متاحف لذكرى «الأنظمة الديكتاتورية» في أوروبا

نزعة جديدة تستيقظ من سبات الحرج التاريخي

TT

السؤال ليس مطروحا عند العرب بعد، في ظل غياب الثقافة المتحفية بمعناها العلمي، لكن أوروبا تساءلت طويلا حول مشروعية إقامة متاحف مخصصة للحروب ومآسيها وفتحها للزوار، وربح الأموال بفضلها، وأخذ الصور مع محتوياتها التي تذكر بالتعذيب والتنكيل. الجواب بات واضحا اليوم في أوروبا، ألمانيا ماضية في إقامة متاحف تستعرض الحقبة النازية، وإيطاليا تستثمر تاريخ الطاغية موسوليني، كما تستفيد بولندا من تاريخها الهتلري، وبلغاريا من حقبتها الشيوعية، بينما تبقى فرنسا حرجة من الفكرة.. كيف تتحول معاقل وأدوات التعذيب والترويع إلى مزارات سياحية؟ كيف تنقل لنا المؤسسات المتحفية ذكريات الحروب وسنوات الدمار والخراب من دون أن تسيء لدورها في نشر قيم التسامح والجمال؟ كيف لمثل هذه المرافق الثقافية التي تعودت سرد حكايات الفن والجمال أن تنقل لنا أحداثا قاتمة سوداء لا تحمل من الذكريات سوى الأليمة منها؟

هذه القضية الشائكة ظلت تؤرق المثقفين والمبدعين الأوروبيين وإن كان العديد منهم قد تطرق إليها من خلال البحوث التاريخية والمؤلفات الأدبية والأعمال الفنية إلا أنهم ظلوا منقسمين حول مسألة عرض ذكريات الحروب القاتمة في مؤسسات متحفية كما يعرض أي موروث ثقافي أو تاريخي آخر. فرنسا تجنبت إلى الآن تقليب المواجع واكتفت بمتحف مخصص للحرب العالمية الأولى في مدينة «مو» بعيدا عن أضواء العاصمة الثقافية باريس، بينما تركت للجيش مهمة تنظيم أول معرض حول الحرب في الجزائر. في حين تبقى جل التجارب المهمة في ألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية التي انطلقت منذ سنوات في عرض ما خلفته سنوات الحرب والدمار واستبداد النازيين والشيوعيين من دون عقد أو خوف من إيقاظ أشباح الماضي.

* ألمانيا تعرض تاريخها النازي

* قد يرجع ذلك إلى تاريخ ألمانيا النازية أو لكونها حاربت معظم الدول الأوروبية واحتلت الكثير منها. لكن ألمانيا تبقى اليوم أكثر الدول الأوروبية جرأة في عرض تاريخها الاستعماري. الجرأة الكبيرة التي احتاجها هذا البلد لعرض الحقبات السوداء من تاريخه يفسرها الباحث المتخصص إتيان فرنسوا في «قاموس العالم الألماني» (دار نشر بايار 2007) بمعضلة «تجاوز الأفق المستحيل» الذي يتجسد تحديدا في فترة حكم النازيين وحائط برلين وهما النقطتان السوداوان في ذاكرة هذا البلد.

هذا الإرث الثقيل جعل ألمانيا تنطلق منذ سنوات في تجارب متحفية فريدة من نوعها كنوع من العلاج النفسي الذي يتبعه المصابون بعقدة ذنب كبيرة للتخلص من معاناتهم النفسية. أهم هذه المشاريع «دوتش استوريش موزيووم» أو «المتحف التاريخي الألماني» الذي يعتبر بحسب شهادة إيرفي لوموان كبير أمناء متاحف فرنسا «أحسن المتاحف التي تعرض تاريخ الحرب العالمية على الإطلاق». وحاول الفرنسيون تقليده عبثا من خلال مشروع متحف الهجرة لكنه لم يرق لنفس المستوى.

