المشهد الثقافي المصري في خندق «اللحظة الخطرة»

مؤتمر للشعر وافتتاح حزين لمهرجان القاهرة السينمائي وسوق نشر شحيح انحصر في بعض الكتب السياسية

الثورة المصرية
TT

يبدو أن عام 2012، كسابقه، عام سياسي إلى حد كبير بتأثير ثورات الربيع العربي، التي فرضت رؤى جديدة على أكثر من صعيد، والتي لا تزال أيضا مضطربة، غير واضحة المعالم في مواضع كثيرة، وخصوصا على البنية الثقافية، بعد أن تخللت كثيرا من البنى الاجتماعية والاقتصادية في البلدان التي شهدت انتصار هذه الثورات. وربما نحتاج إلى سنوات طويلة قبل أن نتبين انعكاساتها على مجمل العملية الثقافية في البلدان التي شهدت انتصارها، الذي لا يزال منقوصا، أو مرتبكا. وهو شيء طبيعي في أزمنة التحولات الكبرى. والشيء الأكيد أن الثقافة العربية لم تعد كما كانت، سواء تجسد ذلك في نتاج مادي، أو لم يتجسد بعد، لأن ذلك أيضا يتطلب زمنا طويلا. ولكنّ شيئا كبيرا حدث في كل الأحوال، وهو ما انعكس سلبا أو إيجابا، حسب ظروف كل بلد، على مجمل النشاطات الثقافية، مسرحا وشعرا ورواية وتشكيلا وموسيقى وسينما، بأشكال مختلفة، كما نلحظ في استفتائنا هذا حول الوضع الثقافي عام 2012 في بعض البلدان العربية.

خيم الواقع السياسي المضطرب في البلاد على المشهد الثقافي المصري خلال عام 2012، ووضعه في خانة «حراك اللحظة الخطرة»، وهي لحظة ضبابية منطمسة الرؤى والملامح. فما تزال شعارات الثورة التي طالبت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية تصارع من أجل التحقق على أرض الواقع، وتواجه تعنتا ومقاومة من قبل مؤسسات وقوى سياسية تسعى لـ«اغتيال» الثورة وحرية الإبداع تحت مظلة شرعية سياسية وقانونية ملتبسة ومعقدة تكرس للاستبداد، تتماهى مع جوهر النظام البائد، وقد نجحت في تمرير دستور معيب يفتقد أبسط قواعد الاتفاق الوطني باعتباره يمثل العقد الاجتماعي للبلاد، بحسب معظم المراقبين.

وسط هذا الواقع، وتهديدات وصلت إلى حد القتل يتعرض لها رموز من الكتاب والمفكرين والمبدعين، وتصريحات تحط من شأنهم بالسب والشتم، ودعوات لتكميم الأفواه وسلب الحريات من قبل جماعات الإسلام السياسي، لا يمكن الحديث عن ثقافة بالمعنى الحقيقي في مصر الآن.. الثقافة مؤجلة ومعطلة ومختطفة بـ«فعل فاعل»، وقصارى جهدها أن تقف في خندق الثوار والقوى السياسية المعارضة من أجل منع هيمنة جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية المتشددة على مفاصل الدولة.

في إطار تلك اللحظة الخطرة يمكن أن نتأمل المشهد الثقافي المصري بوصفه «مشهد أزمة»، يراوح بين القبول بسياسة الأمر الواقع وترك وتيرة التغيير وإعادة ترتيب الأشياء لمصادفة الزمن والظروف، وبين الرفض وعدم الإذعان والدفاع عن كينونته المهددة، وهو ما بدأ يتحقق على أرض الواقع في تشكيلات وتكتلات مناهضة، استطاعت أن تلم شتات المثقفين والمبدعين تحت مظلة واحدة، كان من أبرز هذا التكتلات «جبهة الدفاع عن الإبداع» التي ضمت كل أطياف العمل الثقافي، ونظمت مؤتمرات ووقفات احتجاجية كان لها صدى في الواقع.

