عماء الآيديولوجيا

فاضل السلطاني

TT

في كتابه «سر المعبد»، الذي أحدث ضجة في مصر لم تهدأ بعد، يروي الدكتور ثروت الخرباوي، القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين, تجربة انتمائه لهذه الجماعة، وآلية تنظيمها، ورؤاها المضطربة، وأسرارها الداخلية، مما يكشف كثيرا من حقيقتها، التي نجحت في التمويه عليها ربما منذ سيد قطب، خاصة في كتابه «معالم في الطريق» الصادر عام 1946، الذي أصبح برنامج عمل للجماعة. ولكن المسألة ليست هنا. إنها تكمن في استنتاجه، الذي عبر عنه بوضوح في سلسلة مقابلات مع فضائية «العربية»، وهو أن هذه الجماعة لم تنتج مفكرا واحدا طوال تاريخها الطويل. وهو تشخيص سليم، ولكنه لا ينطبق على جماعة الإخوان المسلمين وحدهم، وإنما على المجموعات والأحزاب الآيديولوجية طوال التاريخ، سواء أكانت هذه الجماعات إسلامية أم علمانية.

ونقصد بمفكر هنا، المعنى الحقيقي للكلمة، التي بدأنا نبتذلها، ونطلقها كيفما نشاء. فالمفكر الحقيقي هو ذاك الذي يقدم قراءة عميقة لواقعه، مكتشفا قوانينه الداخلية غير المرئية منا، رابطا بين الأسباب والعلل والظواهر في نسق علمي مترابط، يرتفع إلى مستوى منظومة فكرية متكاملة أو شبه متكاملة يتيح لنا فهم هذا الواقع، والقوى التي تحركه، مما يزيدها بالمعرفة الكافية لفهمه وتغييره، وتغيير أنفسنا أيضا.

المجموعات والأحزاب الآيديولوجية تطرد الحراك الفكري؛ لأن مثل هذا الحراك يهدد تصوراتها الوهمية حول نفسها، واستنادها لقوة غامضة من التفسيرات النصية، والتأويلات المتضاربة التي ترفعها إلى مستوى المقدس. إنها تحتكر أي نص، وتجمده، بدل أن تضخ الحياة فيه، وكأن هذا النص يخصها فقط، ولا يهم باقي البشر. من هنا كان ماركس، الذي ارتبطت باسمه واحدة من أكبر الاتجاهات الفكرية والسياسية في القرن العشرين، وقامت حكومات حكمت بطلانا باسم نظريته ملايين البشر، يكره الآيديولوجيا، كره العمى كما نقول، ويمجد العلم، وكان يرى مع غوته أن النظرية دائما رمادية، بينما شجرة الحياة خضراء. ولكن أتباعه اللاحقين حولوا هذا الفكر، الذي يستند أساسا الى فهم قوانين الواقع الاجتماعي والاقتصادي من أجل تغييرهما، إلى أيديولوجيا تعتلي على الواقع، وسرعان ما هزمها هذا الواقع، وكشف بطلانها، مما ألحق الضرر بهذا الفكر البريء تماما مما ركب عليه من تحليلات وأفكار غريبة عنه.

مقتل الآيديولوجيين، وسبب انحدارهم، وهزيمتهم، مهما تأخرت، هو تقديمهم الفكرة على الإنسان. وأكثر من هذا محاولات تطبيقهم القسري والعنفي لهذه الفكرة أو تلك على الواقع الغريب عنها، الواقع الصلد بحكم قوانينه هو، الذي يشق طريقه حسب منطقه الداخلي وإيقاعه اليومي غير مكترث بأحد، لا فكرة ولا نصا. والتقدم الحقيقي لا يعني شيئا سوى محاولة اكتشاف قوانين هذا الواقع، والبناء عليه، وبالتالي محاولة تغييره استنادا إلى قوانينه هو، وليس كما تشتهي رؤوسنا، وتريد عواطفنا ورغائبنا. هزيمة الآيديولوجيا كانت معركة التنويريين الكبار في التاريخ الأوروبي، وكسبوا المعركة، ولو بعد قرون من الدم والرجم والتكفير أيضا. لقد سبق هؤلاء التنويريون السياسيين المتواطئين مع الواقع، واستطاعوا أن يحولوا أفكارهم إلى قوة مادية بيد الناس. وهذا ما نحتاجه بالضبط. نحتاج الفكر الذي يهزم الآيديولوجيا المضللة، ويعيد للإنسان والواقع ثقلهما في أي عملية تقدم حقيقية.

أين المفكرون؟