عودة إلى الكلاسيكية من بوابات الحداثة

ترجمة عربية لرواية خالد حسيني «عداء الطائرة الورقية»

غلاف عداء الطائرة الورقية
TT

عندما انتهيت من قراءة «كايت رنر» للأفغاني الأميركي، خالد حسيني، بلغتها الإنجليزية، بقيت فترة أسير فضاء النص، مهموما بحكاياته، لم تفارقني تلك المتعة الفريدة التي قلما رافقتني في رواية قرأتها خلال السنوات الأخيرة، ربما باستثناء «بجعات برية»، للصينية يونغ تشانغ. لم تكن حكاية أمير وصديقه حسن المفجعة، التي «لا تنسى» برأي إيزابيل الليندي، و«تظل معك لسنوات»، وحدها عنصر القوة في الرواية، بل أفغانستان التي كانت حاضرة أيضا، في ذهني في ثلاث فترات حكم مرت بها، هي: الحكم السوفياتي، وحقبة المجاهدين وطالبان وطرد السوفيات، ثم حقبة الغزو الأميركي الذي جاء بحميد كرزاي على رأس ديمقراطية لم تزل أفغانستان تنزف منها دما. وهذا سبب إضافي آخر، لفهم إقبال الأميركيين عليها، حيث جنودهم يقتلون هناك، وحيث أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 التي آذتهم بقسوة داخل البيت الأميركي نفسه. وكان حسيني، أول روائي أفغاني يقدم للأميركيين وللقارئ الغربي، ثقافة بلاده عبر عمل متخيل، على ما قيل.

تذكرت هذا كله، خلال قراءتي للنسخة العربية الرسمية، التي أصدرتها، أخيرا، دار «بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر» (في السوق نسخة عربية مقرصنة). فتقديم هذا النص البديع، لقراء العربية، ينطوي على قيمة إضافية واستثنائية، ناتجة عن ارتباط أفغانستان نفسها بالمنطقة العربية أيضا، وتداخلها مع مشكلاتها وأيديولوجياتها كبلد ارتبط اسمه بالإرهاب، لم يصدر بضاعته الرئيسية إلى الولايات المتحدة وحدها، وإن أوجعها أكثر من غيرها، بل وزع «أفضاله» الكارثية على غير بلد. نسخة «عداء الطائرة الورقية» التي بين أيدينا، وتقع في 507 صفحات من القطع المتوسط، من ترجمة إيهاب عبد الحميد، تحقق متعة قراءة استثنائية. ترجمة جميلة ولغة نظيفة.

تغطي «عداء الطائرة الورقية» حياة وتقاليد ثلاثة أجيال أفغانية. تدور أحداثها في سبعينات القرن الماضي. وهي عن صبيين صديقين، يتيمي الأم، نشآ معا وكبرا معا، سارا جنبا إلى جنب، وحملتهما نوازع بشرية، وأخرى أفرزتها خلافات قبلية، إلى تحطيم بعضهما.

عاش بطل الرواية، أمير، مع أسرته المكونة من والده، طوفان آغا، الأب الناجح والغني في كابل، في حقبة الملك ظاهر شاه التي استمرت حتى عام 1973. العام الذي شهدت فيه أفغانستان الانقلاب العسكري ضد الملك، وقاده ابن عمه ورئيس وزرائه الأسبق، محمد داود، وعاش معهم خدمهم المخلصون: علي الذي خدم العائلة لأجيال عدة، وكان شريكا للأب طوفان في الأعمال التجارية، وابنه الصغير حسن، وكذلك رحيم خان، الصديق المقرب من الأب.

ينتمي أمير إلى أب باشتوني. وقد عاش وسط عائلة موسرة. أما صديقه حسن، فكان خادمه المطيع، وكان ابنا لقبيلة من الهازارا. والرواية، هي حكاية أمير وحسن، الصديقين اللذين باعد بينهما حادث مفجع ذات يوم. ورغم أن علاقة أمير وحسن، ظلت قوية في ظاهرها، إلا أن الفوارق القبلية والطبقية والمذهبية الدينية، لعبت دورا في خلق أرضية مناسبة لتباعدهما. فأمير سني بينما حسن شيعي. وأمير ابن عائلة غنية، وحسن خادمه الفقير. وقبليا ينتمي أمير إلى الباشتون بينما حسن للهزارا. ورغم هذا، ظل أمير يشعر بالغيرة من صديقه. كان حسن دائما متفوقا عليه، وكان محط إعجاب والده طوفان، الذي كان يرى في حسن من الصفات ما يتمناه لابنه. عقدة النقص هذه، وتجاهل الأب لابنه، حركتا الحوافز الكامنة لدى أمير الذي تربى على أن الهزارا ليسوا سوى خدم وضيعين. وجاء اليوم الذي شكل ما حدث فيه نقطة التحول الكبرى، في حياة الصديقين.

