غواية العدسة تعيد «الصورة» إلى ساحة الجدل السعودي

بعد أن كان المصورون يشتكون من القيود.. أصبح الجميع يشتكي الفلتان

تصوير الحياة اليومية بالجوال
TT

تعكس المسيرة المتعثرة لـ«الكاميرا» في مجتمع ممانع لثقافة الصورة، شكلا من أشكال «الدهشة» التي غالبا ما يبرع الفوتوغرافيون في تسجيلها والتقاطها. فالمجتمع السعودي الذي ظل يقاوم كل أشكال التعاطي مع الكاميرا، وما ينتج عنها من صور ثابتة أو متحركة، ويتفنن في إصدار القوانين المعيقة والمعطلة لحركة الكاميرا في الشارع والمكان العام.

مصدر الدهشة تلك أن الصورة انقلبت. رأسا على عقب. فثقافة تحريم وتجريم الصورة، والتوجس منها، تغيرت سريعا وبشكل مختلف تماما، لتنتج شكلا أقرب ما يكون لـ«الهوس» بالصورة. أصبح الشباب والشابات السعوديون الذين تشهد الأرقام أنهم الأكثر حملا للهواتف الذكية المزودة بالكاميرات، من بين نظرائهم العرب، والأكثر تسجيلا وتفاعلا مع مواقع التواصل الاجتماعي، والأكثر مشاركة في تحميل الصور والمقاطع المصورة، أصبح هؤلاء مندفعين نحو التصوير، واستخدام الصور بشكل بدا مستفزا ومثيرا و«عدوانيا» أحيانا، خاصة فيما يتعلق بانتهاك الخصوصية الفردية، وتجاوز قوانين النشر والخصوصية والملكية الفكرية.

قبل أعوام قليلة كان المصورون السعوديون يشتكون، وبعضهم تحدث هنا في هذا الملحق (عدد 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2008) عن معاناتهم مع القيود التي تحد من حركة الكاميرا. أما اليوم فالكثير يشتكي من أن شيئا لم يعد محميا ضد سطوة الكاميرا، وأن التصوير مثل كل أشكال الإعلام البديل يأخذ شكلا غير منضبط في تطبيقاته.

الناقد الفني والتشكيلي عبد الرحمن السليمان اعتبر «التحولات الحاصلة في مشهد (الصورة) بالمجتمع نتيجة لتحولات طبيعية تزامنت مع توفر الإمكانات المهيأة للعامة لالتقاط الصورة في أي مكان وأي زمان وكإحدى وسائل التعبير»، مضيفا أن «إتاحة الوسائل وإغراق الأسواق بها سيؤدي لانعدام القدرة على ضبطها». وقال: «المسألة لن تخلو من جدليتها والقوانين لا يمكن تطبيقها في حال وجودها»، مشيرا إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي في تكريس هذه الحالة الفوضوية.

وعلى الرغم من حالة المنع لالتقاط الصورة في أماكن ومواقع عامة التي كانت سائدة في سنوات مضت، بات اليوم التقاط الصورة بـ«التلصص والسرقة» أمرا مشاعا كما أفاد الفنان التشكيلي عبد الرحمن السليمان.

وأكد علي القحطاني المسؤول عن الإعلام المحلي بوزارة الثقافة والإعلام السعودية أن التقاط الصورة من أي كان لا يعفي المصور من طائلة المسؤولية في حال وجود أي شكوى، والتي إما أن تكون قد أخذت بصورة غير نظامية أو مخالفة للواقع وإما أنها لا تخدم الهدف الصحافي، الأمر الذي يترتب عليه في حال التقدم بأي شكوى سواء لوقوع الخطأ أو الضرر أو عدم أخذ الإذن تطبيق نظام المطبوعات والنشر على المسؤول.

لكن أي معيار أخلاقي يلزم شابا يافعا يحمل هاتفا مزودا بكاميرا ذات دقة عالية ومتصلة بشبكة الإنترنت من إطلاق العنان لكاميرته في البحث عن الصور والمشاهد «المثيرة» حتى لو كانت ذات خصوصية عائلية أو خصوصية اجتماعية أو خصوصية أمنية. وإذا كان مدفوعا بشهوة التصوير الإخباري الذي تمطرنا به كاميرات المتطوعين عبر القنوات الفضائية، فلن يسلم حتى شخص مصاب في حادث مروري أو جنائي من عشرات الكاميرات المتطوعة التي تسجل لحظات احتضاره عوضا عن أن تمتد لمساعدته وإنعاشه. يقول القحطاني، معلقا عن رأي وزارة الثقافة الإعلام: «إن تصوير المصاب وهو ينزف يعد انتهاكا» فالأفراد لهم حقوق معتبرة.

