في غياب المثقف

ميرزا الخويلدي

TT

كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يرى أن شرط المثقف هو الاشتغال بالقضايا العامة، ويعتقد أن المثقف بطبيعته إنسان مهموم بقضايا البشر، وأن مسؤوليته تتعدى حدود مصالحه الشخصية، ولذلك فقد نظر لفكرة «المثقف الملتزم». وكان الفيلسوف الإيطالي غرامشي قد تحدث عن «المثقف العضوي»، نموذجا للمثقف المنتمي لمحيطه البشري. ومنذ الثورة الفرنسية لم يروج المثقفون العرب بضاعة كبضاعتهم المستوردة عن دور المثقف، ومكانته، وحريته، وعلاقته بالسلطة.

لكن عند الامتحان، تساقط المثقفون كأوراق الخريف، فلم تتبدل «النخبة» وتنقلب على مبادئها فحسب، بل إن المثقف في كثير من حالاته أصبح جزءا من المشكلة. فهو عنصر مثير للهزيمة، ومحرض على العنف، وداعية للعصبية، ويتعامل مع المرأة بدونية، ومع الآخر بفوقية، ومع منتجات الحضارة بسطحية، ومع العصر الذي يعيش فيه بهامشية.

ليس الشعراء وحدهم الذين أتخموا العالم بالعصبيات القبلية منذ حروب داحس والغبراء حتى شعراء مسابقات الملايين، هناك المفكرون والكتاب والفنانون الذين لم يكتفوا بلعب دور سلبي، بل إن بعضهم يؤدي دورا مدمرا لقيم طالما ارتكزت عليها الثقافة وأسست بنيانها، مثل: العدالة والتسامح والتعايش والحرية والنقد الحر والهادف.

ثمة انقسامات في عموم المشهد العربي لا يكتفي المثقفون بالتفرج عليها، بل إن بعضهم يزيد النار زيتا، بدخولهم الأعمى حلبة الصراعات ومساهمتهم في تكريس ثقافة القطيعة والانقسام والاحتراب، وثمة مثقفون تغافلوا عن مسؤوليتهم في صيانة وحدة بلادهم ومجتمعاتهم، وتعميم ثقافة السلام المدخل الطبيعي للبناء وتشييد الحضارات، وممارسة دورهم في تعميم ثقافة الحوار والتواصل وردم الفجوة بين التباينات والانقسامات التي تفرزها السياسة أو تصنعها الأيديولوجيات، أو تراكمها الأهواء والمصالح، لكنهم ينكفئون حتى ليبدو غيابهم مريبا ومتواطئا ومتهما.

نفتقد اليوم دور المثقف الذي يمكنه أن يبني جسور التواصل في مجتمعات ابتليت بالانقسامات حدا لا يطاق، في تونس، ومصر، والعراق، والخليج. وأصبح بعض تلك الانقسامات مهددا للتنمية، ومعيقا لمشروع الدولة، ومدخلا لتسلل الخارج.

بعض المثقفين يكتفون بالفرجة. وهذا أهون الشرور، لكنهم بهذه السلبية يعزلون أنفسهم، وبعضهم متواطئ مع الثقافة السائدة لا يود المغامرة بمخالفتها. لكن، كيف يمكن للمثقف أن ينتج خطابا عاما وعابرا للحدود وهو منكفئ داخل محيط القبيلة، والجماعة، والطائفة؟. كيف يمكن للمثقف أن يحمل رسالة التنوير وهو ظلامي يسعى لاستثارة الغرائز والعصبيات، وتعميم ثقافة القطيعة؟.

في مثل هذا الوضع العربي المضطرب تأتي الحاجة للمثقفين لكي يحررونا من ثقافة القطيع التي تجعلنا نتبع الأصوات الأكثر استجابة للغرائز وليس العقل والمنطق. وتجعل من فكرنا رهينة بيد رجال القبيلة / الطائفة، تقودنا من هاوية لأخرى، ومن فشل لآخر.

في لبنان رجل شجاع ونادر اسمه السيد هاني فحص. رغم كونه رجل دين يمتلك الصفات اللاهوتية لرجال الدين، ورغم كونه مثقفا رصينا ووازنا، فهو أيضا رجل متميز بشجاعته، اختار – رغم سطوة الفكر النسقي السائد – أن يكون حرا وأن يخرج من أسر الجماعة، والطائفة، ويتبنى خيارات حرة تنسجم فقط وقناعته وضميره، وليس استجابة لضغط الحشد والجماعة، ولذلك فقد اشتغل على مشاريع فكرية وسياسية همها الأكبر أن تعبر فوق الانقسامات وأن تتجرأ على التعبير عن خياراتها، وأن تنظر بعين واحدة وميزان واحد للمجتمع البشري. القليل من أمثال هاني فحص ينتج كثيرا من التواصل وبناء الثقة.