هاجم عدد من الصبية البشتون السنة الأغنياء حسن، واعتدوا عليه واغتصبوه. وقف أمير يتفرج متخليا عن صديقه، كان بإمكانه أن ينقذه، لكنه ظهر جبانا.

رغم البناء الكلاسيكي للشخصيات، وتمحور الرواية حول أمير بطلا، وساردا أيضا، مما وضعنا في أجواء السيرة الذاتية، إلا أن البناء الروائي جاء مختلفا. فقد أدخلنا الكاتب إلى عمله من الوسط، من نقطة التحول تلك، السر (الحادثة) الذي قبع في داخل حسن وأثر على مجمل حياته. من نقطة التشابك تلك، بدأ خالد حسيني روايته بفقرة بالغة الدلالة، تشير إلى مسار حياتي كامل: «في الثانية عشرة من عمري، أصبحت ما أنا عليه الآن. حدث ذلك في يوم قارس البرودة ملبد بالغيوم من شتاء 1975. أتذكر اللحظة بدقة، وأنا منكمش خلف جدار طيني متصدع، أختلس النظر إلى الزقاق القريب من الجدول المتجمد. حدث ذلك منذ زمن طويل، لكني تعلمت أن ما يقولونه عن الماضي، عن قدرتك على دفنه، خطأ. لأن الماضي يشق طريقه. والآن، وأنا أستعيد ما جرى، أدرك أنني ظللت أختلس النظر إلى ذلك الزقاق المهجور للسنوات الست والعشرين الأخيرة من حياتي».

عاش أمير سنوات طويلة مع عقدة الذنب الناتجة عن خيانته لصديقه، وهما في الثانية عشرة من العمر. يعاني من خجله وجبنه، يبحث، باستمرار، عن خلاص نفسه من خيانته. دخلت تفاصيل الحرب في أفغانستان حياة الصديقين وألقت بظلالها على تفاصيلها. كان على أمير ووالده الرحيل عن البلاد والاستقرار في فيرمونت بكاليفورنيا الأميركية، في ضاحية تقطنها جالية أفغانية راقية. وبقي علي وحسن في أفغانستان الزاحفة نحو الدمار والخراب.

تيمات الرواية كثيرة: الحب، التضحية، الولاء، الوحشية، علاقة الأب والابن، الصداقة، الأسرار، الخيانة، والوفاء. يوالف حسيني بين هذه التيمات التي «تحرك المشاعر» كما قالت: «صنداي إكسبريس»، في تعامله مع جوهر تلك الصفات والخصائص البشرية التي تلامس مشاعر الجميع.

في فيرمونت الأميركية، حيث يبدأ الأب وابنه في بناء حياة جديدة مختلفة، يدخلنا الكاتب في مناخات أخرى. ينسحب مستوى التشويق في الرواية، ويتراجع نسبيا لصالح سرد أكثر هدوءا. يختفي من النص توتره ويكف عن اللهاث. قد يكون ذلك ملائما لشعور أمير بقربه من الخلاص من عقدته. لكن الرواية تعود وتستعيد إيقاعها السابق مع عودة أمير إلى أفغانستان بحثا عن حسن وعلي، ونتذكر مجددا، أن مأزق أمير وعذابه لم ينته، وأن ماضيه لن يكف عن ملاحقته بسبب خيانته الأخلاقية لحسن، لا يتركه أبدا وهو الباحث عن تصالح معه. ظن أن الهجرة قد تطمسه تحت ركام تغيرات الواقع الجديد. لكنه، وكما جاء على لسانه كسارد، في الفقرة الافتتاحية، تعلم «أن ما يقولونه عن الماضي، عن قدرته على دفنه، خطأ، لأن الماضي يشق طريقه: حتما».