وأكد القحطاني أن صاحب الصورة المتضرر وبمجرد خروجها عبر أي من وسائل الإعلام، سواء المرئية أو المقروءة أو عبر المواقع الإلكترونية، فله الاحتكام بقانون المطبوعات والنشر الخاص بالوزارة أمام الجهات المعنية لما في ذلك من انتهاك لحقوق الآخرين.

الناقد السعودي الدكتور مبارك الخالدي، يشير إلى تحول في الثقافة المحلية تجاه الصورة، تحول كان سببه التطور التكنولوجي وعدم السيطرة على الصورة وتقنيتها بالتقاط أي مشهد وبثه عبر العالم في مجرد ثوان معدودة، مشبها رفع الصور عبر مواقع التواصل الاجتماعي بحالة «عرض للذات» من خلال مقتنيات الأفراد المختلفة والتي اعتبرها طريقة طبيعية لطرح الإنسان لنفسه وتلبية حاجات نرجسية ومحاولة لصنع «نجم».

في المقابل، رفض الخالدي وصف الحال الراهن بفوضى الصورة وإنما بـ«مشاعية الصورة» بحيث أصبحت مشاعة، مطالبا في الوقت ذاته بضرورة إعادة النظر في مسألة التقاط الصور في الأماكن العامة من قبل الأفراد ودراستها من بعدها الأخلاقي وليس من خلال سن العقوبات والمنع والحظر والذي بدوره سيؤدي إلى تفاقم المشكلة.

أما الدكتور فهد الطياش، أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود، فرأى أن فتح الباب أمام الكاميرات الرقمية (الواضحة أو الخفية) على مصراعيه، يؤدي لاستخدامات غير متوقعة من أفراد ضد بعضهم أو ضد مؤسسات المجتمع ورموزه، مستشهدا بالجدل الذي أحدثته صور استقبال المنتخب الأرجنتيني، إضافة إلى التقاط صورة أحد اللاعبين وعائلته في مكان عام وبثها مع ما نتج عنه من انتهاك للخصوصية.

وأشار الطياش إلى نظام مكافحة جرائم المعلوماتية الصادر في 1428ه، والذي يسن عقوبات متعددة في حال استخدام أي جهاز إلكتروني أو شبكة معلوماتية لارتكاب فعل غير مشروع.

وقال الطياش إن هناك الكثير من الصور الملتقطة أو المخزنة بطريقة غير نظامية لأغراض مختلفة كالتخويف والترويع والإزعاج المهدد للآخرين، ونشر الكراهية والتجني وتكوين وإرسال مواد مركبة تتضمن الكذب والخداع البصري، وهي جميعا ينطبق عليها قانون مكافحة جرائم المعلوماتية.

وقال الطياش: «إن استخدام الصورة لم يؤخذ بشكل جاد ثقافيا في المجتمعات العربية مقارنة بثقافات أخرى»، مطالبا بإدخال التربية البصرية ضمن المناهج ليعرف الطفل مبكرا أهمية الصور وقانونية استخدامها حتى لا يقع تحت طائلة العقاب عندما يكبر.

وفي مشاركة سابقة، قال هاني الدريعي، المصور المحترف ومؤسس مجموعة أصدقاء الضوء للتصوير الضوئي، وهي المجموعة العربية الأكبر على الإنترنت، والتي يتجاوز أعضاؤها 15 ألف مصور حول العالم: «صورنا لا تعكس كثيرا طبيعة حياتنا»، مضيفا: «نعمد وبتشجيع رسمي إلى تصوير ما لا يعكس هذه الطبيعة، فهناك تراكم من الصور عن التطور العمراني وآخر عن الزهور والبعض الآخر عن الغروب، لكن الجانب الإنساني لا يمثل إلا جزءا صغيرا من هذه الأعمال».

واليوم، فإن الصورة المنفلتة من أي عقال، والتي تلاحق خصوصيات الأفراد، هي الأخرى لا تعكس طبيعة مجتمعها.