المجلات الأدبية تنازع البقاء وازدهار المواقع الإلكترونية الثقافية

مثقفون يختلفون حول مستقبلها في ظل ثورة المعلومات والمستحدثات التكنولوجية

TT

على الرغم من خصوصية الظاهرة الثقافية، بمعناها الضيق، باعتبارها ظاهرة تتمتع باستقلال نسبي عن بقية البنى التحتية التي تحكم المجتمع، فإنها بالطبع ليست معصومة على التأثيرات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية الهائلة التي تجتاح عصرنا، وبشكل خاص الثورة المعلوماتية، التي تجسدت أكثر ما تجسدت بوسائل الاتصال الحديثة، والفضاء الحر المفتوح للجميع، وأثر ذلك على الوسائل التقليدية لنقل المعرفة، ومنها الصحف والمجلات. ومن هنا نلاحظ في الفترة الأخيرة انحسار قسم من المجلات السياسية والثقافية، خاصة الأخيرة. والمثال الأقرب لذلك، وقد لا يكون الأخير، هو توقف مجلة «الآداب» اللبنانية العريقة، التي كانت، إلى جانب مجلة «الأدب»، التي توقفت قبلها بكثير لأساب مختلفة، بعد أن كانت المجلة المركزية العربية الأولى، ويعود إليها الفضل في نشر الأدب العربي الحديث، وفي شهرة رواد هذا الأدب كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وغيرهم. ومقابل هذا الانحسار للمجلات الثقافية العربية، تزايدت أعداد المواقع الإلكترونية المهتمة بالشأن الثقافي، التي يؤسسها أدباء ومثقفون يشرفون بأنفسهم على تحرير موادها.

هل نشهد، إذن، عصر اختفاء المجلات الثقافية الورقية، على الأقل عربيا؟ هنا تحقيق عن ذلك بإسهام رؤساء تحرير لعدد من المجلات الثقافية العربية الورقية، وكذلك الإلكترونية، بالإضافة إلى كتاب ومحررين.

من مصر، يرى مجدي العفيفي، رئيس تحرير جريدة «أخبار الأدب» المصرية، أنه يستحيل أن تطغى وسيلة إعلامية على أخرى، فعندما ظهر التلفزيون تنبأ الكثيرون باختفاء الراديو، وعندما ظهرت القنوات الفضائية توقعوا انتهاء الصحافة، وعندما برزت الصحافة الإلكترونية توقعوا اختفاء الصحافة الورقية وهو ما لم ولن يحدث، فالثقافة الإلكترونية مؤقتة لا تتعامل معها إلا شريحة بعينها وليست جماهيرية مثل الصحافة الورقية والمجلات الثقافية.

ويؤكد العفيفي، وهو شاعر وكاتب صحافي، أن الدوريات الثقافية سواء كانت جريدة أو مجلة هي الأنقى والأطول عمرا والأبقى فكرا وأثرا، فالمواقع الإلكترونية ليست لها ذاكرة ويمكن أن تنتهي بسرعة، أما المجلة أو الدورية فهي تقرأ في أي وقت ومكان، مشيرا إلى أن المجتمع في مرحلة يحتاج فيها إلى التنوير أكثر من «التثوير»، فجميع الوسائل الثقافية يجب أن تقوم بدورها في تنوير المجتمع خصوصا بعدما أثبت الساسة فشلهم في ذلك.

ويستطرد العفيفي «ليس كل مواطن بقادر على التعامل مع الوسائل الإلكترونية الحديثة، مما يجعل الاعتماد الكلي عليها غير مجد، فرغم أن المثقف أو المبدع في الوقت الحالي اختلف بشكل كبير عن الماضي، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي كـ(فيس بوك) و(تويتر) مصادر ثقافية مهمة إلا أنه في النهاية جمهورها محدود ولا يتعامل معها سوى شرائح محدودة».

ويوضح العفيفي أنه على الرغم من أن التمويل من العوامل المؤثرة في مسيرة الدوريات الثقافية والتي يمكن أن تحدد بقاءها من عدمه، فإنه يجب أن يُنظر إلى العملية الثقافية على أنها ليست ربحية أو اقتصادية، فمعيار نجاح الدوريات الثقافية لا يقاس بمعادلات الربح والخسارة المادية، وإنما بدورها التنويري والثقافي في المقام الأول. ويضيف «يحزنني أن أرى الصفحات الثقافية في الجرائد العامة المصرية والعربية تظهر على استحياء، وأن تكون النظرة العامة للثقافة على أنها تكميلية وليست تنويرية وجوهرية، فانفراط الأخلاق في المجتمع ناتج عن غياب الوعي الثقافي في المجتمع».

