غياب الرواية السياسية

ميرزا الخويلدي

TT

هل حقا كان لرواية توفيق الحكيم «عودة الروح» التي صدرت عام 1933 أثر في إلهام الضباط الأحرار في مصر لكي يفجروا ثورة 23 يونيو 1953؟ هل قرأ عبد الناصر ورفاقه تلك الرواية فقرروا من فورهم أن ساعة الثورة أزفت؟!

بعد ثورة الضباط في يونيو (حزيران)، بـ60 عاما استيقظ المصريون على ثورة أخرى في موجة الربيع العربي، وقيل إن رواية أخرى كتبها محمد سلماوي تسمى «أجنحة الفراشة» كانت باعثا للأمل في نفوس الشباب الذين فجروا ثورة يناير. وأنها أعطتهم للمرة الأولى شعورا بأن قواهم الضعيفة يمكنها أن تحدث التأثير العاصف الذي يصنع التغيير.

يمكن المجادلة في حقيقة التأثير الذي تركته الروايتين، على الرغم من أنه لا شيء يولد من فراغ، ودائما كانت الأحداث الكبيرة نتيجة «وعي» متدفق من أفكار عميقة. لكن ما لا يمكن المجادلة فيه أن الأدب الروائي العربي الذي يتناول الصراع السياسي يكاد يكون معدوما وشحيحا. فهذا التراث الروائي لا يكاد يجد مساحة للرواية السياسية، خاصة فيما يرتبط بالزمان والمكان لتصبح شاهدا على عصرها وليس مجرد تهويمات في عوالم افتراضية، على نحو «كليلة ودمنة».

الشعر فعلها، فهناك أشعار كثيرة في الجانب السياسي، يجري استعارتها في الأحداث الساخنة، على نحو: «إذا الشعب يوما أراد الحياة»، و«أتعلم أم أنت لا تعلم.. بأن جراح الضحايا فمُ»، و«أخي جاوز الظالمون المدى»، لكنها تصطبغ برومانسية الشعراء، لا ضير عندها إن غنت أم كلثوم «والله زمان يا سلاحي اشتقت لك في كفاحي».

لكن الرواية السياسية هي الفنّ الغائب، على الرغم مما يموج به العالم العربي منذ ما قبل عهود الاستقلال وقيام الحكم الوطني، وما بعده، حيث لم يمتلك كثيرون شجاعة الطرق على أبواب الطغاة وكشف حقيقتهم وتعرية سلوكهم، وفضح فسادهم. ودائما ما كانت الشكوى من انعدام الحرية، لكن متى كانت الحرية متوفرة لأي جنس من الإبداع؟ وهل كان الأمر أحسن حالا للروائيين العباقرة الذين تناوبوا على كشف المستبدين وتعرية سلوكهم في أميركا اللاتينية. هناك حيث برع ثلاثة من الأدباء في أميركا اللاتينية في تقديم أعمال روائية قوية وشجاعة، ومليئة بالتفاصيل، ولديها الرؤية الفلسفية، وتمتاز بجودة عالية حصلت كلها على جوائز نوبل للآداب، وكلها مثلت نهضة في الأدب السياسي العالمي.

روائيون مثل الأديب والشاعر والصحافي الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس، الذي كتب رواية «السيد الرئيس» التي صدرت عام 1946، وتناول فيها سيرة «كابريرا» الذي حكم بلده غواتيمالا لـ20 سنة حكما ديكتاتوريا غاشما، مرسخا القمع والخوف والفساد. والكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي قدم رواية «خريف البطريرك» الصادرة عام 1975. والروائي والصحافي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي قدم رائعته «حفلة التيس» التي صدرت في عام 2000، ونجح من خلالها في ترصد ديكتاتور الدومينيكان «تروخيو» الذي حكم بلاده 31 عاما بالقهر والجبروت والإذلال.

هذه تجارب ثلاث لم يعد الحديث عنها باعتبارها أعمالا روائية، بل قصة كفاح ونضال شعوب مقهورة شقت طريقها للخلاص، هي أيضا سيرة تفصيلية وتشريحية لحياة الحكام المستبدين وفلسفتهم في ممارسة السلطة ووسائلهم في احتكار الثروة، وكيف ينظرون إلى شعوبهم بازدراء واستعلاء. هل يعقل أن الأدب العربي الحديث لا يوجد فيه مثل هذه النظائر من الروايات على الرغم مما يحتويه الواقع العربي من صراعات واحتقانات مماثلة؟ هل كان الأدباء ينظرون لأنفسهم أنهم عديمو الجدوى والتأثير، تماما كما ينظر لهم الحكام؟ في رواية «حفلة التيس» يبدي الديكتاتور «تروخيو» رأيه في الأدباء والمثقفين، واضعا إياهم في أدنى درجات السلم الاجتماعي، يقول: «في السلم الاجتماعي، وحسب ترتيب الجدارة، يحتل العسكريون المقام الأول، فهم يؤدون الواجب، وقلما يتآمرون، ولا يضيعون الوقت. وبعدهم يأتي الفلاحون، في منشآت تكرير السكر وفي أكواخ القرى، ففي مصانع السكر تجد ناس هذه البلاد الأصحاء، العاملين، والشرفاء. وبعد ذلك الموظفون، فالمقاولون، فالتجار. أما المتأدبون والمثقفون فهم الأخيرون، بل إنهم وراء رجال الدين».