دعوة لقراءة جديدة

غدا 48 عاما على رحيل السياب

TT

تصادف غدا الذكرى الثمانية والأربعون لرحيل الشاعر بدر شاكر السياب، ومع ذلك فإن حضوره الشعري، والاهتمام النقدي به شاعرا لا يزالان كبيرين.

وعلى الرغم من كل ما كتب عنه من أبحاث ودراسات، فإن السؤال الذي يثار اليوم، ونحن نستعد لاستقبال الذكرى الخمسين لوفاته، التي هي ذكرى حرية باحتفاء غير عادي، هو: هل ما كتب عن الشاعر وشعره قد أغلق الأبواب أمام كل إضافة يمكن أن تقدمها قراءة جديدة، أم أن الشاعر وشعره لا يزالان يثيران الدعوة، من جديد، لقراءة ثانية أكثر استغوارا لعالم قصيدته، وللمنجز التجديدي الذي قدم؟

فإذا كنت أميل، وأدعو إلى هذه القراءة الثانية، فذلك لأن الكثير الذي يمكن أن يقال في هذه التجربة، وفي المنجز الشعري للشاعر لا يزال معلقا.. فمن ذلك ما لم يطرح السؤال بشأنه بعد، ومنه ما أثير السؤال بشأنه ولم يلق الجواب الذي يؤكد خصوصيته. لذلك فإن الدعوة إلى قراءة ثانية لشعره هي ما ينبغي أن يكون. فمن هذه الأسئلة السؤال عما إذا كان السياب في «رؤياه التموزية»، وقد اعتمدت الأسطورة أساسا ومنطلقا، قد انقطع، بمدى أو بآخر، عن تلك التجربة الرومانسية التي كان شكل منها - وعليها الحضور الشعري الأول له شاعرا. وإن كان هذا الانقطاع قد تم، له ولقصيدته، فبأي ميسم يمكن أن نسم قصائد «حقبة المرض»، التي نجد فيها عودة إلى العديد من الرموز الرومانسية، ومنها «الليل» في بعديه الظاهر والخفي، وهو من أخص الرموز الرومانسية، وأكثرها حضورا، وقد ارتبط به حلم الشاعر الرومانسي أعمق ارتباط؟ وهل هي عودة تحمل شيئا من معالم صلاته الأولى، أم أن فيها رؤية/ رؤيا أخرى؟ هل هي عودة إلى الذكرى بذاتها، أم إلى طيف الحبيبة، أم هي «رؤى الوحشة» تلك التي رآها شاعر من أعمدة الرومانسية، إبراهيم ناجي، «فوق الدرج»، بينما وجدها السياب تلازم سرير المرض الذي لازم سنواته الأخيرة؟

وماذا نسمي ما نجده في قصائد هذه الحقبة من «استبطان التذكر»؟ فهل هو يتذكر لمجرد التذكر والاستعادة، أم أنه عمد إلى محاكمة ما تذكر فاستعاد الحالة والموقف، أم ليعبر عن نفاذ أكبر، وعمق أكثر في ما كان له من «تجارب أولى»، إن في الشعر أو في الحب؟

فإذا كانت غاية الشاعر واضحة في قصائده «التموزية»، وكذا الحال في «جيكورياته».. فإن السؤال هو: هل امتلك الوضوح ذاته، من حيث الغاية والهدف، في قصائد حقبة المرض - التي تشبعت بمدارات أزمنة، وبتغيرات أمكنة، واستعادت ماضيا ضاع من العمر، وحاول الشاعر فيها أن يعيد التلاحم بين «الذات» و«الذكرى» في عهد من حياته وجده يتهدده بفصم الروح (التي كانت حية متوهجة) عن الجسد (الذي هده المرض)، فكان أمام ذلك كمن يجلس مستوحدا في سكون الليل مستجليا حياته بمزيد من استحضار تفاصيلها، وتجاربها، مفكرا من خلال أيامه «الجميلة» الضائعة، بأكثر لحظاتها حضورا، بحياته الحاضرة، فضلا عن «استشارته» أرواح الموتى، ممن كان قد فقد، بشأن هذه الحياة والمستقبل الذي تنتظر، ومستعيدا غيابات الماضي الذي كان اخترق صمته فأنطقه؟ وهل كانت «رحلته» في الليل - ومع الليل قريبة، أو بعيدة من رحلة الشاعر الرومانسي في ما كان له من مدن الحلم، وهو الذي كان يريد تحررا من أسر ما هو فيه من واقع يتداعى عليه بحقائقه القاسية؟

ثم إلى أي مدى كانت قصائد هذه الحقبة «قصائد ليلية»؟ وأين وجدت «أنا» الشاعر نفسها؟ وأين تحقق الحضور الأجلى لها: في الليل الذي كان يكاشف فيه الذات بأسرارها، أم في النهار الذي كان يواجه فيه حقائق الحياة والوجود؟