لكن خوف المثقفين المصريين يتسع حين يلتفتون قليلا إلى الوراء ويجدون في ذاكرتهم أن أيدي متعصبين من هذا التيار، الذي استشرى حاليا على الساحة بأقنعة شرعية مراوغة، كان وراء محاولة اغتيال مؤسس الرواية العربية الحديثة نجيب محفوظ أمام منزله على يد شاب متطرف دينيا، مدفوعا بفتاوى تكفير كثيرة، ظلت تتوالى منذ أصدر محفوظ روايته «أولاد حارتنا» في عام 1959، وحتى حصوله على جائزة نوبل في عام 1988، وهي التي اغتالت المفكر المؤثر الدكتور فرج فودة في عام 1992 وهو خارج من مكتبه بصحبة ولده الصغير وأحد أصحابه، وهي التي شردت المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد وأجبرته على العيش في منفى قسري في إحدى الدول الأوروبية، وهي التي صادرت كمّا من الكتب والإصدارات المهمة كان من بينها رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر، و«فقه اللغة العربية» للدكتور لويس عوض، وقصيدة «شرفة ليلى مراد» للشاعر حلمي سالم، وطالبت بإهدار دمه، كما نادت بمصادرة «ألف ليلة وليلة» ومؤلفات ابن عربي، وغيرها من الإصدارات التراثية.

في هذه اللحظة الاستثنائية الفارقة كان طبيعيا أن يخيم الحزن على حفل افتتاح الدورة الخامسة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي، أحد أبرز أحداث هذا العام، حيث رفضت العديد من النجمات السير على السجادة الحمراء كما رفضن ارتداء ملابس سهرة بألوان مبهجة وارتدين ملابس سوداء. واختفت من المهرجان الذي أقيم على بعد خطوات قليلة من ميدان التحرير أيقونة الثورة المصرية مظاهر الاحتفال المعتادة كالألعاب النارية والفقرات الاستعراضية، وزادت حالة الحزن بعدما بكى الفنان عزت أبو عوف، رئيس المهرجان على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية وهو يهدي هذه الدورة لشهداء «ثورة 25 يناير (كانون الثاني)»، «الذين ضحوا بحياتهم من أجل حياتنا».

أيضا في غبار هذا المشهد المأزوم، استطاعت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة بقيادة مقررها الشاعر ماجد يوسف أن تقيم وعلى مدى ثلاثة أيام في الفترة من 18 - 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي المؤتمر الأول للشعر المصري، وسمت هذه الدورة باسم الشاعر الراحل فؤاد حداد، احتفاء بدوره الريادي ومنجزه الشعري الخصب، ورأس المؤتمر الناقد الأدبي الدكتور عبد المنعم تليمة، وناقش المؤتمر تحولات الشعر المصري الراهن، من خلال 9 جلسات بحثية وعدد من الموائد المستديرة شاركت فيها كوكبة من النقاد وأساتذة الأدب من المصريين وبعض الضيوف العرب، كان من أبرزها «تجليات الخطاب الشعري الكلاسيكي»، و«أبعاد التحديث في شعر التفعيلة» و«تحولات شعر العامية المصرية» و«المأثور الشعبي وشعرية الأطراف» و«قصيدة النثر في المشهد الشعري المصري».

وأقيمت على هامش المؤتمر 6 أمسيات شعرية، شارك فيها عدد كبير من الشعراء المصريين، الكبار والشباب، وتوزعت بين المجلس الأعلى للثقافة و«أتيلييه القاهرة» و«كرمة ابن هانئ (متحف أحمد شوقي)».

