فيليب ديليرم صار شهيرا لأنه يعتبر «الكتابة طفولة»

بقي والده يسأله: «لماذا لم يدعُكَ برنار بيفو إلى برنامجه؟!»

فيليب ديليرم
TT

يحتل فيليب ديليرم Philippe Delerm مكانة خاصة في المشهد الثقافي الفرنسي. فإذا كان في القائمة الأولى للمبيعات في فرنسا، خلال السنوات الأخيرة، فإن الأمر لم يكن ورديّا، من البداية. فهذا المدرس للغة الفرنسية في الريف الفرنسي الهادئ، الذي لا علاقة له بصخب العاصمة، رَاكَم التأليف وراكم مراسلة دور النشر الباريسية، ولكنه في المقابل راكم صدود دور النشر ورسائلها الرافضة، بأدب بارد، أحيانا.

وقبل أن يصبح مدللا في البرامج الثقافية في شاشات التلفاز، كما هو الآن، كان عليه أن يقاوم نوبات القلق والفشل والتردد واليأس. وقبل أن يحظى بدعوة من برنار بيفوBernard Pivot، صانع الأدباء، وصاحب البرنامج الأدبي الشهير «بويون دي كولتور» (المرجع المطلق لنقل الأدب إلى الجمهور العريض!)، الذي أعقب برنامجا شهيرا له «أبوستروف»، أوشك على أن يعتبر حياته منتهية. وكان إلحاح أبيه: «لماذا لم يدْعُكَ برنار بيفو إلى برنامجه؟» يحرك فيه الأمل. وفعلا صدقت النبوءة ولكن الأب، حين جاءت دعوة بيفو (المتأخرة!)، كان مرض الزهايمر قد أوصله إلى مستوى الغائب.

ولد فيليب ديليرم سنة 1950 وبدأ سنة 1976 في إرسال مخطوطاته إلى دور النشر ولكنها كانت تحظى بالرفض. وعلى الرغم من أن كتابه «الفصل الخامس» حرك بعض الفضول، وعلى الرغم من صدور ما يقرب من 11 عملا أدبيا، فإن الشهرة الكبيرة والجمهور العريض لم يكونا على موعد إلا سنة 1997 - مع صدور كتابه: «رشفة الجعة الأولى وملذات صغيرة أخرى». ومن حينها وهو يوسع من دائرة القراء والمعجبين. لقد منحه هذا الكتاب حياة جديدة، كما منح حياة ثانية لمؤلفاته السابقة التي ظلت مجهولة من قبل الجمهور.

بماذا يمكن تعريف هذا الكتاب الشعري المنثور؟ يتعلق الأمر، كما يكتب ديليرم ببساطة وتواضع شديدين: «بكتاب يتمنى أن يكتبه كل من ليس بكاتب».

يكتب ديليرم عن الأشياء الصغيرة التي لا ينتبه لها الكثيرون، عن لحظات السعادة القصيرة، ولا يدخل قلمه في غمار الكتابة عن التاريخ والقضايا الكبرى، أي عن المواضيع التي كانت تحرك روايات فرنسا الكلاسيكية. ولهذا السبب أثار نجاح كتابه الصغير والكتب الأخرى التي تبعته تذمر الكثيرين وغضبهم وحسدهم أيضا من نجاحه، فقام بعضهم «بشجب إغفاءة نهاية قرن يكتب فيها الكتاب عن أشياء صغيرة، لأنه تم التخلي فيها عن الأشياء الكبرى».

لم يمر نجاح هذا الكاتب بسلام، فقد تصدى له كبار النقاد الأدبيين بمعول الهدم، فها هو برونو فرابات Btuno Frappat يكتب في عمود في الصفحة الأولى من جريدة «لاكروا»، واصفا فيها كتاب ديليرم بـ«أدب أقزام الحديقة». فيما لامه آخرون لكونه يمارس: «فن الملاءمة بين البقايا».

ما هو الزمن المثالي للكتابة؟ هل ثمة سن محددة للكتابة، وسن أخرى للنجاح؟ لا يجيب ديليرم على هذه الأسئلة، لأنه فعلا لا يملك الأجوبة. ولا يمكن لتجربته المتفردة أن تقتدى، سوى أن الطفولة تلعب دورا لا يمكن الاستهانة به مطلقا. يدافع الكاتب عن «عقلية الطفولة»، ولهذا السبب كرس لها كتابا جميلا بعنوان: «الكتابة طفولة» وهو صادر عن دار ألبان ميشيل الباريسية.

