطريقة أكله، ولأجوائه. اشتقت للجلوس على الأرض، والتلاصق مع بعضنا البعض، واختيار قطعة لحم طيبة أضعها في فم الذي يجلس إلى جانبي، حبا وإيثارا. إذا فعلت هذا لأميركي، أو حتى أميركية، تنفر، وتقول لي: «آي ويل فيد ماي سيلف» (سأطعم نفسي). هذا إذا لم تقل لي أن يدي ملأى بالجراثيم.

* أميركا.. حيث كل شيء معملق

* أميركي من جيبوتي تحدث عن صدمته الثقافية على النحو التالي: «من جيبوتي الصغيرة إلى أميركا الكبيرة. هذه ملخص صدمتي الحضارية. كل شيء في جيبوتي صغير: منازلنا، أبوابنا، نوافذنا، شوارعنا، صحون طعامنا، أكوابنا. أول شيء أميركي كبير كان الطائرة الأميركية. عملاقة، وداخلها عشرات الناس، وكأنها السوق الأسبوعية في جيبوتي. وكان الساندويتش كبيرا، والموزة كبيرة. وخرجنا من الطائرة في مطار شيغاو، ورأيت قطع البيتزا الكبيرة، والساندوتشات أكبر وأكبر، وأكواب الكوكا كولا والبيبسي كولا كبيرة، بل عملاقة». ومن الشهادات المؤثرة التي كتبها أجانب حطوا في أميركا، هذه الشهادة لياباني: بعد خمس وعشرين سنة في أميركا، وبعد أن تزوجت أميركية، وأنجبنا أولادا وبنات، سمعت عبارة «اشيان سمايل» (ابتسامة آسيوية). هذه إشارة إلى ظاهرة ابتسام اليابانيين، والصينيين، والكوريين، في المجتمع الأميركي. سمعت العبارة خلال نقاش اشترك فيه أولادي وبناتي: من ناحية، قال بعضهم إن أميركيين يرون في الابتسامة نوع من أنواع التأدب، وإن أصدقاءهم وصديقاتهم الذين يزوروننا في البيت يلاحظون ذلك، ويقولون لهم ذلك.

في ناحية أخرى، قال بعضهم إن أميركيين يسمونها «ابتسامة بلاهة»، وإنها تعبر عن عقدة نقص وسط الآسيويين. أنا الآن في حيرة: هل ابتسامتي دليل على طيبتي؟ أو دليل على بلاهتي؟ وأنا في حيرة أكبر: لماذا لم أنتبه لهذه الموضوع خلال خمس وعشرين سنة في أميركا؟. هذه الشهادات المؤثرة التي جمعت، إن دلت على شيء، فعلى صعوبة الاندماج في مجتمع جديد ومختلف ثقافيا عن المجتمع الأصل. وهي شهادات تدل أيضا على أن اللغة وإن أجادها المهاجر ليست سوى مرحلة أولى صغيرة جدا صوب التعايش مع الآخر تتلوها مراحل أخرى أشد صعوبة وتعقيدا.