لكن في ظل المنافسة في السوق الإعلامية بصفة عامة وفي الإنتاج الثقافي الإلكتروني والمطبوع على وجه الخصوص، هل تحرص الدوريات الثقافية على تجديد دمائها، وتقديم كل ما هو جديد ومهم للقارئ؟ عن هذا يقول العفيفي «من خلال تجربتي في رئاسة تحرير جريدة (أخبار الأدب) منذ ثمانية أشهر، حاولت التجديد في مضمون الجريدة من خلال الاتجاه بها إلى عامة الجمهور ولم تعد مقصورة على شريحة بعينها تتمثل في النخبة الثقافية، فنحن نهتم بتقديم الثقافة للملايين ولا نحجر على رأي أو فكرة، لذا قمنا بتنحية التصنيفات المنهجية الضيقة جانبا مقابل إبراز الآراء المختلفة والمتعددة».

ويوجه العفيفي النصيحة إلى أصحاب المواقع الثقافية عبر الإنترنت إلى أن تتجه بموادها الثقافية للجمهور في القرى والأقاليم، خاصة أن معظم المبدعين في التاريخ العربي جاءوا منها كيوسف إدريس وطه حسين، بالإضافة إلى أن الناس أصبحوا يملون من الأخبار السياسية ويميلون إلى الثقافة بمعناها الشامل. ورغم تحذير رئيس تحرير «أخبار الأدب» من الاعتماد على المواقع الإلكترونية الثقافية كمرجع في الأبحاث والدراسات بشكل أساسي نظرا لوجود الكثير من التلاعب في موادها وكونها غير موثقة، فإنه أبدى إعجابا بعدد من المواقع الثقافية الإلكترونية التي تقدم مواد مهمة مثل موقع «ديوان العرب» الذي يهتم بمعالجة العديد من الأمور الثقافية، وموقع «القصة العربية» و«موسوعة الشعر» اللذين يحتوي كل منهما على دراسات وإنتاج من مختلف أنحاء الوطن العربي.

* أبو جليل: المستقبل للإلكتروني

* أما الروائي حمدي أبو جليل، رئيس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة» التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، فيقول «أتوقع أن تحل المواقع الثقافية محل المجلات الإلكترونية في السنوات القادمة خصوصًا مع ثورة الاتصالات والتقنيات الحديثة التي تسيطر على الجمهور العربي، فأنا من المتحمسين للإنترنت كوسيلة لتلقي المعلومات، وأتوقع أن يكون كالتليفون المحمول في الفترة القادمة والذي أصبح متداولا بين جميع الأفراد». وأشار إلى أن «الأمية لا تؤثر على مستقبل المواقع الإلكترونية الثقافية، فجمهور الصحافة بصفة عامة والصحافة الثقافية على الأخص من المتعلمين والمثقفين والذين من المتوقع أن يستبدلوا المواقع الثقافية الإلكترونية بالمجلات الثقافية، وسيصل الناس إلى مرحلة من الاقتناع بأن الإصدارات الورقية لم تعد لها أهمية».

أما عن طبيعة المضمون في كل من المجلة والموقع الثقافي فيقول أبو جليل «المضمون في المجلة لا يختلف عن نظيره في الموقع الإلكتروني خصوصا تلك التي لا تهتم بالمتابعات الإخبارية اليومية، ففي موقع مجلة الثقافة الجديدة نقوم بتنزيل العدد بصيغة (بي دي إف) آخر الشهر بعد الانتهاء من توزيع النسخ الورقية». وفي الحديث عن المجلات التي تقوم بتنزيل العدد على موقعها وقت التوزيع كمجلة «الدوحة» يقول أبو جليل «أعتقد أن ذلك يؤثر سلبا على مبيعات المجلة، فالقراء سينصرفون عن شراء العدد الورقي ومتابعة العدد في نسخته الإلكترونية».

وأوضح أنه يحرص على متابعة المواقع والمدونات الثقافية الإلكترونية كقارئ وككاتب أيضا، ومن أبرزها المدونات الشخصية لعدد من شباب الكتاب وموقع «كيكا»، و«جهة الشعر»، بالإضافة إلى مواقع الجرائد العامة المهتمة بالشأن الثقافي، مشيرا إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا الـ«فيس بوك» قد أنهت مرحلة المدونة والموقع الشخصي في اعتقاده لأنها قامت بالأدوار التي يقوم بها الموقع والمدونة الشخصية.

ويرجح أبو جليل أن يكون عدد المتابعين للمجلات الثقافية عبر الإنترنت وموقعها الإلكتروني بصفة خاصة أكثر بكثير من عدد مبيعات المجلة الورقية، ضاربا المثال بمجلة الثقافة الجديدة التي يصل عدد المتابعين لها على موقع «فيس بوك» إلى ما يقرب من 3 آلاف فرد، وفي حالة استجابة عدد كبير منهم للمادة المنشورة بموقع المجلة ونشرها مع الأصدقاء يصبح قراء المادة الصحافية أكثر من عدد النسخ المطبوعة من المجلة الورقية.

