فؤاد حمزة.. عودة للذاكرة الوطنية بعد عقود من الرحيل

مستشار الملك المؤسس وصاحب الأدب الرفيع

فؤاد حمزة في شبابه (دارة الملك عبد العزيز: مجموعة فؤاد حمزة الخاصة)
TT

قبل أكثر من ستة عقود رحل فؤاد أمين حمزة في بيروت بعد سنوات من العمل بالرياض في حلبة العمل الدبلوماسي والبحث العلمي والأدبي بدأها عام 1926. مع الملك عبد العزيز في بداية تأسيس الدولة السعودية، حين كانت الدولة الناشئة بحاجة إلى مؤهلين وخبراء لمرحلة التأسيس. كان حمزة بجوار الملك المؤسس مستشارا خاصا وعاملا كبيرا لتصريف شؤون مملكته الواسعة، جامعا بين العمل الدبلوماسي، والأدب الرفيع والثقافة الواسعة وامتلاك ناصية البيان، كما عبر عن ذلك الباحث فهمي عقل الذي قابله وتعرف عليه. وقد ترك سفرا خالدا من المؤلفات والمخطوطات من النوادر والنفائس في مختلف العلوم والآداب.

وقبل خمس سنوات أهدى الدكتور عمر بن فؤاد حمزة نجل الدبلوماسي والسفير والأديب والمؤلف الراحل دارة الملك عبد العزيز مجموعة من الوثائق التاريخية الوطنية المهمة التي كانت بحوزة والده. وأهدى الدارة مكتبته التي بلغ عدد كتبها 1257 عنوانا، وتحتوي على مجموعة نادرة ونفيسة، كما أثرى المكتبة التاريخية بمؤلفات قيمة كانت من بواكير الرصد والتوثيق ذات المرجعية الأصيلة للتاريخ الوطني.

لقد نال الراحل ثقة الملك عبد العزيز، وهو ما جعله يتفانى في الولاء للملك والإخلاص والتفاني في عمله، حتى أحبه الملك وقدّره كما قدّر آراءه السديدة، ومشورته الحكيمة، فصار أحد ثقات الملك عبد العزيز وخاصته، يخلص في الرأي ويصدق القول ويحسن القرار بما يتصف به من بعد النظر في الأمور، وعمق غوره، وخبرته المتنامية مع مرور الوقت. ويكفي أن يجعله الملك مبعوثه للأمم والدول ممثلا للمملكة العربية السعودية. ومن علائم ثقة الملك عبد العزيز بفؤاد أمين حمزة دون غيره من الكتاب، سماحه له بأن يروي على لسانه (قصة استرداد الرياض). فكان الملك عبد العزيز يملي عليه تفاصيل القصة بما فيها من مفاجآت وتغيرات واستراتيجيات، وكان فؤاد حمزة يدون، ثم سمح له بنشرها في كتابه (البلاد العربية السعودية)، لأنه يرى في فؤاد حمزة الرجل النقي السريرة الأمين فيما يعهد له من الأسرار، فقد كان دقيقا في نقل الخبر والحدث عشقا للحقيقة ورغبة فيها.

وقد أثرى فؤاد حمزة المكتبة التاريخية الوطنية بثلاثة مؤلفات قيمة، كانت من بواكير الرصد والتوثيق ذات المرجعية الأصيلة والقوية للتاريخ الوطني تحوي إحصاءات مبكرة عن الخدمات والسكان وتاريخ بعض مؤسسات السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية بما يشبه توثيق مكونات السياسة المحلية السعودية في ذلك الوقت.

وأول هذه الكتب، كتاب (قلب جزيرة العرب)، وطُبع طبعته الأولى عام 1933. وبدأ الكتاب بوصف جغرافي للمملكة العربية السعودية والمكونات الطبيعية والجيولوجية لها، والحدود والسواحل، وأحوال السكان، وقدم جدولا مفصلا للقبائل العربية في المملكة العربية السعودية، كما احتوى الكتاب عرضا وتوثيقا للشؤون الإدارية والأوضاع الحكومية، وبعض الأحداث في تاريخ الملك عبد العزيز، وهو الكتاب الوحيد من كتبه الثلاثة الذي استند في مادته إلى مراجع عربية وأجنبية كانت قد كتبت عن الدولة السعودية.

وكتابه الثاني هو (البلاد العربية السعودية) وهو كتاب ألّفه فؤاد حمزة حين كان يشغل منصب وكيل الشؤون الخارجية في الدولة السعودية، وتطرق فيه إلى التاريخ الشخصي للملك عبد العزيز ونسبه وبعض عاداته الخاصة في المأكل والمشرب والنوم والصلاة والقراءة كما وصف بعض مقتنياته الخاصة والأوسمة التي نالها من دول عربية وغربية. وتطرق فيه أيضا إلى تاريخ الأسرة المالكة والبلاط الملكي ـ كما سماه - وإلى السيرة الشخصية لولي العهد النائب العام الملك فيصل بن عبد العزيز، ورحلاته خارج السعودية. وفي جانب آخر ركز الكتاب على بعض السمات الدبلوماسية من خلال تطرقه لوزارة الخارجية والمعاهدات الثنائية السعودية أثناء وبعد توحيدها، والقنصليات السعودية في الخارج، كما تطرق لوزارة الداخلية من حيث النشأة وعرض موادها التنظيمية، وفصّل معلومات إحصائية عن وزارة المالية ووزارة الدفاع والقضاء، وبعض الخدمات العامة التي لمّا بعد تنشأ لها وزارات مثل: الصحة والتعليم والبريد والتلفون واللاسلكي والمواصلات والطيران وغيرها.