وهناك السؤال عن هذا التوازي بين «الأنا الشعرية» و«الليل - الرمز»، ففي أي منهما، الذات والليل، كانت الرؤى الشعرية للشاعر تتحرك تحركها الأكبر؟ وإذا كان مجلى الكثير من هذه الرؤى الرمزية هو الليل، فأين أصبح ذلك النهار الذي كان له، بتدفقاته الرمزية، حضوره الأكبر؟ وكيف تحول ذلك الشاعر المندمج ذاتا بعصره وزمنه، والمعبر عن «رؤية/ رؤيا جمعية» إلى «شاعر فردي» الرؤية والهم؟ هل يعود ذلك إلى المرض، أم إلى الخيبة التي نجده، في قصائده هذه، يؤكد على طرفين فيها: سياسي، وعاطفي، أم هو اكتشافه «سراب النهار» من خلال حضور الإنسان المستوحد، وقد آل إليه، مع الليل؟

وإذا كان في «قصائده التموزية» قد عبر عن ذات متعالية بفعل زخم الروح الأسطوري فيها، والذي هو زخم تغاير مع العالم من أجل تغييره، فما الذي بقي من تلك الذات في عملية الإسراء مع الليل، هذه التي عاشها في خلال سنوات المرض؟

ثم على أي نحو ظهر الشاعر في ليل المرض هذا: أبطلا ظهر أم شبحا، منتصرا أم مهزوما؟ وهل أن «حضور الذكرى»، على النحو الذي ظهرت به في قصيدته، قد جرده من حالة الحضور في الواقع، ومن خلال الواقع، أم أنها كثفت هذا الحضور وأغنته أبعادا؟

ومن الناحية الفنية، ماذا أضافت عزلة الشاعر إلى رموز الاغتراب ودلالاته في قصيدته، وفي الشعر المعاصر؟ وهل كانت استعادته الكثير من رموز الماضي الإنسانية، بدءا من «حبيباته المفترضات» اللواتي أحب ولم يبادلنه حبا بحب، إلى جيكور بمشاهدها وناسها الغائبين، هي من قبيل «الحضور التعويضي» عن حالة الفراغ التي عاشها على سرير المرض، حيث لا سامر ولا أنيس يخفف من شعور المستوحد الذي عاشه؟

وإذا كان هذا كله يتحدد، من حيث أهميته الذاتية (لا الشعرية التي ستكون انعكاسا له)، بما يتجسد بمستويات دلالية في «وعي المستوحد»، بما يفصح عنه هذا الوعي: من ذكرى كانت غائبة، يقرأ في استعادتها دلالات جديدة تساعد في وعي حالته الحاضرة.. أقول: إذا كان هذا كله قد حصل، فهل جاء من قبيل استعادة الذات الفاعلة في زمنها، والمتفاعلة مع ذكريات ذلك الزمان، هي من قبيل مواجهة «أعطال الحياة» التي أصابته جسدا، فيستعيد ما كان قادرا عليه «فعلا» و«حركة وجود» لم يتبق له منهما سوى «حركة الذات» و«حضور الذاكرة»؟ وفي أي المجالات، والحالات، سارت هذه الذات بالتوازي مع ماضيها، ومع أي منها حصل التغاير والتقاطع؟ وعلى أي نحو تفاعلت مع عناصر السياقات الشعرية التي اتخذتها قصيدته؟ وإذا كان «الوجود الخارجي» الذي خاطبه السياب ليس واحدا - بل بتعبير أدق: لم يكن أمامه على حال واحدة، فهل كان لهذا التبدل والتغير، واقعا أو نظرة ذاتية، من علاقة بتأملات الشاعر «أناه»، وتعرفها نفسها، واستعادة ما كان لها من ذكريات كان الآخرون والواقع الطرف الأبرز فيها؟ وهل انبنى هذا، شعريا، على وعي الذات بذاتها وحسب، أم مازجه شيء من وعي الوجود؟ فحضور «الأنا» في قصائده هذه لم يكن حضورا مجردا، وإنما هو حضور غير منفصل عما أعطته هذه الذات. فإذا كان الأمر كذلك، فماذا كانت، بالمقابل، تسترد؟

وفي مستوى اللغة الشعرية، هل كانت لغته التي استعاد بها تلك المعاني والرؤى القديمة هي من لغة ذلك الماضي الشعري، أم أنها «لغته الجديدة» وقد أدخل عليها «التعديلات» المتوافقة مع تلك الأجواء، لكي لا تكون غريبة عليها؟

وإذا كانت حياة المرض قد دفعته إلى الرحلة بحثا عن الشفاء، فكانت الرحلة بين بيروت، ولندن، وباريس.. فأي أبعاد شعرية اتخذت هذه الرحلة في قصيدته؟ وهل كانت رحلة كشف واكتشاف، وهو الذي وظف «السندباد رمزا» في قصائد سبقت رحلته هذه، وعاد يوظفه، في قصائده هذه، على نحو آخر؟ هذه التساؤلات، وأخرى تتصل بمراحل قصيدته، لا بد أن تجدد رحلة البحث في شعر الشاعر بما يمكن أن ندعوه «قراءة ثانية».

* ناقد عراقي