المتحف الموجود في مدينة برلين صمم بمعية لجنة من الباحثين والمؤرخين الذين اختاروا سرد الأحداث التي عاشها هذا البلد بتسلسلها الزمني مع عرض حياة شخصيات معروفة، وقطع خلفها الجيش النازي، ولكن بطريقة علمية تربوية بعيدة كل البعد عن الدعاية السياسية.. علما أن الألمان خصصوا لهذا المتحف ميزانية 20 مليون يورو، 4 ملايين منها استخدمت لاقتناء القطع. والمتحف يستقطب سنويا ما يناهز 900 ألف زائر. نجاح المتحف يفسره مديره هانس أوتومايير بـ«جرعة من الجرأة وضعفها من الحيطة والاعتدال». وهو ما احتاجه في عروضه المتميزة كمعرض «هتلر والألمان» الذي حطم أرقاما قياسية في عدد الزيارات وصلت إلى 250 ألف زائر في ثلاثة أسابيع فقط، متعرضا لشخصية الزعيم السابق أدولف هتلر وسر تعلق الألمان به. لكن الحذر الشديد بقي مسيطرا على المعرض، ابتداء من عنوانه إلى التسجيلات الصوتية لهتلر التي حذفت من ين المعروضات لتفادي الوقوع في خطأ تمجيد الشخصية.

الهيئات الثقافية الألمانية تعلمت من أخطاء الماضي، تحديدا تلك التي وقعت فيها بإنشائها لمتحف «تشيك بونت شارلي» الذي كان يمثل نقطة التفتيش السابقة بين برلين الشرقية والغربية أيام الحرب الباردة، ورغم أنه يعتبر الأكثر زيارة في ألمانيا حيث يستقطب سنويا 4 ملايين زائر، لكن مهاجميه يلومون عليه اليوم تحوله لمشروع ربحي همه الأول تحقيق مردود مالي من دون احترام لذاكرة الأحداث التي شهدها هذا المكان، حتى لقب بـ«ديزني لاند التاريخي».

المسؤولون الألمان قرروا الاستفادة من صيت متحف «تشيك بونت تشارلي» لإنشاء متحف ثان غير بعيد عنه، لكنه أكثر عمقا واحتراما لتاريخ الحرب الباردة يدعى «العلبة السوداء»، يضم خرائط ووثائق وتسجيلات مهمة تخص هذه الفترة، ومن المنتظر أن يفتح أبوابه بصفة منتظمة ابتداء من 2015 إلى جانب متحف آخر، خاص بالمخابرات الألمانية النازية المعروفة بـ«الكستابو» في مقرها السابق بقصر «هيملر» على امتداد مساحة 800 متر مربع. وفي المتحف مكتبة تضم 20 مؤلفا حول الآيديولوجية النازية، وقاعة للمحاضرات، وأخرى للأفلام الوثائقية.

* المعتقلات النازية.. منتجعات سياحية

* الزائر لأوروبا الشرقية لا يستطيع تجاهل بولندا ولا متاحفها التي وضعت أوزارها في معتقلات «أشفيتز» المحملة بذكريات الموت والتعذيب. متاحف غير عادية تستقبل سنويا مليونا ونصف المليون زائر، اختارت بولندا فتحها تخليدا لذكرى ضحايا الحرب العالمية الثانية، تعرض فيها على امتداد 191 هكتارا الأغراض الشخصية للمعتقلين.. حقائبهم، وأحذيتهم، وملابسهم، وأيضا مذكراتهم وصورهم العائلية.