أما الكتاب الثالث فهو (في بلاد عسير)، عام 1951. وكتبه فؤاد أمين حمزة في أعقاب رحلة قام بها إلى نفس البلاد سجل خلالها مرئياته ومذكراته اليومية حتى جمعها وأضاف عليها بعض المعلومات التفصيلية وضمها فيه، وتحدث فيها عن السمات القبلية لمناطق عسير وعاداتها الاجتماعية وأوديتها وجبالها وأهم الأحداث الحربية التي وقعت فيها متطرقا إلى جوانب تاريخية لكل منطقة.

وترك الراحل مجموعة كبيرة من الصور الأصلية أغلبها التقط خارج السعودية نتيجة عمل فؤاد حمزة في السلك الدبلوماسي، حيث وثقت جانبا من زيارات الملك سعود بن عبد العزيز لمصر وفلسطين وشرق الأردن وبريطانيا، وزيارات الملك فيصل بن عبد العزيز إلى أوروبا وروسيا ومشاركته في مؤتمر في الخارج عن فلسطين الذي عقد عام 1939. كما ضمت الصور توثيقا للنشاط الدبلوماسي السعودي والجهود السياسية المختلفة بما فيها الزيارات الرسمية لبناء أطر السياسة السعودية الخارجية، ويظهر فيها فؤاد بن أمين حمزة مرتديا الزي السعودي وأحيانا يحمل على صدره نياشين وأوسمة تقلدها تقديرا من رؤساء الدول للمملكة العربية السعودية، ويصحبه في الصور بالأبيض والأسود عدد من الدبلوماسيين من الشرق والغرب كان قد زار دولهم، وستقوم الدارة بترميم بعضها وإضافتها لأرشيف الصور لديها تحت اسم «مجموعة فؤاد حمزة الخاصة».

وتحتفظ دارة الملك عبد العزيز ضمن موجودات الراحل فؤاد حمزة بـ26 مخطوطة من النوادر والنفائس في مختلف العلوم والآداب على رأسها العلوم الشرعية والتاريخ والشعر واللغة العربية بعلومها المختلفة، وقد قامت الدارة بترميمها بأحدث الوسائل وتغليفها وتجليدها وأضافتها لمجموعة المخطوطات لديها التي تتجاوز 3 آلاف مخطوطة، وشملت هذه المجموعة مخطوطة نادرة جدا هي (نشر الثناء الحسن المنبئ ببعض حوادث الزمان من الغرائب الواقعة في اليمن) لإسماعيل بن محمد الوشلي، وهي بخط المؤلف، وتغطي المخطوطة أحداثا تاريخية خلال الفترة من 1287هـ وحتى 1356هـ، ووجدت على هوامش بعض صفحاتها تعليقات وختامات بخط يد الأستاذ فؤاد أمين حمزة، كما شملت المجموعة مخطوطة لديوان (سقط الزند) للشاعر أبو العلاء المعري، ومخطوطة في الفقه بعنوان (الأحكام المتضمنة لفقه أئمة الإسلام) ومخطوطة (غنية ذوي الأحكام بغية درر الأحكام) لمؤلفه حسن بن عمار الشرنبلالي بتاريخ 1659، ونسخت عام 1706 بيد أحمد بن علي بن خلاف المنوفي، ومخطوطة لديوان شعر شعبي للشاعر (أحمد الصالح لبسام)، ومخطوطة في اللغة العربية (منهج السالك في ألفية بن مالك) لمؤلفها علي بن محمد الأشموني 1495، ومخطوطة (فتح القدوس لمغلقات القاموس) لمؤلفه عبد الرحمن بن عبد العزيز العمري التادلي، ومخطوطة (أطواق الذهب في المواعظ والخطب) لمؤلفها محمود بن عمر بن محمد الزمخشري سنة 1075 المنسوخة في 1878، إلى جانب مخطوطة (الإعلام بأعلام بيت الله الحرام) لمحمد بن أحمد بن محمد النهروالي نسخت عام 1719. وغيرها من المخطوطات التي ستكون إضافة للمكتبة التراثية والعلمية في السعودية.

توفي فؤاد أمين حمزة في بيروت عام 1952 وهو على رأس عمله في خدمة بلاده مخلصا لآخر يوم في حياته للأمانة التي ولاها إياه الملك المؤسس عبد العزيز ليترك قدوة حسنة عبر التاريخ لرجل مخلص وأمين وصادق مع نفسه قبل كل الآخرين، لكنه لم يمت في الذاكرة الوطنية فقد ترك مؤلفات تسر المؤرخين، فما من مؤرخ عن تاريخ السعودية إلا ويذكر أسماء مثل: حافظ وهبة، وفؤاد حمزة، وخالد القرقني، ويوسف ياسين، كما أنه خلف عقبا ممتد الصلة بوطنه وعلى رأسهم الدكتور عمر فؤاد حمزة الذي عاش لحظة تاريخية كبيرة حين تقلد يوم الثلاثاء الماضي وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، من يد الأمير سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، وهو الوسام الذي أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بمنحه إياه، تقديرا لما قدمه من مواد تاريخية ثمينة لها علاقة بالتاريخ السعودية مما كان يحتفظ به والده فؤاد حمزة.