وبالقرب من هذا المشهد تبدو سوق النشر فاترة وشحيحة، وانحصرت العناوين اللافتة في أجندة الناشرين في بعض الكتب ذات الصبغة السياسية التي حققت رواجا ما بحكم طبيعة هذه وتماسها مع الظرف السياسي الراهن، ومن أبرز هذه الكتب «سنوات الخداع» للدكتور محمد البرادعي أحد أبرز قيادات المعارضة في مصر، الذي يحكي فيه مذكراته عن كواليس عمله مديرا لوكالة الطاقة الدولية، كاشفا العديد من نقاط التواطؤ والخيانة على مسرح الدبلوماسية النووية الدولية، وتصدر كتاب «سر المعبد» للدكتور ثروت الخرباوي قائمة الكتب الأعلى مبيعا، وأعيدت طباعته نحو 7 مرات، ومن واقع تجربته قياديا سابقا في جماعة الإخوان المسلمين، يروي الخرباوي في الكتاب الأسرار الخفية للجماعة ويكشف كثيرا من أقنعتها بشكل واقعي يمزج بين طزاجة الرؤية والتوثيق. وبنسب متفاوتة في التوزيع، غازلت سوق النشر مجموعة من الكتب الأدبية والشعرية؛ من أبرزها روايات «الفيل الأزرق» لأحمد مراد، و«باب الخروج» لعز الدين شكري، و«محال» ليوسف زيدان، و«الرجال من بولاق والنساء من أول فيصل» لإيهاب معوض وهو كتاب ساخر يأخذ شكل «الاسكتشات السردية» في التعامل مع الوقائع والأمكنة والبشر والأشياء، كما برز ديوان «ESTERN UNION فرع الهرم» لمصطفى إبراهيم وهو كتابة بالعامية المصرية مفعمة بروح المفارقة والسخرية. أيضا انضم لقائمة هذه الكتب الروايات المصرية الثلاث التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة الـ«بوكر العربية» عن العام المقبل وهي: «مولانا» لإبراهيم عيسي، و«رجوع الشيخ» لمحمد عبد النبي» و«تويا» لأشرف عشماوي.

لكن مخاوف المثقفين لا تقتصر فحسب على صعود تيار الإسلام السياسي وهيمنته على سلطة التشريع التي انتقلت مؤقتا إلى مجلس الشورى لحين انتخاب مجلس النواب، وإنما أيضا من غياب تصور مستقبلي للثقافة المصرية في أجندة الأحزاب الليبرالية، وهو مما يجعل الباب مفتوحا لكي يشدد تيار الإسلام السياسي قبضته على حرية الرأي والإبداع وإشاعة تصوره الوعظي الأخلاقي عن دور الفن في نهضة المجتمع. الأمر الذي يجعل كثيرا من المتابعين يرون أن تعزيز ثقافة وإبداع الشارع وإزكاء روح التحريض والرفض في النص الأدبي والفني، سيفتح لغة الحوار بشكل فعال بين المثقفين أنفسهم وبينهم وبين قوى المجتمع، كما سيفتح نوافذ جديدة للعمل المشترك. مدللين على ذلك برسوم الغرافيتي على جدران الشوارع والميادين في القاهرة وكثير من المحافظات التي نجحت في أن تكون سلاحا فنيا وثوريا في يد شباب الثورة، ضد بطش وقمع الأجهزة الأمنية.

وفي ظل حراك «اللحظة الخطرة» التي يعيشها هذا المشهد، يشدد المتابعون كذلك على ضرورة أن ينهي المثقفون عزلتهم، وأن يكثفوا من لقاءاتهم وتجمعاتهم، وأن يتخلوا عن نخبويتهم، وأن يدركوا أن لعبة التوازن الفجة خاصة في علاقتهم بالسلطة قد انتهت إلى غير رجعة. أيضا عليهم أن يدركوا قبل كل شيء أن مستقبل الثقافة مرهون بهم أولا وأخيرا.. هم صناعه، وهم المسؤولون عن لحظات صعوده وهبوطه، وهم ملاك بنيته التحتية، ومن واجبهم أن يدافعوا عنها.

ولم يشأ هذا العام أن يمر دون أن يخسر المشهد الثقافي المصري كوكبة من أهم فرسانه ومبدعيه، غيبهم الموت تحت وطأة المرض وإحباطات الواقع، منهم الروائيان إبراهيم أصلان ومحمد البساطي، والشاعران حلمي سالم، وأحمد زرزور، والكاتبان الصحافيان جلال عامر، وسلامة أحمد سلامة، والكاتبان المفكران الدكتور ميلاد حنا، والدكتور عبد الغفار مكاوي.