* الشافعي: واقع لا بد منه

* أما الكاتب الصحافي محمد الشافعي، رئيس تحرير مجلة «الهلال» الشهرية، فيقول «النشر الإلكتروني أصبح واقعا مهما لكنه لا يمكن أن يكون بديلا عن المجلات والدوريات الثقافية حيث لا يمكن لمجلة تمتلك تاريخا عريقا كمجلة (الهلال) ولها دور ورسالة ويقرأها جميع المثقفين العرب من المحيط للخليج أن تتلاشى وتنتهي، فالقضية ليست في وجود المواقع الثقافية الإلكترونية لكنها في كيفية تطوير هذه الدوريات والمجلات الورقية لمضمونها بما يتناسب مع طبيعة المرحلة وطبيعة الجمهور الذي تسعى لاجتذابه إلى قراءة المجلة». ويستطرد «لا يوجد أي خوف على المجلات الثقافية من الاندثار، ففضلا عن نسبة الأمية الأبجدية الموجودة في المجتمع فهناك شرائح كبيرة منه لا تجيد استخدام التكنولوجيا الحديثة ولا تعتمد عليها بشكل جوهري، مما يجعل الاعتماد على المواقع الثقافية الإلكترونية مقصورا على شرائح قليلة من المجتمع».

وأوضح الشافعي، الذي يرأس تحرير مجلة من أقدم المجلات الثقافية، أن الخسائر المادية ومشاكل التمويل تدفع العديد من المثقفين إلى التخلي عن إصدارها الورقي والاكتفاء بالموقع الإلكتروني، مطالبا المثقفين باحتضان المجلات الثقافية الهامة كمجلة «الهلال»، وغيرها لأنها إحدى القوى الناعمة في المجتمع، فكما تحصل المجلات الثقافية في دول الخليج على دعم الدولة لها لكي تستمر مثل مجلة «الدوحة» في قطر ومجلة «العربي» في الكويت، يجب أن تلاقي المجلات الثقافية المصرية الاهتمام ذاته من الدولة والمثقفين.

أما عن مدى تأثير المواقع الإلكترونية الصادرة عن دوريات ثقافية على مبيعات هذه الدوريات، فرأى الشافعي أن ذلك يعتمد على كيفية إدارة الموقع، فعند وضع مادة المجلة كاملة على الموقع فإن ذلك سوف يقلل من مبيعاتها، أما في حالة إدارة الموقع الإلكتروني للدورية بطريقة أكثر ديناميكية والاعتماد على الأخبار اليومية خصوصا مع المجلات الأسبوعية والشهرية فإن ذلك سيعزز من مبيعات المجلة الثقافية.

وقال الشافعي إن التطوير الدائم في محتوى المجلات الثقافية هو الضامن الوحيد لاستمراريتها وزيادة أعداد قرائها، وهو ما حاول تطبيقه على مجلة «الهلال» من خلال تطوير أبواب الجريدة واستحداث عدد من الأبواب مثل «العروبة وطن» الذي يركز على الثقافة العربية، و«جسور» الذي يهتم بالثقافة العالمية، و«عيون على صهيون» الذي يركز على الآلية التي يفكر بها الصهاينة، مشيرا إلى أن هذا التطوير أسهم في تلبية احتياجات المثقفين ورفع توزيع مجلة «الهلال» في الشهور الأخيرة.

* عبد العليم: لا شيء يلغي آخر

* الروائي أحمد عبد العليم يرى أن المواقع الإلكترونية قد تقلل من مبيعات المجلات الورقية، من دون أن يعني ذلك أن مَن يتابع الموقع لن يشتري المجلة بالضرورة، خاصة بعض القُراء الذين لا يجدون متعة إلا في القراءة الورقية فقط. وأشار إلى أنه يحرص على متابعة موقع «أخبار الأدب» لأنه يقدم وجبة ثقافية دسمة من آن لآخر، بالإضافة إلى الأقسام الثقافية في الجرائد المصرية حيث يغنيه ذلك عن متابعة المواقع الثقافية الإلكترونية. وأوضح أن أكثر ما يجذبه في المجلات والجرائد الثقافية خصوصا جريدة «أخبار الأدب» هو عمق المحتوى المعروض في المجلة خاصة في الآراء النقدية، بالإضافة لشموليتها في الاهتمام بأدباء الأقاليم المختلفة خارج العاصمة، مرورا بأدباء النخبة ونهاية بأدباء العالم.