رغم إدراج المعتقلات السابقة في قائمة التراث الثقافي العالمي لليونيسكو، لكن ظهور ما يسمى بـ«سياحة المحرقة» بعد فتحها أمام وفود السياح أثار جدلا كبيرا على اعتبار أن ذلك قد يسيء لذاكرة الضحايا وعائلاتهم. يقول الباحث الفرنسي جيلبار كاساروس ناقلا شهادته الشخصية: «وأنت تتجول بين هذه المعتقلات التي تفوح منها رائحة الموت تحس بنوع من الحرج.. كيف تستمتع بزيارتك وكأنك سائح يتجول بين أهرامات الجيزة أو برج إيفل؟ حرجك يكبر أكثر حين تسمع مرشد المتحف وهو يصف لك يوميات المعتقلين بلهجة روتينية وكأنه يقرأ نصا رسميا. لا مكان للتأمل ولا حتى لطرح أسئلة حول مآسي الضحايا. الجولة داخل المعتقل تنتهي في نحو ساعتين، والأغرب أنك حين تنتهي من زيارتك تجد نفسك وأنت تقتني بطاقة بريدية لأصدقائك وكأنك سائح عادي».

* بلغاريا وإيطاليا تجلبان السياح بمتاحف للأنظمة الشمولية

* النزعة نحو «متحفة» ذكريات الحروب طالت أيضا بلغاريا التي فتحت في العاصمة صوفيا متحفا لـ«الفن الاشتراكي» يضم 60 لوحة، و77 منحوتة، وأكثر من 30 قطعة كلها تخص بصفة مباشرة الماضي الشيوعي لهذا البلد: لوحات وتماثيل لستالين ولينين وماركس ووثائق للدعاية الحزبية وكتابات شعرية ونثرية تمجدهم. سابقة أولى من نوعها، فحتى هذا اليوم، لم يجرؤ أي بلد من الكتلة السوفياتية السابقة على عرض ذكريات سنوات حكم الشيوعيين. خطوة جريئة يفسرها وزير الثقافة البلغاري، فيجدي راشيدوف لصحيفة «لكسبرس» الفرنسية بقوله: «هي حقبة مهمة من تاريخنا لا يمكن أن نتجاهلها. بذلنا جهودا كبيرة لجمع التحف والحفاظ عليها من الزوال، ورغم التحفظات والانتقادات حان الوقت لعرضها على العالم».

إيطاليا هي الأخرى لم تخش لومة اللائمين حين سمحت بتحويل المنزل السابق للزعيم الفاشي بينيتو موسوليني لمتحف يزوره سنويا بين ثمانين إلى مائة ألف زائر. عدة مرات في السنة يفتح البيت العائلي لـ«الدوتشي»، وغرفة نومه، ومكتبه، وحتى قبره لكاميرات الفضوليين، أكثر من ذلك يعتبر جيورجو فراسيتيني، عمدة بلدة برادبيو الصغيرة (6500 نسمة) - مسقط رأس موسوليني - أن مشروع تحويل «ألكازا دال فاشيو» لمتحف قد صمم للصالح العام. فزيارات السياح سمحت بتنشيط السياحة المحلية والتجارة بافتتاح متاجر وفنادق جديدة، ولا علاقة لهذا بإحياء أمجاد شخصية الزعيم الفاشي السابق موسوليني.. بل إن إقبال السياح على زيارة متحف «ألكازا دال فاشيو» شجع مسؤولي هذه البلدة الإيطالية على التعاون مع جيرانهم في البلدات المجاورة التي عرفت بماضيها الفاشي كبلدة فورلي لإنشاء مشروع «أتريوم». وهو مسار سياحي ثقافي يضم المعالم الأثرية والهندسية لكل المدن الأوروبية التي اختارها الفاشيون كمقر لهم. مشروع جدي بما أن القائمين عليه طلبوا لإنجازه المساعدة المادية من الاتحاد الأوروبي، لكنه لقي معارضة بعض المثقفين أمثال الباحث جيورجو بيليغريني الذي كتب على صفحات «لا ستمبا»: «هل يمكننا أن ننظر لهذه المدن بأعين جديدة من دون أن نحس بثقل المآسي التي حدثت داخل كل بناية فيها؟!».

رغم كل الانتقادات، فإن نزعة الدول الأوروبية الجديدة نحو عرض ذكرياتها مع الحروب في إطار مشاريع متحفية جديدة تزداد يوما بعد يوم. الخطر هو أن تصبح ظاهرة يلتف حولها المتطرفون وكل المشتاقين لزمن الأنظمة الفاشية.