«إنه طفل»، «قال عني باتريك مونتيل»، المتخصص في ألعاب القوى في التلفزيون الفرنسي الرسمي. في حين أن المعلق جاكوب ديليكا في إذاعة «فرانس أنتير» قال عنه: «كلنا سبحنا في نهر الطفولة، أما فيليب ديليرم فقد ظل مبللا». والطفولة كما يعرفها ديليرم: «أن تكون طفلا ليس معناه أن تراكم النساء والسيارات وألقاب الشرف والأوسمة أو أدوار السلطة أو قضاء أمسيات في مشاهدة مباريات كرة القدم. لكنه، في نظري، الحفاظ على الطفولة في أعماق الكائن. وهو ليس دائما امتيازا، فقد يكون أحيانا جرحا». (78)

اللحظة من أجل اللحظة لا تهمني. اللحظة لا تمس أعماقي وتصبح موضوعا من مواضيعي إلا حينما تكون هشة ومهددة ومخصبة بكل اللحظات القوية التي سبقتها. كتبت في مكان ما: «السعادة هي أن يكون لك شخص ستفقده!» ودون أن أحاكي نفسي بسخرية يمكنني أن أضيف: «الكتابة هي طفولة يجب استعادتها». (86)

ويواصل شرحه لدور الطفولة: «القراءة ليست كتابة، ولكنها لقاء. لو قدر لنا أن نعيش جميعا مائة وخمسين سنة، من يدري إن كانت معاييرنا بخصوص (النوعية) و(الأدبي) لن تتغير بشكل جذري؟ لقد آمنت، دوما، بأن الطفولة شيء مطلق. القراءات الأولى، مثل الأحاسيس الأولى، هي الأقوى. لأسباب كثيرة جدا يمكننا إضاعة تذكر هذه الحدة، المرتبطة في معظم الأحيان بسلطة الأسلوب المحكم. ومن يتذكرون هذه الحدة لا يمكنهم، قط، تصديق الحكايات».

الكتابة تحتاج إلى صداقة وأصدقاء. وهم قلائل بالنسبة لديليرم. ثلاثة لا أكثر: جان دورميسون، وجان ماري غوستاف لوكليزيو وألان جيربير. وقد ظلت العلاقات «الصداقية» بينهم، صداقة عبر رسائل ومكاتبات، انتهت وتيرتها مع تمكن ديليرم من موضوعه وثبات جمهوره وقرائه. ولم تنتقل هذه الصداقة إلى لقاء في مطعم، مثلا.

ولكن هذه الصداقات، على دورها في تحقيق ثقة الكاتب بنفسه، لم تمنع قلب الكاتب من الرجفان، وهو ينتظر ردا من «دار غاليمار» بخصوص مخطوط له. «كنت على موعد مع طبيب أسنان. تلقت زوجتي مارتين المكالمة. كان على الخط شخص من دار النشر، (غاليمار). طرح عليها كثيرا من الأسئلة بخصوصي، ثم قال لها إن قرارا إيجابيا سيتخذ بشأن المخطوط، وقيل لها بأن كلود غاليمار نفسه حمل معه المخطوط ليقرأه في نهاية الأسبوع. لا أزال أتذكر يوم أحد، يوم انتظار رهيب، يوم الأول من مايو (أيار)، وكنا في ضيافة أصدقاء، كنت أشعر بصعوبة في ستر الموضوع، وتصنع الاهتمام بموضوع آخر. لا جديد يوم الاثنين وفي يوم الثلاثاء اكتشف كلود غاليمار بأنه مخطوط لا يتلاءم مع روح دار النشر، (غاليمار). بداية حزن طويل. آه، نعم، أبولينير كان على حق، كم هو عنيف هذا الأمل!».

يتذكر ديليرم هذا الأشياء، وهو مقبل بكل حواسه وقواه على عيش اللحظة الراهنة، حيث كل ما يكتبه يتحول إلى نجاح في المكتبات.

لعل الكاتب العربي يأخذ من مثال هذا الكاتب عبرة، فلا يفقد الأمل، رغم مرور السنين، فقد يجد الكاتب المبتدئ، كما قال برنار بيفو، ومن غيره؟! نفسه يخربش كلمات، سرعان ما تقوده إلى جائزة الغونكور، ثم إلى جائزة نوبل.

صحيح، إن «الكتابة طفولة»